Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

بالقطارة... الديمقراطية كما يراها المفكر الفرنسي أليكسي دي توكفيل

مناضل ضد العنصرية والعبودية طالب بـ "محو القبائل الجزائرية" وديمومة الاستيطان

كان يقوده السعي الدؤوب للمساهمة في استعادة فرنسا مجدها الغابر وسلطتها (أ ف ب)

من المؤكد أن المرء لا يجد أية صعوبة في فهم السبب، أو الأسباب، التي تجعل اسم الكاتب الفرنسي أليكسي دي توكفيل مقروناً دائماً بمفهوم الديمقرطية. فهو، وقبل أي شيء آخر، صاحب واحد من الكتب الجدية الأولى في تاريخ الفكر الاجتماعي، بل حتى السياسي، التي حملت في عنوانها كما في مبناها مصطلح الديمقراطية. ويقيناً أننا نتحدث هنا عن كتابه المرجعي ذي الجزأين "الديمقراطية في أميركا"، الذي وضعه خلال وجوده في أميركا، واستكمله بعد عودته منها لينبه فيه قارءه الفرنسي والأوروبي إلى ما يحدث في ذلك العالم الجديد الذي كان قد أسهم هو في إنجاز ثورته التي حملت شعار حكم الأغلبية كاستمرار لـ"حلم أميركي" ما. وكان دي توكفيل يكتب ليس لمجرد الغوص في أدب الرحلات والمعرفة المدهشة التي تتوخى إبهار القارئ، بل انطلاقاً من تصور أيديولوجي همه نقل مفهوم الديمقراطية كما رصده الكاتب وعايشه في الولايات المتحدة الأميركية، إلى المجتمعات الأوروبية. ومن هنا اعتبر دي توكفيل يومها سيداً من سادة الفكر الديمقراطي وداعية من دعاة الحداثة في الفكر والحكم. ولكن، بعد كل شيء عن أية ديمقراطية كان دي توكفيل يتحدث؟

كيف نعيش التجربة؟

الحقيقة أننا إذا تبحرنا في المعاني التي يسبغها هذا الكاتب على الديمقراطية، وتحديداً على ضوء كتاباته الأخرى التي لا تقل أهمية عن "الديمقراطية في أميركا" سيصعب أن نجد أنفسنا في مواجهة ديمقراطية حديثة من النوع الذي سيسود، كثيراً أو قليلاً، في القرن التالي للقرن الذي عاش فيه دي توكفيل وكتب مؤلفاته وفي مقدمتها الكتاب الذي نتناوله هنا، وطبعاً إلى جانب "النظام القديم والثورة" و"ذكريات" و"كتابات حول الهند"، وبخاصة هنا "رحلات إلى الجزائر"، علماً بأن كل هذه الكتب وسواها من كتابات دي توكفيل إنما تعود إلى أواسط القرن التاسع عشر وكلها أتت تالية لـ"الديمقراطية في أميركا"، بمعنى أنه حين كتب نصوصه الأخرى كان قد عاش التجربة "الديمقراطية" الأميركية وكتب عنها وراح يروج لها، كما بمعنى أن كتاباته عن الجزائر أتت لاحقة على معظم كتاباته الأخرى، كما على بداية الاحتلال الفرنسي للجزائر (1831) والذي كان هو يسميه "استيطاناً" كتعبير مخفف يتضمن معنى التوطين والضم والاندماج الكلي للشعب الذي احتلت قواته العسكرية بلاد شعب آخر، أرض هذا الشعب الأخير، بالتالي كان في الإمكان تصور دي توكفيل مدافعاً عن حق الجزائريين، سكان الجزائر الأصليين، في بلادهم وخيراتها والوقوف ضد الفرنسيين المحتلين، وتحديداً على ضوء المبادئ التي تلوح في ثنايا "الديمقراطية في أميركا" فها تراه فعل؟

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

النضال ضد العنصرية

في الواقع إنه لئن كان دي توكفيل قد أعلن نفسه دائماً مناصراً دؤوباً للحرية ومناضلاً ضد العبودية والعنصرية، فإنه كان في الوقت نفسه مروجاً لا يهدأ للاستعمار الاستيطاني، حتى وإن كان يعلن دائماً أن "أسوأ وأهول ما يمكن أن يصيب شعباً ولا يبرأ منه إنما هو أن يجد نفسه محتلاً"، كما يكتب منذ وقت مبكر معتبراً أن التوسع الأوروبي، وكان ذلك الزمن زمن ذلك التوسع بامتياز، أكثر اتساعاً وأكثر استثنائية مما كانت عليه الفتوحات التي خلقت الإمبراطورية الرومانية، مؤكداً أن هذا التوسع المعاصر إنما يؤدي "إلى استعباد خمس البشرية في زمننا هذا، للأربعة أخماس الأخرى". كلام عظيم بالتأكيد ويمكن الموافقة عليه من دون تردد وجعله مدخلاً لاعتبار دي توكفيل بطلاً مبكراً من أبطال إعطاء الشعوب حقها في تقرير مصيرها، ولكن هذا المفكر يتوقف هنا ليتحدث عن "استثناء" بالغ الأهمية. ففي نصه المعنون "العمل حول الجزائر"، والذي دبجه في عام 1840 ها هو وبكل بساطة يميز الهيمنة (السياسية) التي ترتبط وتنتج عن الاستيطان، عن الاحتلال الاستعماري. كيف؟ أو بالأحرى لماذا؟ والجواب هنا نجده عند الباحثة الفرنسية المعاصرة آن آمييل التي اشتغلت على "لغة دي توكفيل" الفكرية في الكتاب الجماعي ذي الأجزاء الأربعة الذي صدر تحت عنوان "لغة الفلاسفة"، وسبرت فيه أغوار لغة دي توكفيل لتستنتج أن هذا الأخير إنما أغرق لغته في هذا النوع من التناقض انطلاقاً من نزعته القومية.

 

ديمقراطية بالقطارة

وهذه النزعة هي التي حتمت على دي توكفيل أن يرى في الاستيطان، والاستيطان الفرنسي للجزائر هنا، واحدة من الظواهر الأهم في زمنه (على قدم المساواة، كما تشير الباحثة، مع ظواهر أخرى كالمساواة في الحقوق بين البشر وتكون البشرية، وقيام الأرستقراطية الصناعية). والمفكر لا يحاول أن يخفي هذه النظرة التي ينطلق فيها بالطبع من منظور أوروبي كان سائداً في ذلك الزمن، منظور يرى أن "مجمل المسائل الأوروبية الكبرى تكمن عقدتها في أفريقيا" من ناحية، ومن ناحية أخرى أن "تحرك العرق الأوروبي في اتجاه آسيا إنما هو حراك العصر"، ناهيك بأن "المسألة الشرقية هي هي مسألة العصر"، ولنلاحظ أن كل ما نورده هنا بين معقوفتين إنما هو مستقى من كتابات وأفكار دي توكفيل نفسه كما عبر عنها في الجزء الثاني من مجموعته "كتابات سياسية".

وتعلق الباحثة آمييل على هذا كله قائلة إن ما يبدو هنا "منظوراً أوروبياً" ليس في واقعه سوى منظور فرنسي خالص. فهذا المفكر الذي قد يبدو للوهلة الأولى كوزموبوليتياً، لا يتوقف في الحقيقة عن الشكوى من الانهيار العام الذي تعيشه بلاده الفرنسية منذ عام 1763 المزامن لانهيار الإمبراطورية الكولونيالية الفرنسية الأولى، بالتالي فإن ما يقوده اليوم، أي زمن كتابته نصوصه، إنما هو السعي الدؤوب لديه للمساهمة في استعادة فرنسا مجدها الغابر وسلطتها، ولا سيما في وجه إنجلترا، ما يعني أن ما يحرك دي توكفيل هنا إنما هو هم سياسي داخلي ونزعة قومجية لا ترى غضاضة إذ تنادي بالديمقراطية أن تطبق ديمقراطية على النمط الأثيني، أي حكم ديمقراطي يتساوى فيه الأثينيون الأقحاح، ويستعبد فيه الآخرون، سواء كانوا أجانب أو نساء أو فقراء.

نحو إبادة القبائل

ويرى دي توكفيل أن هذا النمط من الديمقراطية يمكنه وحده أن يضمن لفرنسا استعادة مجدها في وجه المنافس الإنجليزي الذي لا يفعل "في الهند على أية حال سوى ما تفعله كل الأمم الأوروبية في المناطق التي تسيطر عليها خارج القارة الأوروبية". ويتابع دي توكفيل هنا غامزاً من قناة تلك الأمم الأخرى في عودة منه "تبريرية" إلى المبادئ التي كثيراً ما دافع عنها قائلاً، "مهما يكن فإن ما يثير حنقي هو أن تلك الأمم إنما تمارس ما تمارسه وهي تزعم أنها تفعل ذلك لمصلحة الشعوب التي تستعمر بلادها. والغريب في الأمر أن تلك الأمم الأوروبية لا تزعم ذلك فقط حين تتحدث إلى الشعوب المستعمرة، وليس فقط حين تتحدث إلى الأوروبيين الآخرين، بل حتى حين تتحدث في ما بينها!".

أما الجزائر وفرنسا في الجزائر فشأن آخر بالنسبة إليه: الجزائر هي القضية الفرنسية الأكبر والأهم، "الجزائر تطاول فرنسا في صميمها، تطاولها في حاضرها وتهددها في مستقبلها. ومن هنا فهي في الصف الأول من الهموم المتعلقة بالمصالح الفرنسية في العالم كله". ولا يمتنع هنا دي توكفيل بالتالي عن أن يفيدنا بأن محور اللعبة في الجزائر ليس تجارياً ولا اقتصادياً، بل هو سياسي أولاً وأخيراً. وفي هذا السياق لئن كان المفكر "الليبرالي الكبير" لا يتوانى عن إدانة الممارسات الإدارية والعسكرية الفرنسية في الجزائر بكل وضوح قائلاً إنها "ممارسات لا تقل بربرية عن ممارسات العرب"، فإنه يطالب على أية حال بـ"تدمير القبائل العربية ومحو وجودها من الأراضي التي يجب احتلالها بأكملها". وعلى هذا النحو كانت ليبرالية هذا المفكر الفرنسي الذي من ضمن مفاخر شعبه أنه قد أسهم وهو مقيم في أميركا بتحرير الأميركيين من "الإنجليز"، وطبعاً من دون أن نعرف ماذا كان رأيه في شراء العبيد من أهل أفريقيا للعمل في المزارع الأميركية مقابل حياة تفوقها راحة ورفاهية حياة الكلاب والماشية في ذلك العالم الجديد.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة