كان "أيام بيروت السينمائية" قبل نحو عقد من الزمن، الحدث السينمائي الأبرز في لبنان، ننتظره جميعاً، على الرغم من أنه كان "بينالي"، أي يقام مرة كل سنتين، على غرار مهرجاني دمشق وقرطاج. اليوم، "واقع السينما تغير" منذ انطلاق هذه التظاهرة السينمائية قبل 21 عاماً، كما تقول المخرجة إليان الراهب التي تتولى أحد أقسامه. وتعني بهذا التغيير أن الفيلم العربي صار له مكان محفوظ بشكل منتظم في أكبر المحافل السينمائية، وما عاد يحتاج إلى ترويج ورعاية كما في السابق، مما جعل دور "الأيام" يتراجع. باختصار، كبر الطفل وصار يركض بدلاً من المشي من شرق القارة الأرضية إلى غربها، لكن هذا ليس التغيير الوحيد الذي شهدته الأعوام الـ21 التي عرفت تأسيس المهرجان وتطوره ونموه. لبنان كله تغير، لا سيما في السنتين الماضيتين: انهيار اقتصادي، أزمات سياسية، تفجير مدينة. من بطن هذا التفجير، خرجت مدينة أخرى تستنجد العطف وتثير الشفقة. وهذا كان إحساس كثيرين ممن حضروا حفلة افتتاح الدورة الـ11 من "أيام بيروت" الذي عرض خلاله فيلم "فرحة" للمخرجة الأردنية دارين سلام.
كان افتتاحاً يخفي مرارة، لا فقط لأن الفيلم المعروض يتحدث عن نكبة فلسطين، ويحملنا إلى نحو ثمانية عقود إلى الخلف، بل لأن ما وجدناه في أزقة أسواق بيروت المهجورة والصامتة حيث عقد الحدث، كانت نكبتنا اللبنانية: محلات مقفلة، شوارع خالية من الناس، مبانٍ تحمل ندوب التفجير ولا تزال تذكر المارة أن كارثة مرت من هنا، ولا يزال صناعها بلا حساب. في هذا الجو من الحزن والأسى، عاد "أيام بيروت السينمائية" إلى البيارتة، أو ما تبقى منهم في هذه المرحلة التي تشهد هجرة الآلاف منهم إلى الخارج بحثاً عن حياة أفضل. وهذا أول مهرجان سينمائي بارز يقام في العاصمة منذ عامين، فبدا بالتالي كنوع من عودة إلى الحياة ونوع من انتصار على الذين شوهوا كل ما صنع في الماضي أهمية هذه المدينة، هذا الإحساس القوي بالمكان والجغرافيا، كان له صدى في البرمجة مع إنشاء قسم "في هذا المكان" الذي يحكي عن "بناء ماضينا من خلال السينما والصورة، وتساعدنا على فهم حاضرنا بصورة أفضل حتى نتحلى بالجرأة الكافية لتخيل مستقبلنا"، كما يعلن المنظمون. وفي هذا الصدد، من الملاحظ أن الأفلام تحط بالمشاهد في أماكن مختلفة تعبر (مع قصد أو من دونه) عن أحوال العالم العربي: من فلسطين المنكوبة إلى مصر المحبطة فالجولان المحتلة وبيروت الأبوكاليبتية.
أحوال صعبة
تماشياً مع الظروف التي تمر فيها البلاد وبسبب الأحوال الاقتصادية الصعبة، أقيمت دورة "مكثفة"، مقتضبة، تنطوي على عدد من الأفلام العربية التي نالت الشهرة في المهرجانات الدولية العام الماضي. "الغريب" للمخرج "الجولاني" أمير فخر الدين من هذه الأفلام، وهو كان عرض في البندقية 2022 قبل أن يصل إلى عدد من المهرجانات العربية، حيث فاز بجوائز، هذا أول فيلم روائي طويل من منطقة تحتلها إسرائيل. تجري الأحداث على طبيب يعيش أزمة وجودية حادة ولكن تحمله التطورات ذات يوم إلى لقاء جندي جريح هرب من الحرب في سوريا. هذه الحادثة على عاديتها، تزج الفيلم في مناخ آخر وتضع الطبيب أمام معضلة جديدة. عمل المخرج على إظهار المناظر الطبيعية التي تتميز بها هضبة الجولان، في مقاربة بصرية ودرامية تذكر بأفلام كبار معلمي السينما، وتلك الحساسية التي تميزهم. بهذا الفيلم الباهر، أعاد فخر الدين الاعتبار إلى مسقطه، مكاناً للقصص والمعاناة والأسئلة المرتبطة بجماليات السينما.
إذا كان "الغريب" ذروة السينما العربية التي يعرضها "الأيام" معرفاً عن بقعة جغرافية غائبة عن الشاشة العربية، فهذا المهرجان لا يبخل على المشاهد اللبناني ببعض الجواهر التي تنطوي على حس تجديدي يأتي على يد شباب لا يزالون في الثلاثينيات من أعمارهم، وهذه حال "ريش" للمصري عمر الزهيري الذي أسال الكثير من الحبر في العام الماضي، خصوصاً بعد عرضه في مهرجان الجونة والغضب الذي أثاره عند الوطنيين المصريين بسبب الصورة التي يقدمها عن مصر، وذلك من خلال قصة عائلة تعيش في أحد الأحياء الشديدة الفقر. الفيلم، على غرار "الغريب"، مسح لبيئة اجتماعية، لكن لا بأسلوب تحاول استدرار العواطف ولا بنمط توثيقي يحاول البحث عن الحقيقة. إنها رؤية سينمائية عبثية وسوريالية لمكان وناس. وفي هذا الصدد، يمكن القول إن "أيام" كان في بعض الدورات الماضية حضناً للسينمائيين العرب الهاربين من ظلم أنظمتهم وبطشها، وخير مثال على ذلك يوم افتتحت إحدى دوراته بفيلم "آخر أيام المدينة" لتامر السعيد الذي امتنعت السلطات المصرية عن إجازة عرضه في مصر.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
أما بيروت، الشاهدة على هذا كله، فهي الحاضرة الكبرى على شاشة المهرجان من خلال أفلام عدة تقاربها من زوايا مختلفة، إلا أن ما يجمع بين كل المقاربات هو أنها دوماً إشكالية. فهناك بيروت المستعادة مع عرض فيلم "بيروت اللقاء" لبرهان علوية (في نسخة مرممة) الذي يروي قصة لقاء مستحيل في بيروت الثمانينيات أثناء الحرب، وهناك بيروت المظلمة والداكنة في "البحر أمامكم" لإيلي داغر الذي يصور من خلال شخصية فتاة عائدة من الغربة صورة للشباب ولجيل بأكمله في بيروت، متنبئاً بما حدث بعد انتفاضة "17 تشرين". وهناك أخيراً، بيروت التي شهدت تفجيراً ضخماً وهذا يحضر في فيلمين: "أخطبوط" لكريم قاسم و"إعادة تدمير" لسيمون الهبر.
في "أخطبوط" يرينا المخرج مشاهد من المدينة التي تعرضت لكارثة التفجير، ونكتشف من خلالها سكان البيوت المهدمة القابعين فيها. اختار قاسم فيلماً صامتاً لا يتضمن أي حوار، إذ لا يوجد أي كلام للتعبير عن هول ما حصل. يكفي وضع تلك اللقطات أمام المتفرج كي يصبح شاهداً عليها لا متفرجاً فحسب. أما "إعادة تدمير"، فيحكي عن إشكالية الإعمار والتدمير المتواصلين في بيروت، وذلك بسبب الحرب التي دارت فيها لـ15 عاماً، وتسببت في الفساد والإهمال وسوء الإدارة والإعمار العشوائي الذي نتج عنها الكثير من الظلم. وهذه أشياء يصورها الفيلم بكاميرا تجول في المدينة، محاولاً التقاط ذاكرتها ودلالات الأمكنة في ظل ما حل بالمدينة بعد التفجير من تغييرات على أكثر من صعيد.