على هامش الاحتفالات بالذكرى الستين لاستقلال الجزائر، هناك حدث مركزي مر بكثير من الصمت، مع أنه حدث بارز ووازن في مثل هذه الظروف السياسية والاجتماعية التي تعيشها الجزائر وطنياً وإقليمياً وعالمياً.
الحدث هو استقبال الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون للمؤرخ الفرنسي ذي الأصول الجزائرية بنجامان ستورا Benjamin Stora. أن يلتقي رئيس دولة كالجزائر بمؤرخ كبنجامان ستورا، فهذا أمر له دلالاته السياسية والحضارية، وهو إلى ذلك غير طبيعي وغير دارج في تقاليد الدولة الجزائرية منذ الاستقلال، فقد ظل المثقف بشكل عام مهمشاً وآخر من يستأنس برأيه.
المؤرخ والباحث بنجامان ستورا يُعدّ من أهم، إن لم أقل أهم مؤرخ فرانكو جزائري، إذ فكك تاريخ الجزائر الحديث والمعاصر، فخصص حياته الفكرية كلها للكتابة عن تاريخها، وهو أحد المؤرخين الأكثر موضوعية وجرأة ودقة ومصداقية، ويحظى باحترام العامة من القراء وأيضاً من الخاصة في الجامعات ومراكز البحث في الجزائر وفرنسا على حد سواء.
ستورا مؤرخ ذو أصول جزائرية من يهود قسنطينة مسقط رأسه، وظل على علاقة بالجزائر وبالمؤرخين الجزائريين ينشط بشكل متواصل على الضفتين من دون عقدة ومن دون تغيير في الموقف، واضح في رأيه.
وبنجامان ستورا لا يُعدّ مؤرخاً فقط، بل هو المثقف الذي يصنع الحدث السياسي بهدوء ورصانة بين الجزائر وفرنسا ويوجهه من باب التحليل والرأي، لا من باب الضجيج الإعلامي أو الهرج الأيديولوجي.
وهو في كل مرة، يحدث هذا منذ أربعة عقود، كلما نشر كتاباً عن تاريخ الجزائر، أو عن علاقته بهذا البلد مسقط رأسه وبالأساس مدينة قسنطينة، إلا وترك أثراً في الساحة وخلف نقاشاً على الضفتين، نقاشاً هادئاً يدعو إلى المراجعة الرصينة والابتعاد عن الأحكام المتسرعة والكراهيات التي لا تزال الأجيال، للأسف، تتوارثها كمرض يقف حجر عثرة في وجه مستقبل مغاير قائم على علاقات جديدة إيجابية بين فرنسا والجزائر.
المؤرخ بنجامان ستورا هو صوت الحوار وصوت التجاوز والصوت الداعي إلى تقارب الشعبين الجزائري والفرنسي من دون نسيان الماضي، لكن بالبحث المتفائل عن صناعة مستقبل يمكنه أن يقلب صفحة الآلام ويفتح صفحة الأحلام للأجيال الجديدة.
بهذا المعنى، فبنجامان ستورا ليس مؤرخ الجامعة ومراكز البحث فقط، لكنه أيضاً صانع الرأي العام السياسي والفكري في الجزائر وفرنسا، له تأثير في النخب الثقافية والفكرية والجامعية في البلدين، وله أيضاً تأثير في النخب السياسية صاحبة القرار التي تجلس على هرم السلطة على الضفتين.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ولكل هذه الصفات وغيرها، كلفه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إعداد تقرير عن "الذاكرة" بين الشعبين الفرنسي والجزائري، تقرير عن "ألغام" الذاكرة وكيف يمكن تفكيكها للذهاب قدماً بالعلاقات نحو صناعة مستقبل جديد لأجيال جديدة لم تعرف الحرب ولم تشارك فيها ولم تكُن سبباً فيها، أجيال اليوم والغد التي لا تريد سوى العيش بسلام ومحبة وتعاون واحترام بين البلدين والثقافتين والتاريخين.
في المقابل، وللمهمة ذاتها، كلف الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون، مدير الأرشيف الوطني عبد المجيد شيخي إنجاز تقرير حول الموضوع نفسه أي "الذاكرة المشتركة" بين الجزائر وفرنسا، أي كتابة بحث من وجهة نظر جزائرية.
وللتذكير، أنجز المؤرخ بنجامان ستورا تقريره المطلوب حول "الذاكرة وحرب الجزائر" وقدمه رسمياً إلى الرئيس الفرنسي في يناير (كانون الثاني) 2021، في حين لم يقدم عبد المجيد شيخي حتى الآن ما كلف به، والذي اكتفى بالتعليق الإعلامي الشفوي على ما قدمه نظيره بنجامان ستورا.
وفي الوقت الذي كان الجميع في انتظار التقريرين حول الذاكرة، أملاً في فتح طريق مشترك بين البلدين والشعبين، جاء تصريح ماكرون الخارج عن اللياقة والمتعارض مع تقاليد ثقافة الدولة، الذي قال فيه إن الجزائر أمة صنعت بعد الاستعمار الفرنسي، وهو التصريح الذي أعاد العلاقة بين البلدين إلى مربع الصفر.
ولكن ما يمكن تسجيله وبوضوح هو أن المؤرخ بنجامان ستورا المكلف من قبل الرئيس ماكرون صياغة تقرير "الذاكرة"، لم يتردد في معارضة ونقد ما جاء على لسان ماكرون وتوضيح مخاطره وعيوبه على وسائل الإعلام الفرنسية نفسها، ما يؤكد استقلاليته كباحث ومؤرخ ومثقف حر، وهو أيضاً ما يجعل حضوره صادقاً وغير موسمي أو تابعاً لمؤسسة ما.
انطلاقاً من هذا البورتريه لهذه الشخصية العلمية الكاريزماتية، فاستقبال الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون له يحمل قراءات عدة ويفتح الأمل في الاستماع إلى رأي عاقل وصادق وحر، ويمكن استخلاص بعض خلفيات هذا اللقاء كالتالي:
أن يستقبل الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون المؤرخ بنجامان ستورا لمدة ساعة ونصف الساعة تقريباً، وفي ظل انشغاله بالاستعدادات للاحتفال بالذكرى الستين لاستقلال الجزائر، فهو حدث له دلالته السياسية التي مفادها بأن حل مغاليق العلاقة بين فرنسا والجزائر لا يمر فقط عبر بوابة السياسيين الذين في كثير من المرات يلعبون في ملعب "الشعبوية" لأغراض انتخابية موسمية، بل يمر أيضاً من بوابة أطروحات المثقفين والمؤرخين.
الاستماع إلى صوت المثقف والمفكر والمبدع ضرورة قصوى بالنسبة إلى السياسي صاحب القرار الأول حتى يتحرر من حصار الأيديولوجيا ويذهب في اتجاه الرمزي والحضاري.
أن يستمع الرئيس إلى المثقف هو لحظة البحث عن تغيير اللاعبين المعتادين التقليديين من أجل تقارب حقيقي وصادق وعميق بين الشعبين الفرنسي والجزائري، إذ تلعب الثقافة والإبداع دوراً مركزياً في هذا التجسير.
هذا اللقاء يؤكد فشل الخطاب السياسي الأيديولوجي العاري، إن كلياً أو جزئياً في خلق جو من الثقة الصادقة، والموظف حتى الآن في العلاقة بين البلدين والشعبين الجزائري والفرنسي، لذا وجب تغيير هذا الخطاب التقليدي بخطاب جديد يتم فيه الاستثمار في مفاهيم فلسفية وثقافية وفكرية جديدة قادرة أن تنقذ العلاقة وتزرع فيها الأمل والمصلحة المشتركة.
إن تركيز الرئيس الجزائري في حديثه مع المؤرخ بنجامان ستورا في هذا اللقاء، كما صرح بذلك ستورا لوسائل الإعلام، على توسيع دائرة البحث في تاريخ "الذاكرة" المشتركة بكل ما تحمله من "جروح" و"آلام" لتشمل تاريخ الاستعمار منذ بداية الغزو، وهو ما يجعل المقاربة شاملة والتقارب مؤسس على رؤية لا تركز على فترة الحرب التحريرية فقط، هذه المقاربة عميقة لأنها ستجعل من ظاهرة الاستعمار أمراً تاريخياً مرت به أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية، وأن الشعوب المستعمرة متشابهة في المأساة، قد تختلف حدتها بين هذا البلد وذاك، فإن كثيراً من هذه الشعوب تجاوزت هذه المرحلة المأساوية بالتركيز على صناعة مستقبل ربما يشترك فيه عدو البارحة.
وأنا أتابع تفاصيل هذا اللقاء ما بين تبون وستورا، أتمنى أن يستقبل الرئيس الجزائري المؤرخين الجزائريين الجادين الذين اشتغلوا على تاريخ الجزائر ليستمع أيضاً إلى آرائهم، وغالبيتهم من مدرسة ستورا، من أمثال محمد حربي وحسن رمعون ودحو جربال وفؤاد صوفي ومليكة رحال وصادق بن قادة ومحمد القورصو وغيرهم.
لكي يكون لمثل هذا اللقاء أثر إيجابي في الخاصة وفي العامة من الجزائريين، ويعيد الأمل إلى المواطن الباحث عن كرامة ومستقبل، يجب تحرير وسائل الإعلام الجزائرية من تلك الأصوات البهتانية التي تدعي بأنها تكتب في التاريخ والتي لا يهمها سوى صب الزيت على النار، وجر الجزائر إلى عزلة أكبر فأكبر من خلال خطابات حاقدة وعنصرية وشعبوية.
لهذا اللقاء بين الرئيس والمؤرخ رسالة تقول: لقد هزمنا فرنسا بعد حرب تحريرية شرسة وقضي الأمر، فعلينا اليوم أن نهزم ثقافة الكراهية والغضب والشعبوية ونؤسس لمستقبل جديد بين شعبي البلدين المستقلين الجزائر وفرنسا، وعلينا البحث عن طريق جديد كي نحول هذه الذاكرة المجروحة إلى مشروع حلم ينتج الخير على الضفتين، كما حدث بين فرنسا وألمانيا، وكما حدث بين الولايات المتحدة واليابان.
اليوم وباستقبال تبون للمؤرخ ستورا، يمكن للنخب المؤمنة بصدق، بعيداً من الشعبوية السياسية أو الدينية، على الضفتين، في البلدين، أن تتكاتف من أجل صياغة مشروع "معاهدة صداقة" جديدة بين الجزائر وفرنسا، قائمة على أسس متينة وفي صالح المستقبل المشترك للأجيال القادمة، وفي الوقت ذاته من أجل محاربة اليمين المتطرف في فرنسا والتيارات المتطرفة في الجزائر أيضاً.