Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

لماذا ما زلنا نصرخ إعجابا بإدفارد مونخ؟

معرض جديد له في غاليري كورتولد اللندني يقدم أعمالاً لم نشاهدها من قبل في بريطانيا. أليستر سمارت يكتب عن لحظة هذا الفنان النرويجي التي حانت مرة أخرى

يتساءل المرء إذا كانت جائحة كورونا قد منحت فن مونخ "معنى جديدا كلياً" (متحف "كود" KODE بيرغن - النرويج/كورتو)

لقد قيل إن الفنان إدفارد مونخ (1863-1944) في مرحلة متأخرة من عمره كان يترك الراديو مفتوحاً على مدى 24 ساعة في اليوم بمنزله في مدينة أوسلو. وغالباً ما يكون هناك اثنان أو أكثر، كل واحد في غرفة ومفتوح على إذاعة مختلفة – إلى هذا الحد كان مونخ يرتاب من الصمت. والأمر يبدو ملائماً بالنسبة إلى سمعة هذا الفنان، إذ إن أشهر عمل له حتى الآن يتمثل في لوحته "الصرخة".

صورة عمله ذاك دخلت بيسر في الثقافة الشعبية السائدة – وألهمت أشياء كثيرة في حياتنا، بدءاً من الإيموجيات المستخدمة بكثافة في هواتفنا النقالة، وصولاً إلى الوضعية التي ظهر بها ماكولاي كولكن في ملصق فيلم "هوم ألون" Home Alone – الذي، إلى حد ما، ألقى بظلاله على مجمل المسيرة المهنية للممثل المذكور.

لحسن الحظ، يقدم معرض قادم في معرض كورتولد بلندن نظرة على مونخ تتجاوز عمله الأكثر شهرة (الصرخة). سيمنحنا المعرض فكرة عن الفنان من خلال 18 عملاً - 11 لم تعرض من قبل في المملكة المتحدة من قبل. والأعمال هذه جميعها مستلة من مجموعة مونخ الرائعة الموجودة في متحف "كود" KODE بمدينة بيرغن، ثاني أكبر مدن النرويج. وتلك الأعمال كان اشتراها صاحب المطحنة ومقتني المجموعات الفنية، ابن مدينة بيرغن، راسموس ماير، ثم أوصى بمنحها للمدينة بعد وفاته

والأعمال التي ستعرض تغطي فترة 25 سنة وتعد بالإجمال ممثلة لذروة تجربة مونخ: من منتصف ثمانينيات القرن التاسع عشر إلى سنة 1909 (هذه الأخيرة التي شهدت إقامته على مدى تسعة أشهر في مصح بعد تعرضه لانهيار عصبي). وتغطي فترة ربع القرن المذكورة مغازلاته المبكرة للانطباعية عبر طريقة ستغدو في ما بعد جزءاً من أسلوبه المتميز، أي التعبيرية. لوحة "الصرخة" بالفعل ظهرت خلال هذه الحقبة ذاتها، لكنها ليست جزءاً من مجموعة "كود" (مونخ في الحقيقة رسم نسختين من "الصرخة": واحدة سنة 1893، والثانية قرابة سنة 1910).

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ولقد مضى سريعاً قرن ونيف، وها هي ذي لحظة مونخ كأنها تحين من جديد، إذ إن معرض كورتولد يأتي في أعقاب معرض أقيم سنة 2021 في الأكاديمية الملكية قدمت فيه مجموعة مختارة من الفن النرويجي إلى جانب مجموعة من أعمال ترايسي إمين. والفنانة البريطانية هذه تعتبر نفسها "المعجبة الأولى" بمونخ، وتقول إنها قبل التعرف إلى أعماله لم تكن قد "أدركت أن هناك فناً يمكن للناس من خلاله التعبير عن عواطفهم".

كذلك شهد العام الماضي نتائج مذهلة لمزاد علني على أعمال لمونخ، كان أبرزها بيع لوحته العائدة لسنة 1904 "يوم صيفي أو عناق على الشاطئ" Summer Day or Embrace on the Beach (The Linde Frieze) بمبلغ 16.28 مليون جنيه استرليني (نحو 20 مليون دولار) في دار سوثيبي بلندن.

علاوة على ذلك، في أكتوبر (تشرين الأول) 2021، جرى افتتاح متحف مونخ الجديد، وهو صرح ضخم يتوزع بين 13 طابقاً ويمتد على مساحة 26131 متراً مربعاً عند الواجهة البحرية لمدينة أوسلو. وهذا المتحف الجديد أكبر بنحو أربع مرات من متحف مونخ الأقدم الذي افتتح في الستينيات. وكان يقع في جزء يسهل الوصول إليه من المدينة يسمى توين.

 كيف يمكن لنا تفسير النجومية المتجددة التي يحظى بها مونخ؟ يرجع ذلك جزئياً إلى حقيقة قيام مونخ برسم صور ولوحات تعكس حياته المثيرة للاهتمام بالقدر نفسه. فطفولته اتسمت بأحداث تراجيدية: فقد تباعاً أمه وأخته الكبرى صوفي بسبب السل عندما كان في الخامسة من عمره والثالثة عشرة. لم يتحمل أبداً التخلي عن الكرسي الذي توفيت عليه صوفي، واليوم يمكن العثور عليه بالفعل في متحف مونخ. كان والد إدفارد عسكرياً مفلساً في الوحدات الطبية للجيش، ومؤمناً متزمتاً على مذهب "الحركة التقوية" (تدعو إلى الإحياء الديني والتركيز على الأخلاق الشخصية)، وكان يضرب أطفاله لأتفه الأسباب.

على أن سنوات نضوجه لم تكن أكثر سعادة، إذ إنه عانى مشكلات في الرئة وإدمان الكحول ورهاب الأماكن العامة وأمور كثيرة أخرى، منها سلسلة من الإخفاقات العاطفية (لم يتزوج أبداً ولم ينجب أولاداً). إحدى تلك العلاقات العاطفية كانت مع امرأة تدعى تولا لارسن، ابنة تاجر نبيذ، وقد ارتبط مونخ بها لفترة وجيزة. انتهت هذه العلاقة بجرح سببه طلق ناري. التفاصيل غير واضحة، لكن في سيرة حياة الفنان التي كتبتها سو بريدو بعنوان "إدفارد مونخ: ما وراء الصرخة" (2005) Edvard Munch: Behind the Scream افترضت المؤلفة أن تولا أطلقت النار على الفنان خلال مشاجرة بينهما، ما أدى إلى فقدانه جزءاً كبيراً من إصبعه الوسطى ليده اليسرى.

 

معاناة مونخ الشخصية تلك انعكست على فنه طوال مسيرته المهنية. وذاك لم يترجمه بالضرورة بنقل الحياة الواقعية مباشرة إلى اللوحة، بل جسده أكثر بالمزاج العام في أعماله. تشكل لوحة "كآبة" (1894-1896) Melancholy من ضمن مجموعة متحف "كود" مثالاً جيداً على ذاك المزاج، إذ إن اللوحة تصور رجلاً محبطاً، يظهر بوضعية جانبية ويجلس حزيناً على ساحل نرويجي يتلاشى في المسافة خلفه. وكان الفنان يصر دائماً على أنه "لم يشأ رسم لوحات جميلة تعلق على جدران المرسم"، بل أراد إنتاج "فن نابع من أعماق القلب". وذاك في معظم الأحيان تجسد في تبسيطه الأشكال واستخدامه الألوان بطريقة شديدة التعبير. لم يسبق للفن الغربي أن شهد تدفقاً عاطفياً مثل الذي نشعر به أمام هذا العمل، الذي يستمد طاقة كبيرة أيضاً من معرفة الذي يشاهده سلفاً أن ما يعاينه صادر من محن وآلام الفنان الحقيقية (من المفيد الإشارة هنا إلى أن مونخ لم يكن كاملاً، وفنه وقع أحياناً في مطبات الميلودراما – فإنه في أفضل أعماله تلافى الوقوع في ذاك المطب).

في الحقيقة، حتى أولئك الذين لا يعرفون شيئاً عن حياة الفنان قد يعجبون أيضاً بمخيلته ويقدرونها، كما هو الحال في الموضوعات العالمية كالحب والجنس والغيرة والمرض والعزلة والذنب والقلق واليأس والموت. تضم لوحة "رجل وامرأة" (1898) Man and Woman التي تصور مشهد شريكين عاريين بعد ممارسة الحب كثيراً من عناصر تلك الموضوعات دفعة واحدة. وكما ذكر ستاين هاينريشسن، مدير متحف مونخ، ضمن كلمة ألقاها لمناسبة افتتاح المتحف الجديد فإن "المرء لا يحتاج إلى شهادة دكتوراه كي يستمتع بأعمال مونخ... فهو يتعامل مع [أشياء] علينا جميعاً مواجهتها في الحياة".

كل هذا قد يكون صحيحاً، لكنه لا يفسر تلك النجومية المستجدة الآن التي يتمتع بها الفنان منذ سنة 2020. وبالمصادفة ثمة معرض أساسي آخر يقام راهناً، عنوانه "إدفارد مونخ. إن ديالوغويت ذا ألبيرتينا ميوزيم إن فيينا"Edvard Munch. In Dialogueat the Albertina Museum in Vienna، ويتمحور تركيزه الأساسي حول التأثير النرويجي على عديد من الفنانين الحداثيين، أمثال بيتر دويغ، ومارلين دوما، وجورج بازيليتز (إضافة إلى آندي وارهول).

ربما يتجسد جزء من التفسير لنجومية مونخ الراهنة بأثر التداعيات الصادرة من لوحة "الصرخة" والمشاعر المرتبطة بها. في عام 2012 جرى بيع نسخة مرسومة بمادة الطبشور من هذه اللوحة بمبلغ 119.9 مليون دولار (74 مليون جنيه استرليني) بدار سوثيبي في نيويورك: وهذا كان آنذاك أعلى سعر يدفع لشراء عمل فني ضمن مزاد علني.

لقد حظيت لوحة "الصرخة" بعمر جديد في القرن الحادي والعشرين. فبطلها الصارخ من الضيق، غدا اختزالاً ورمزاً –في الرسوم المتحركة والميمات– يعبر عن مختلف أزماتنا المعاصرة، من أزمة المناخ وصولاً إلى بريكست (خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي).

إلى هذا، يمكن للمرء أن يتفكر في مدى مساهمة جائحة فيروس كورونا بمنح فن مونخ "معنى جديداً متكاملاً". وهذه كلمات قالها سيمون شاو، نائب رئيس قسم الفنون الجميلة في دار سوثيبي قبيل بيع لوحة "يوم صيفي أو عناق على الشاطئ" خلال مزاد "ليندي فريز" السنة الماضية. وقال شاو أيضاً "مونخ هنا معنا، في الموت والمرض" وفي العزلة والحزن. "الجائحة كانت جيدة بالنسبة إلى مونخ... إذ إنها أعادتنا إلى الموضوعات التي كانت مهمة بالنسبة إليه، وإلى القضايا الأولى في الحياة... لقد حملتنا الجائحة على تقدير أعماله تقديراً كبيراً".

ومونخ في الواقع كان أصيب بالإنفلونزا الإسبانية خلال جائحة عام 1918 ورسم ما قاساه آنذاك في لوحة شهيرة ظهرت في السنة التالية عنوانها "رسم ذاتي مع الإنفلونزا الإسبانية" Self-Portrait with the Spanish Flu (هي اليوم جزء من مجموعة المتحف الوطني النرويجي في أوسلو).

مونخ إذن هو فنان يمثل العصر الذي نعيش به. زيارة معرضه اليوم في كورتولد غاليري ينبغي أن تكون بمثابة "صرخة".

"أدفارد مونخ. أعمال خالدة من مدينة بيرغن" Edvard Munch. Masterpieces from Bergen يقام في كورتولد غاليري، لندن WC2، من 27 مايو (أيّار) لغاية 4 سبتمبر (أيلول).Courtauld.ac.uk

*نشر المقال في اندبندنت بتاريخ 23 مايو 2022

© The Independent

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة