Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

أزمات المصريين "لايف" في "نقاشات الميكروباصات"

خبراء الاقتصاد الشعبيون أفضل من يعطي لمحة حقيقية عن طبيعة الأوضاع في أي بلد بعيداً من نشرات الأخبار

المصريون يستغلون أوقاتهم في وسائل النقل لإدارة نقاشات حول الأوضاع الاقتصادية (أ ف ب)

الميكروباصات (سيارات الأجرة) الناقلة لملايين البشر ذهاباً وإياباً في طول مصر وعرضها محملة ومعبأة بكم مذهل من النقاشات الاقتصادية والمناظرات المتعلقة بعوالم المال والأعمال والاستثمار. الرحلة الواحدة من "الكيلو أربعة ونصف" (منطقة في شرق القاهرة) إلى مدينة بدر (شمال شرقي القاهرة) 40 كيلومتراً بلغة المسافات، وهو ما يوازي عشرات الأطروحات ومئات التحليلات الكفيلة بحل مشكلات الكوكب الاقتصادية ومعضلاته الحياتية.

الحياة لمدة لا تقل عن 15 ساعة في الميكروباص تقصف العمر، بحسب ما يؤكد سامح حسنين (32 سنة) (سائق). يقول إن رأسه يكاد ينفجر يومياً على مدى ساعات عمله ذهاباً وإياباً، "الركاب يتحدثون عن أشياء كثيرة. في الأحوال العادية قليل من السياسة مع بعض النكات العميقة وتبادل للتجارب في تربية الأبناء وتجهيز البنات (للزواج) والمدارس والدروس الخصوصية وفرص العمل والفنانين والمسلسلات والدين، لكن في الأحوال غير العادية كالتي نعيشها، الجميع تحول إلى خبراء اقتصاد".

خبراء شعبيون

خبراء الاقتصاد الشعبيون أفضل من يعطي لمحة حقيقية عن طبيعة الأوضاع الاقتصادية في أي بلد، وعلى الرغم من أن الأنين الشعبي سمة مزمنة، فإن الدرجات تتفاوت ونغمة الأنين تختلف وكذلك مصداقية الشكوى، ما يسمعه السائق، وغيره من آلاف السائقين يومياً على الطريق، ذو نبرة عالية هذه الأيام، ومضاف إليه أنينه الخاص، حيث الحياة تزداد صعوبة والأسعار تزداد ارتفاعاً، لكن ما ينقله الإعلام يزداد أيضاً تفاؤلاً واستبشاراً وانشراحاً.

وزارة التجارة والصناعة تقول إن مصر حققت أكثر من 32 مليار دولار صادرات. وزارة الزراعة تقول إنها حققت صادرات متنوعة تقدر بـ5.6 مليون طن للمرة الأولى في تاريخ مصر الحديث. وزارة المالية تقول إنه تم تعديل التعرفة الجمركية لتحفيز الصناعة الوطنية. خبراء يؤكدون أن التعرفة الجمركية الجديدة تسهم في خفض الأسعار. البورصة المصرية تؤكد أن حرصها على تنشيط التداول يعكس أهمية دور البورصة في الاقتصاد الوطني. البورصة تحقق ارتفاعات جماعية و1.5 مليار جنيه (نحو 80.2 مليون دولار أميركي) مكاسب سوقية. غرفة القاهرة التجارية تؤكد أن التوسع في إنشاء المجمعات الصناعية يوفر ثلاثة مليارات دولار سنوياً. شعبة الجمارك في الغرفة التجارية تؤكد أن اهتمام الرئيس بتقوية ودعم الصناعة الوطنية يؤكد أنه جراج اقتصادي كبير. شعبة الأدوية والمستحضرات في الغرف التجارية تؤكد أن صناعة المكملات الغذائية تمر بمرحلة ازدهار. إجراءات لتيسير بيئة عمل الشركات الناشئة وريادة الأعمال. البنك الدولي يتفقد المشروعات التنموية في مصر.

نشرات الأخبار العامرة

نشرات الأخبار عامرة بكل ما لذ وطاب من أخبار الإنجازات الاقتصادية في العديد من القطاعات. تصدير، تصنيع، تنشيط، تفعيل، تشجيع، توفير، تحسين، تسديد، تحقيق، وقائمة طويلة من المفردات المتصلة بالإنجازات الاقتصادية تخترق آذان الجميع وعيونهم على مدى ساعات اليوم.

 الساعات ذاتها تباغتهم أيضاً برحلات موجعة إلى السوبر ماركت، وأخرى مفزعة إلى أسواق الخضراوات والفواكه، وثالثة مبرحة لسداد فواتير الغاز والكهرباء والمياه والإيجار ورسوم إصلاح المصعد وتغيير المصابيح المحترقة وتسديد تكلفة الدروس الخصوصية للثانوية العامة التي تدق الأبواب، وما يجد من علاجات لوعكات طارئة وبقية بنود النفقات في الموازنة المصرية الشعبية.

الموازنات الشعبية المثقلة بهموم حرب روسيا في أوكرانيا من دون أن تدري، والتي تنوء بحمل عامين من عمر "كوفيد-19" الثقيل، والمستمرة في تجرع مرارة الإصلاح الاقتصادي المريع منذ عام 2016، والحاملة إرث ما يزيد على عقد من عمر رياح قيل إنها ربيعية ثم اتضح أنها شتوية هبت في عام 2011 تجد نفسها مشتتة مهلهلة بين "وردية" نشرات إخبارية وفقرات اقتصادية تحليلية تشيع جواً من البهجة الاقتصادية من جهة، وأرقام وحقائق تشي بأوضاع صعبة ألمَّت بالعالم كله وللمصريين نصيب عادل منها.

العدل يشير إلى أن التصريحات الحكومية الرسمية تكشف وتصارح بأقل قدر من تجميل الحقائق الموجعة وتخفيف الآثار المؤلمة. في منتصف مايو (أيار) الماضي، قالت الحكومة المصرية إنها تتوقع استمرار تواتر الآثار السلبية لحرب روسيا في أوكرانيا على الاقتصاد المحلي. وقال رئيس مجلس الوزراء مصطفى مدبولي حينئذ إن فاتورة التأثيرات المباشرة وغير المباشرة حتى مطلع فبراير (شباط) الماضي وصلت إلى 465 مليار جنيه مصري (نحو 24.853 مليار دولار أميركي). وفند مدبولي الفاتورة بقوله إن التأثيرات المباشرة تمثلت في 139 مليار جنيه مصري (نحو 6.947 مليار دولار أميركي) متمثلة في أسعار السلع الاستراتيجية والوقود وأسعار الفائدة والسياحة المتضررة. أما الفاتورة غير المباشرة فقفزت إلى 335 مليار جنيه مصري (نحو 17.904 مليار دولار أميركي) متمثلة في إجراءات زيادة الرواتب والمعاشات والحماية الاجتماعية وغيرها.

كلام حكومة

"كلام الحكومة" يبقى شعبياً "كلام حكومة" سواء أكان سلبياً أو إيجابياً، حقيقة منزهة عن التطبيب والتسكين أو حقيقة مخففة بأدوات تجميل وملطفة بمسكنات تهدئة. هو إرث ثقيل منذ عقود وربما قرون. أما كلام الإعلام فيجد نفسه في وادٍ آخر متأرجحاً بين مصداقية يختارها البعض، وأحكام كذب وتدليس يصدرها البعض الآخر. إرث آخر يحمله المصريون تراكم على مدى العقد الماضي، أي منذ أحداث يناير (كانون الثاني) 2011، ألا وهو النظر إلى الأحداث والحوادث والقرارات والسياسات من منظور أيديولوجي وزاوية استقطاب عميق عنيف ضرب البلاد منذ كشفت جماعات الإسلام السياسي عن سطوتها الاجتماعية والسياسية في أعقاب هبوب رياح "الربيع".

وعلى الرغم من أن الربيع لم ينته بعد فلكياً فإن الحرارة القائظة هذه الأيام تستبق بدء الصيف فلكياً. أحاديث المصريين ومقترحاتهم البسيطة لكيفية ترشيد فواتير الكهرباء المتوقع اشتعالها مع اشتعال الحرارة بفعل تشغيل أجهزة التبريد والمراوح تعكس فهماً عميقاً ووعياً كبيراً بأن القادم صعب.

صعوبة القادم

صعوبة القادم تمهد له الأرقام التي أعلنها الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء يوم الخميس الماضي. ارتفع التضخم في شهر مايو (أيار) ليصل 15.3 في المئة مقارنة بـ14.9 في المئة بشهر أبريل (نيسان). وارتفعت أسعار الحبوب والخبز بنسبة 10.9 في المئة، والزيوت والدهون 6.9 في المئة، والأسماك 5.3 في المئة، والفاكهة 2.3 في المئة، والألبان ومنتجاتها والبيض 1.9 في المئة، وفواتير الماء والخدمات المتعلقة بالسكن 26.1 في المئة، وسلع وخدمات صيانة البيوت 2.3 في المئة، والوجبات الجاهزة 3.2 في المئة.

رواد عربة الفول -منصة الإفطار الشعبية شبه الرسمية لملايين المصريين- يتحدثون عن الكثير مما لم يرد في "توك شو" ليلة أمس أو في البث الـ"لايف" على مواقع المؤسسات الإعلامية على شبكة الإنترنت حول زيارة مجلس المديرين التنفيذيين لمجموعة البنك الدولي لمصر التي استمرت خمسة أيام. أحاديثهم حول طبق الفول الذي ارتفع من بضعة جنيهات لا تزيد على الخمسة إلى ما لا يقل عن عشرة جنيهات مع قليل من السلطة ورغيف خبز واحد لا ثاني له، تدور حول تكلفة المعيشة وقسوة الحكومة وسطوة الغلاء. إذا طرح أحدهم عامل الحرب في أوكرانيا أسكتوه، وإن لمح آخر إلى "الإصلاح الاقتصادي" سموه "خراباً" وليس إصلاحاً، وإن نوه ثالث بأنها مشكلة عالمية "مصمصوا" شفاههم امتعاضاً وأشاروا إليه باعتباره مغيباً ومسلماً نفسه لما يقوله الإعلام.

البنك الدولي

يقول الإعلام إن المدير التنفيذي لمجموعة البنك الدولي الممثل لدول عدة، من بينها مصر، ميرزا حسن، أشاد بمصر وأدائها. حسن بالفعل قال إن "مجموعة البنك الدولي ملتزمة بدعم جهود التعافي في مصر، لا سيما في ظل سياق عالمي بالغ الصعوبة". وقال أيضاً إنه "كان من المشجع أن نرى أن إطار الشراكة الاستراتيجية المقبل لمجموعة البنك الدولي مع مصر للسنوات المالية 2023-2027 -الذي يضع الإنسان المصري في صميم استراتيجيتها- يتوافق مع خطط التنمية الطموحة في البلاد".

لكن طموح المواطن المصري حالياً في خضم الأزمة الاقتصادية العالمية التي يعتبرها محلية، وفي ظل أوضاع الكوكب المتقلبة التي يعتقد أنها حكر عليه، هو الخروج مما هو فيه من ضغط اقتصادي هائل بطريقة أو بأخرى.

والإعلام لا يساعد، بل العكس هو الصحيح. منصات الإعلام التقليدي تمعن، أو بالأحرى، تبالغ في تزيين أخبار المصاعب الاقتصادية بمؤشرات انتعاش وإنجاز وزيادة صادرات وارتفاع إنتاج من دون شرح أسباب عدم شعور المواطن بأي تحسن أو حتى ثبات. وجبات التحليل الاقتصادي التي تحفل بها القنوات، على الرغم من عدم إنكارها لنسب التضخم وتفاقم أسعار السلع وتدني القدرات الشرائية، فإن خبراءها يبالغون في حقنها بنكهات ملطفة ومفردات مهدئة.

التهدئة في زمن الحرب

التهدئة في زمن تشتعل فيه نيران حرب ضروس تهدد توصيل القمح لمليارات الأفواه، وتدفع بالأسعار نحو الجنون، وتصل بمعدلات التضخم لنسب غير مسبوقة، وتضع دول العالم حرفياً في مهب الريح أمر بالغ الصعوبة ويحتاج إلى خطاب إعلامي من نوع خاص.

تقول الصحافية مارسيل نصر، التي عملت سنوات طويلة في الصحافة المكتوبة وتحولت حالياً صوب صحافة الفيديو، إن المصريين حالياً في علاقتهم بالإعلام وما يبثه من "حقائق" في وضع شبيه بقصة "الذئب الذئب". تقول إن المصريين تجمعهم بالمؤسسات الإعلامية المحلية علاقة شابها الكثير من قلة الثقة، وذلك بدءاً بأخبار الانتصارات في يونيو (حزيران) عام 1967 مروراً بتأكيد أنهم أوشكوا على العبور من عنق الزجاجة (الأوضاع الاقتصادية الصعبة) في السبعينيات وتحقيق الرفاه الاقتصادي والنعيم المعيشي في الثمانينيات والتسعينيات والعقد الأول من الألفية الثالثة، وانتهاء بقول محافظ البنك المركزي طارق عامر في عام 2017 إن الدولار الأميركي سيوازي أربعة جنيهات مصرية (أكد مراراً بعدها أنها كانت نكتة ضمن حديث طويل في برنامج تلفزيوني لكن الغالبية اعتبرتها جداً لا هزلاً). تقول نصر إن مثل هذه الأخبار والتناولات الإعلامية أسهمت في خلق وتعميق الهوة بين المصريين والإعلام الرسمي وشبه الرسمي.

وعلى الرغم من أن جميع الأرقام والنسب الخاصة بالاقتصاد المصري المحلي وكذلك الدولي يتم طرحها بشفافية في وسائل الإعلام المصري، فإن معالجتها ومحاولة التخفيف من أثرها عبر ضخ كم مذهل موازٍ من الأخبار الاقتصادية بالغة الإيجابية أضر ولم ينفع في رأب الصدع.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

تقول نصر إن تحقيق التوازن بين اختبار المواطن وإعلامه بحقيقة الأوضاع، وربط الأوضاع بما يجري في العالم من دون تحلل من مسؤولية أو عدم إشارة إلى إخفاقات محلية أو قرارات سابقة جانبها الصواب، مع شرح الإجراءات التي تتخذها الحكومة من أجل التخفيف عن كاهل المواطنين من دون مبالغة أو تهليل أمر صعب التحقيق، لكنه الطريق الوحيد لبناء ثقة باتت حيوية في العلاقة بين المصري والإعلام.

الثقة بين المواطن المصري ومنصات الإعلام الرسمية وشبه الرسمية في اختبار حقيقي في ظل الأزمة الاقتصادية الراهنة. تقول نصر "بالغنا كثيراً في التحذير من الذئب الذئب، تارة حروب استنزفت مواردنا، وأخرى أزمة اقتصادية عالمية، وثالثة عنق زجاجة لا ينتهي، ورابعة نمو اقتصادي كبير لم يشعر به المواطن الذي طلب منه صبر أيوب. وحين وصل الذئب بالفعل مرتدياً عباءة كوفيد-19 ثم مرسخاً أقدامه عبر حرب روسيا في أوكرانيا، أنكرت وجوده الغالبية".

الغالبية الرابضة في الميكروباص والباص والمترو وعلى عربات الفول وفي المقاهي الصغيرة والكبيرة تقتل الاقتصاد والأسعار والتصريحات الرسمية والتحليلات الإعلامية ومحتوى السوشيال ميديا بحثاً وتنقيباً. صحيح أن عمليات البحث والتنقيب لا تؤدي إلى الكثير، لكنها تظل مخرجاً نفسياً صحياً وصمام أمان سبق تجريبه إلى أن تقضي السماء أمراً كان مفعولاً، وانفراجة مأمولة في أوكرانيا وسعر الدولار ونسبة التضخم ومستويات الدين المرتفعة واحتياجات التمويل المستمرة.

اقرأ المزيد

المزيد من تحقيقات ومطولات