حدث ذلك يوم 14 أغسطس (آب) 1975، ففي ذلك اليوم ودعت العاصمة السوفياتية موسكو واحداً من كبار موسيقيي العالم ومن كبار فنانيها على الإطلاق. وكان وداعاً للراحل الكبير شارك فيه ليونيد بريجنيف شخصياً محاطاً بكبار رسميي الدولة، ناهيك بكبار الفنانين وبأسرة الفقيد، بيد أن كبار مسؤولي الدولة لم يكتفوا يومها بالحضور شخصياً، بل أصدروا بياناً وقعه سيد الكرملين وكبار رجالات الدولة ينعون فيه الراحل بقولهم "إننا نفقد اليوم أكبر مؤلف موسيقي في زمننا هذا، الفنان والنائب في مجلس السوفيات الأعلى للاتحاد السوفياتي، بطل العمل الاشتراكي، فنان الشعب السوفياتي والابن الأمين للحزب الشيوعي". والحقيقة أن تلك التوصيفات لم تفاجئ أحداً فديمتري شوستاكوفيتش كان بالفعل فناناً كبيراً، وكان بالفعل خلال السنوات الأخيرة من حياته الابن المدلل للوطن بشعبه ومسؤوليه، ولكن إن كان ثمة مفاجأة فإنها كانت في مكان آخر وفي زمان آخر. زمان لا يبتعد سوى أشهر قليلة عن يوم الوداع الأليم ذاك. فما لم يكن يعرفه الناعون يومها هو أن شوستاكوفيتش كان منذ فترة يسيرة قد أنجز كتابة مذكراته وتمكن من تمرير المخطوطة إلى... الغرب! كانت المخطوطة تحمل عنواناً بسيطاً ومحايداً من الصعب أن يتمكن المرء من تخمين ما يوجد خلفه "شهادة/ مذكرات ديمتري شوستاكوفيتش". فمن ذا الذي كان يمكنه أن يحدس بأن ذلك العنوان يخفي وراءه قنبلة حقيقية موقوتة! واحدة من المرافعات الأكثر قوة التي كتبها فنان ضد سلطات بلاده؟
الطغاة وعلاقتهم بالفن
طبعاً لا يكفينا الحيز المعتاد هنا للحديث عن كل ما كان الموسيقي الكبير قد سجله سراً على أوراق كان يحرص على إخفائها حتى عن أعين أقرب المقربين منه، ولكن في مقدورنا مع هذا أن نتوقف عند لحظات معينة يمكنها أن تعطي فكرة عما يمكن أن نسميه "ثأر فنان" من ظلم تعرض له طويلاً، وتحديداً على يد من سيسميهم في الكتاب "الطغاة". وهم الذين يقول الموسيقي الكاتب بشكل مباشر كيف أنهم يحبون أن يصوروا أنفسهم كرعاة للفنون. فهم "جبناء وغشاشون" في رأيه و"يعرفون جيداً أنهم لكي يمارسوا ارتكاباتهم القذرة يكون من مصلحتهم أن يظهروا بمظهر المتعلمين والمثقفين لا بمظهر الوحوش والجهلة. يمكن لمساعديهم أن يكونوا وحوشاً بالطبع، فهؤلاء ليسوا سوى بيادق تحرك بحسب رغبات السادة، وعادة ما يكونون فخورين بوحشيتهم". وهنا لكي لا يبدو شوستاكوفيتش وكأنه يعمم ويجهل "الفاعل" ينتقل مباشرة إلى الحديث عن ستالين، "لقد التقيت كثراً من موسيقيين كانوا يؤكدون لي أن ستالين يبجل بيتهوفن. وكانوا يضيفون: صحيح أن الرجل لا يعرف شيئاً عن الموسيقى الحديثة ولكن قلة من الناس يفهمون فيها على أية حال. ففي النهاية ليس ثمة أبداً إجماع حول مثل هذه المسألة المعقدة وحتى ليس بين الموسيقيين أنفسهم. وتعرفون طبعاً أن لزعيمنا اهتمامات ومشاغل كثيرة أخرى خارج هذه الموسيقى تشفع له هذا الجهل. فهو بعد كل شيء يحب الفن الكلاسيكي. ويحب بيتهوفن مثلاً. وبالتحديد لأنه يحب كل ما هو مرتفع، الجبال مثلاً، وبيتهوفن كما نعرف مرتفع، ولذلك يبجله".
تباً للبجع أهلاً بالسيمفونية التاسعة!
ويتابع شوستاكوفيتش هنا أنه سمع حكايات "موسيقية" كثيرة تتعلق بستالين و"ذوقه" الموسيقي، وها هو ذا يروي واحدة من تلك الحكايات، "ذات مرة للاحتفال باختتام مؤتمر للحزب تقرر كالعادة أن يقام احتفال كبير كي يتمكن المندوبون من الخلود إلى الراحة والمتعة بعد المهام النبيلة التي أدوها. وكالعادة تم وضع البرنامج ليكون منوعاً: غناء مجموعات كورس، رقصات، أنواع من التحرك الجماعي وأداء غنائي لمجموعات عديدة في وقت واحد بغية جعل القاعة كلها تهتز اهتزازاً عظيماً يشي بعظمة المناسبة. وبعد ذلك يجب أن تكون هناك أعداد هائلة من البجع الراقصات يؤدين رقصات البجع الصغيرة ثم البجع الكبيرة. بجع يمتن وبجع أخرى يشفين خلال الرقص وبفضله مما يصيبهن!". كتب البرنامج وحلت لحظة عرضه أمام ستالين كي يعدله ويوافق عليه وهو المعروف أن من هواياته تعديل كل البرامج والموافقة أو عدم الموافقة عليها. وكانت الهواية تشمل أحياناً تعديله لوائح الطعام والخمور في المطاعم الرسمية أو في أي مطعم يزوره. وهكذا ما إن قرأ الزعيم صيغة البرنامج حتى أمسك قلمه وشطب كل الفقرات المتعلقة بالبجع. وفي مكانها سجل: السيمفونية التاسعة لبيتهوفن مضيفاً بالألمانية وبخط يده "تعانقوا يا ملايين البشر! وذهل المحيطون به لكنهم في ثوانٍ تمالكوا أنفسهم مهنئين سيد الكرملين على النصيحة التي أتحفهم بها. وطبعاً كان له ما أراد".
فاغنر مبجلاً ثم مغضوباً عليه
ولئن كانت هذه الحكاية تبدو غامضة المعنى بعض الشيء، ها هو ذا الموسيقي ينتقل إلى حكاية أخرى تتعلق بفاغنر هذه المرة. فحين تم عقد الاتفاق الودي بين مولوتوف وريبنتروب (وزيري خارجية ستالين وهتلر) عشية الحرب العالمية الثانية، رغب الزعيم السوفياتي في التعبير عن وده تجاه الألمان من منطلق "إننا نحب النازيين" و"ليس لدينا شيء ضدهم". وهكذا في غمرة حملة يقول شوستاكوفيتش إنها "أدت إلى طرد كثر من اليهود من مناصب رسمية وإدارية"، إضافة إلى تسليم المئات من اللاجئين الألمان إلى هتلر، أمر ستالين بأن يكثر من تقديم أوبرات لفاغنر في طول البلد وعرضها. وفي السياق جاءت الأوامر بأن تعرض أوبرا "الفالكيري" على مسرح البولشوي في موسكو على أن يتولى السينمائي الكبير إيزنشتاين إخراجها. وهكذا صار فاغنر فجأة على الموضة، ولكن لفترة قصيرة جداً، إذ ما إن سقط الاتفاق السياسي حتى راح كل المسؤولين يكرهون فاغنر بدءاً بستالين نفسه الذي "اكتشف فجأة أن الموسيقي الألماني عضو في الحزب النازي! فراح بعد المجد الذي عرفه في البولشوي بين يدي إيزنشتاين يمنع من التداول! بعد نحو قرن من موته!".
حكاية الليدي ماكبث
ولنعد هنا على أية حال، وربما لتفسير تركيز شوستاكوفيتش على ستالين وعلاقته بالموسيقى في مذكراته، إلى واحدة من لحظات الذل الكثيرة التي سكت الموسيقي عنها طويلاً، لكن مذكراته كشفت كيف أنه لم ينسها أبداً ولم يغفر. فلقد كان اسم الموسيقي الشاب ديمتري شوستاكوفيتش قد بات معروفاً إلى حد كبير أوائل عام 1934 حين قدم العرض الأول لأوبراه "ليدي ماكبث من منسك" في قاعات الكرملين بحضور زعيم البلاد ستالين شخصياً. وكان من الواضح أن شوستاكوفيتش يبدو شديد التفاؤل يومها بتقديم عمله هناك. غير أن تفاؤله لم يدم طويلاً، إذ ما إن بلغ تقديم الأوبرا مرحلة متقدمة نسبياً حتى بدأ الامتعاض يلوح على وجه ستالين: لم يعجبه العمل.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
تعديلات ملائمة
صحيح أن الفنانين واصلوا التقديم، ولكن منذ صباح اليوم التالي بدأت أصابع الاتهام توجه إلى شوستاكوفيتش: "بورجوازي صغير"، "فرداني النزعة"، "متشائم"، وبخاصة "صاحب موسيقى شكلانية". وكان هذا الاتهام الأخير هو الأعظم في ذلك الحين لأنه كان يعني أن مقترفه هرطوقي لا يؤمن بنضالات الشعب السوفياتي، ولا بعظمة زعيمه. في وقت لاحق، وبعد نسيان طويل، سيبدل شوستاكوفيتش من منحى تلك الأوبرا ويعطيها اسماً جديداً هو "كاترينا إسماعيلوفا". أما في ذلك الحين، فكان عليه أن يتصرف بسرعة: رمى جانباً سيمفونيته الرابعة التي كان يشتغل عليها، والتي كان يمكن أن تجر عليه الويلات بدورها، إضافة إلى بعض أعماله "المتشائمة" الأخرى، وكتب سيمفونيته الخامسة التي حملها عنواناً يقول كل شيء... معلناً "توبته"، "رد إبداعي من فنان سوفياتي على النقد الصائب". وتمكن من النفاذ بجلده، لكنه لم يستعد مكانته لدى السلطات سوى سنين عدة بعد ذلك. ففي عام 1941 حين كانت القوات النازية تحاصر مدينة لينينغراد، مسقط شوستاكوفيتش، كان الفنان يعيش في المدينة. وهو تحت تأثير الحصار ووطأته كتب سيمفونيته السابعة "لينينغراد"، العمل الكبير بكل المقاييس، والذي أسبغ عليه لاحقاً شهرة عالمية، ولكن كذلك رضا ستالين، ما أدى إلى منحه تلك الجائزة السامية التي كانت تحمل اسم الزعيم .نعم لئن كان قد بدا حينها أن شوستاكوفيتش قد نسي فإن مذكراته ستقول لنا إنه أبداً لم ينسَ! وعدم النسيان هذا كان بعد أشهر قليلة من موته، المفاجأة الكبرى التي صعقت القيادات السوفياتية التي لم يكن في وسعها أكثر من أن تمنع الكتاب من التداول لكنه عرف طريقه بالطبع إلى داخل البلاد ما شكل يومها فضيحة اعتبرها عالم الموسيقى "أم الفضائح".