Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

أحياء بيروت تولد من جديد من تحت أنقاض المرفأ

أصحاب المطاعم والحانات وصالات السهر استغلوا الانفجار في إعادة بنائها بشكل عصري

كان من الصعوبة بمكان التصديق بأن منطقة الواجهة البحرية لبيروت القريبة من المرفأ، حيث وقع ثالث أكبر انفجار في العالم بعد القنبلتين النوويتين، للحياة كما كانت قبل الحادثة، بل وبحلة أحدث وأكثر معاصرة واجتذاباً لأنواع مختلفة من الرواد والساهرين والسياح والمغتربين، وكأن التهديم والدمار الذي نشره الانفجار على بعد كيلومترات عدة من مركزه في المرفأ استغله أصحاب المطاعم والحانات وصالات السهر الليلي البيروتي الشهير كي يعيدوا بناءها وترميمها بما يناسب هندسة هذا الوقت.

حانات السهر البيروتي في شارعي مار مخايل والجميزة ومونو بوسط البلد القريب، وشارع الحمراء المعروف كشانزيلزيه الشرق في السبعينيات، كان مشهوراً ومعروفاً ومصنفاً عالمياً خلال السنوات الأولى من الألفية، وكان ينصح السياح الذي يفضلون أنواع السهر المختلفة في أجواء من الأمن والترحاب لدى شعب منفتح ويتحدث بكل اللغات وذي أناقة خاصة، بالمجيء إلى لبنان لتمضية العطلات في ملاهي بيروت وجونية والبترون جبيل.

كانت المساعدات السخية التي وصلت من المؤسسات الدولية الداعمة بعد انفجار مرفأ بيروت العام 2020 أسهمت بفاعلية في الإسراع بإعادة ترميم تلك الأحياء المدمرة، من بيوتها القديمة ذات الهندسة الانتدابية الفرنسية إلى المؤسسات والمستشفيات والمكاتب والمطاعم والملاهي، فأغلبها تم ترميمه بسرعة على الرغم من أن جزءاً منها ما زال قيد الترميم حتى اليوم بعد سنتين من الانفجار.

لكن الصيف يبدو عارماً هذه السنة، إذ بدأت موجات المغتربين اللبنانيين العائدين للاصطياف بعد أن أسهم التضخم المالي في لبنان بجعل غلاتهم الأجنبية ذات قيمة كبيرة بالسوق اللبنانية، مما سمح لكثير منهم، حتى ذوي الدخل المتوسط، بالعودة هذا الصيف.

يتحدث أصحاب الملاهي والحانات في مار مخايل عن استعدادهم لصيف "عاجق"، على ما يصف اللبنانيون الزحمة، وهذا التوقع الذي يبدو ملموساً حتى الآن يضفي جواً من الحيوية والطاقة بالشارع العائد للحياة بعد موت، حتى تشعر بأن المقولة التي يرددها اللبنانيون عن أنهم كطائر الفينيق يعودون من الرماد بعد الاحتراق، وكأن هذا التشبيه الذي يكاد يكون نمطياً لكثرة تكراره، صحيح ويمكن رؤيته رؤية العين.

 

كاميرا سائح

مقاهي الشارع التي أفلت اليوم لتتحول إلى مخازن لبيع الألبسة الجاهزة (مودكا، ويمبي، كافيه دو باري)، ونشأت غيرها تلك التي تقدم أنواع القهوة السريعة، وحلت محلها في استقطاب رواد الشارع على اختلافهم (كوستا، ستاربكس، ليناز) هذه المقاهي كانت السبب في الانتقال مساء نحو الحانة، فالشعراء الجدد القادمون من القرى والبلدات، سواء الواقعة في بيروت أو تلك البعيدة في الجنوب، عملوا في كتابة المقالات بالصحف الثقافية، وهذا العمل لا يتطلب وقتاً طويلاً لإنجازه، ويمنح الكاتب وقتاً أطول للتسكع في الشارع نهاراً بالمقاهي وليلا في الحانة، والتسكع هذا كان من المفترض أنه تمرين على تداول الأفكار واكتسابها، لذا كان في مخيلتنا نحن المتسكعين تسكعاً حميداً، سرعان ما يصير جزءاً أساساً من حياتنا، كما هما المقهى والحانة.

يقول الصديق الألماني الذي زار بيروت مرات كثيرة حتى قرر الاستقرار فيها بالقرب من شارع مار مخايل حيث يكثر السكان من الأجانب العاملين في المنظمات الدولية غير الحكومية المشرفة على إعادة إعمار منطقة المرفأ، ومنها منطقة مار مخايل، وقد رفع هؤلاء الموظفون من قيمة الإيجارات على طول الواجهة البحرية وفي داخل بيروت بسبب دفعهم الإيجار بالدولار الأميركي، فحل كثير منهم محل لبنانيين ما عاد بإمكانهم تحمل الأجر بالدولار الأميركي، كما حلت أسر سورية كثيرة محل عائلات لبنانية بسبب قدرتها على دفع الإيجار بالدولار الأميركي من المساعدات المادية التي تقدمها الأمم المتحدة والمنظمات الدولية.

ويشرح الصديق الألماني ما يعجبه في طريقة سهر اللبنانيين بأن يراهم كما لو أنهم يمثلون في الإعلانات الجديدة عن الأزياء ومظاهر الخروج للسهر على الطريقة المعولمة في أفلام الشباب والشابات الهوليوودية بملابسهم وكلامهم وحركاتهم وابتدائهم السهر في سبيل "الرقص الاجتماعي"، على وصف ميلان كونديرا الاستعراض في روايته "خفة الكائن التي لا تحتمل".

شارع مار مخايل البيروتي العريق ذو المنازل التراثية والدكاكين والمحال التجارية العائلية راح يتحول إلى مزاج شوارع السهر منذ العام 2000 تقريباً، وكرس حياة جديدة مختلفة للشارع بكونه شارعاً للسهر اليومي وليس الأسبوعي وحسب.

كان شارعا الجميزة ومار مخايل المتجاوران والأكثر تضرراً من انفجار المرفأ قبل عودتهما لحياتهما الجديدة في السنوات الأولى من القرن الحالي يحاولان نفض صفة الخط الفاصل بين البيروتين الشرقية والغربية خلال الحرب الأهلية اللبنانية، وأدى دورهما جيداً في سنوات السلم في أن يكونا همزة الوصل بين بيروت الشرقية وبيروت الغربية عبر ساحة الشهداء.

وكان الشارع الموازي لهما جهة المرفأ تجارياً وصناعياً بامتياز، تكثر فيه محال بيع الأدوات والآلات المختلفة في أسفل البنايات التي يسكنها مسنون وخادماتهم الفيليبينيات والإثيوبيات والسريلانكيات اللاتي يستغنمن فرصة السير مع الكلاب عصراً للتحادث وتبادل التحيات.

لا مجال هنا للكلام عن التبدلات التي طرأت على حياة سكان الشارع بعد تحوله إلى قبلة للساهرين في بيروت ولبنان، بصالات للسهر مبنية بطرق هندسية مبتكرة، فالمحال التي احتلتها لم تكن مهيأة لأن تكون حانات، لذا كان للديكور دور رئيس في قيامها وارتقائها من دكاكين تبيع البضائع للمسنين إلى حانات يفور فيها الشباب فوراناً، ويتماهون مع الحياة التي تصدرها الإعلانات، حياة السهر والمال والسيارات الجديدة والرقص والإغراء والملابس من ماركاتها الأصلية.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

قبل اغتيال الحريري

دأبت قناة الأزياء العالمية "فاشن تي في" خلال السنوات الأولى من هذ القرن على نقل مقاطع راقصة من حفلات أو سهرات تجري في بيروت من حانة "بودا بار" ومرات من احتفالات حانة "الفاشن تي في" التي افتتحت أسفل مبنى صحيفة "النهار" قبل أن تقفل بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري وتدهور الأوضاع الأمنية في البلاد.

الحانات الجديدة والحديثة التي تشبه في ديكورها وإضاءتها ونوع موسيقاها تلك التي تعرض سهراتها على "الفاشن تي في" تمتلئ بالرواد ليلتي الجمعة والسبت، وجلهم من الشبان والشابات العاملين في مهن حديثة ومكتبية ازدهرت في تلك الفترة التي ملأت فيها الطرق سياراتهم الجديدة في ساعات الذروة عند الخامسة والسادسة مساء، تلك الفترة الذهبية من عمر لبنان التي تبدو وكأنها تحاول استعادة بعض نبضها من خلال السهر والسياحة والاصطياف، لكن ذلك لن يصلح الخلل الداخلي الأساس في النظام السياسي اللبناني الذي لم يستقر على شكل منذ إعلان دولة لبنان الكبير، ولو أن هذا النبض المستعاد من خلال السياحة والمغتربين اللبنانيين سيعيد بعض الألق لحياة اللبنانيين في هذا الصيف، بعد أن كانت الصيوف الماضية مليئة بالحروب والاغتيالات والكساد وكورونا وانفجار المرفأ و"ثورة تشرين 2019".

اقرأ المزيد

المزيد من منوعات