Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

هل ينجح بوتين في مسيرته على خطى بطرس الأول؟

اختار "التاريخ" بديلاً للعقيدة الشيوعية وأساساً لاستراتيجية "لملمة الشمل"!

بوتين خلال مشاركته في احتفالات بطرس الأكبر (رويترز)

التصريحات الأخيرة التي أعلنها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في مناسبة الذكرى 350 لميلاد مؤسس روسيا الحديثة بطرس الأول أو الأعظم كما جرت العادة حول تسميته، أثارت الكثير من الدهشة المفعمة بالكثير من القلق تجاه ما يمكن أن تشهده المنطقة من تطورات وأحداث في الفترة القريبة المقبلة. فقد أعلن بوتين في لقاء عقده مع شباب رجال الأعمال عن أهدافه التي أوجزها في أمرين، أولهما العمل من أجل استعادة روسيا لما فقدته من أراض تعتبرها موسكو "ملكية تاريخية" منذ الإمبراطورية الروسية التي أسسها بطرس الأعظم خلال القرون الثلاثة الأخيرة. أما الأمر الثاني فيتلخص في "دعم أركان وتوطيد أسس ما سوف يستعيده من أراض" على حد تعبيره.

قال بوتين صراحة "إن بطرس الأول لم يقتطع أية أراض من السويد، بل استعاد أراضيه ومنها التي أقام عليها مدينة سان بطرسبورغ".

ومضى بوتين ليقارن الأحداث السياسية الجارية بما سبقها من أحداث إبان سنوات حكم بطرس الأول: لقد خاض الإمبراطور معاركه مع السويد من أجل حق إقامة العاصمة سانت بطرسبورغ في هذا المكان الذي أُقيمت عليه. ونذكر أنه عندما تأسست المدينة، لم تعترف بها أي دولة أوروبية.

وأضاف "أن السلافيين كانوا استوطنوا هذه الأراضي منذ زمن سحيق، ولم يأخذ بطرس من السويد أي شيء، لكنه استعاد أراضيه فقط".

"شرارة الثورة الاشتراكية"

وهنا أطلق قنبلته التي تعالت أصداؤها ويبدو أنها لن تخفت قريباً. فقد قال بوتين: "يبدو أنه قد وقع على عاتقنا أمران: الاستعادة والتقوية (في إشارة إلى مهمتي الضلوع بأعباء استعادة هذه الأراضي وترسيخ قواعدها وأركانها). وإذا انطلقنا من حقيقة أن هذه القيم الأساسية تشكل أساس وجودنا، فسننجح بالتأكيد في تلبية المهام التي تنتظرنا."

وتوقف مراقبون كثيرون في هذا الصدد عند الاحتفالات التي أقيمت بمناسبة الذكرى 350 لميلاد قيصر روسيا الأعظم بطرس الأول في سان بطرسبورغ، جرت في "سمولني" المبني التاريخي العريق الذي انطلقت منه شرارة الثورة الاشتراكية في 1917، وما أعقبها من أحداث أسهمت في تغيير وجه العالم.

هذه الكلمات وكما كان متوقعاً، أثارت حفيظة الكثيرين من حكام بلدان الجوار... القريب منه والبعيد. وكان العالم كله تقريباً سبق وأعرب عن الكثير من مخاوفه مما وصفه البعض من زعماء البلدان الغربية بـ"جنوح بوتين" نحو ما وصفوه بـ"المطامع التوسعية" للزعيم الروسي منذ الإعلان عن انضمام القرم إلى الدولة الروسية عام 2014.

 فما إن نما إلى علم الرئيس الفنلندي سولي نينيستو ما قاله بوتين، وكان مع قرينته جيني هوكيو في زيارة إلى جزر آلاند (الجزء الناطق بالسويدية من فنلندا والواقعة عند مصب خليج بوثنيا) بمناسبة الاحتفال بالذكرى المئوية للحكم الذاتي لهذه الجزر، مع الملك كارل غوستاف السادس عشر ملك السويد والملكة سيلفيا، حتى أعلن عن قطع زيارته، وقفل عائداً إلى العاصمة هلسنكي، في بادرة تعكس استياءه ولربما احتجاجه أيضاً.

وكان بوتين أسهب في ذلك اللقاء مع مواطنيه من شباب رجال الأعمال في استعادة الكثير من مجريات التاريخ، وما قام به الأسلاف من أجل بناء الإمبراطورية. قال إن روسيا المعاصرة تبدو الآن مدعوة إلى استعادة ما قامت به الإمبراطورية في القرن الثامن عشر من أمجاد. وإذا كان بوتين لمّح خلال العقدين الأخيرين في أكثر من مناسبة إلى أن البلدان السوفياتية السابقة مدعوة إلى إعادة الهدايا (الأراضي الروسية) التي حصلت عليها بعد انضمامها إلى الاتحاد السوفياتي، لدى خروجها من ذلك الاتحاد، فإنه كان أكثر صراحة حين قال إن "أوكرانيا يمكن أن تفقد وضعيتها كدولة مستقلة" في حال إصرارها على التمسك بما حصلت عليه من أراض روسية بعد انضمامها إلى الاتحاد السوفياتي. وننقل ما جرى تداوله من تسريبات عن حديث له مع نظيره الأميركي جورج بوش الابن تعليقاً على "الثورة البرتقالية"، وما رفعته من شعارات حول "الانضمام إلى الناتو": هل تعلم يا جورج أن أوكرانيا لا تملك حتى مقومات الدولة! فماذا تكون أوكرانيا؟ إن جزءاً من أراضيها مستقطع من شرق أوروبا (من بولندا والمجر ورومانيا)، والجزء الآخر وهو الأعظم (كل منطقة الدونباس وشبه جزيرة القرم) حصلت عليه كهدية من روسيا!"، "وإنه في حال ضم أوكرانيا إلى الناتو فإن هذه الدولة ستكف عن الوجود".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

أحقية روسيا

وذلك ما عاد وأكده علانية في أكثر من مناسبة، وفي حضور أكثر من ضيف أجنبي. ومن هنا فإن أحداً لا يجب أن يماري بطبيعة الحال في أحقية روسيا في هذه الأراضي. كما أن لا أحد يستطيع إنكار الجهود الخارقة التي بذلها بطرس الأول أو الأعظم في لملمة أجزاء روسيا القيصرية السابقة، التي لطالما حكمتها أسرة ريوريك مؤسس الدولة، على مدى ما يزيد على ثمانية قرون، انتهت بحكم إيفان الرهيب في القرن السادس عشر وحتى بدايات حكم سلالة آل رومانوف. فقد استطاع الأمير الشاب وخلال سنوات قلائل "ضبط حركة التاريخ"، وإعادة الأمور إلى نصابها في هذا الفضاء المترامي الأطراف، عبر مسيرة تسهب وسائل الإعلام الروسية في استعراض مفرداتها بمناسبة الذكرى 350 لميلاد هذه الشخصية الأسطورية، التي وبحسب الكثير من المؤشرات والقرائن، يحاول الرئيس بوتين أن يقتفي خطاها منذ أولى لحظات ولوجه عالم السياسة الكبرى.

ويذكر المراقبون أن فلاديمير بوتين حين دخل مكتبه في بلدية سان بطرسبورغ نائباً لعمدة المدينة أناتولي سوبتشاك في مطلع عام 1992، اختار صورة بطرس الأعظم وليس بوريس يلتسين رئيس الدولة، لتكون الرمز الذي يستظل به في مكتبه الرسمي. استهل بوتين نشاطه كرجل دولة بهذه الخطوة الجريئة، تأكيداً من جانبه لإيمانه واعتداده بتاريخ بلاده، وهو الذي سبق ووصف انهيار الاتحاد السوفياتي بأنه "أكبر كارثة جيواستراتيجية في القرن العشرين".

ومن واقع ما تتضمنه أضابير التاريخ، وما يتدفق من معلومات أرشيفية غزيرة حول هذه الحقبة الزمنية شديدة الأهمية، يمكن أن نقول إن الرئيس فلاديمير بوتين يقتفي خطى بطرس الأول في الكثير مما يتخذه من قرارات، ولا سيما ما يتعلق منها بوحدة أراضي الدولة الروسية، التي لطالما امتدت أطرافها لتبلغ ما يقرب من سدس مساحة العالم. وها هو يستعيد مع سامعيه بعضاً من تاريخه المجيد بمناسبة الاحتفالات بالذكرى 350 لميلاده. قال بوتين إن بطرس الأول لم يقتطع شيئاً من أراضي السويد. أكد الرئيس الروسي أنه استعاد أراضي بلاده، في معركة بولتافا الشهيرة، أو ما يسمى بـ"الحرب الشمالية" التي استمرت لما يقرب من 21 عاماً، ربما في إشارة إلى استعداد روسيا للمضي في معاركها مع أوكرانيا إلى ما هو أبعد لاستعادة "أراضيها التاريخية" التي سبق وأشار إليها بوتين، ومنها منطقة الدونباس في جنوب شرقي أوكرانيا، بعد أن أحكم سيطرته على شبه جزيرة القرم منذ استعادتها في مارس (آذار) 2014، فضلاً عما يجاورها من مناطق ومنها "خيرسون"، و"أوديسا" التي تعتبرها موسكو أيضاً "أراضي روسية تاريخية".

فتوحات بطرس الأول

ومن اللافت في هذا الصدد أن الفيلم الوثائقي الذي أذاعته القنوات الروسية الإخبارية الرسمية بهذه المناسبة، توقف عند معركة بولتافا كثيراً بوصفها أكبر الانتصارات العسكرية التي استندت إليها كل فتوحات بطرس الأول، الذي تولى بنفسه خلالها قيادة قواته المسلحة، بما في ذلك ما أسفر منها عن ضم الكثير من الأراضي والمناطق التي تشغلها اليوم جمهوريات البلطيق الثلاث ستونيا ولاتفيا وليتوانيا. ولكم كان من سخريات القدر أن يسجل تاريخ هذه الحقبة الزمنية مشاهد ما وصفته المصادر الروسية بخيانة بعض الشخصيات الأوكرانية، ومنها من كان يسمى بايفان مازيبا أحد زعماء منطقة زابوروجيه التابعة للإمبراطورية الروسية، قبل أن يتحول للانضمام إلى صفوف خصومها السويديين، خلال معارك بولتافا، وينتهي به الحال إلى أن يلوذ بالفرار إلى تركيا طلباً للحماية الشخصية حتى تاريخ وفاته هناك. وذلك إلى جانب شخصية أخرى كانت تحمل اللقب نفسه الذي يحمله الرئيس الأوكراني الحالي زيلينسكي. وقالت المصادر إن زيلينسكي (السابق)، كان تزعم حملة يدعو فيها الأوكرانيين وتتار القرم إلى الانحياز إلى جانب قوات الملك السويدي كارل الثاني عشر في معركته ضد بطرس الأول.

ولعله من المثير في السيرة الذاتية للإمبراطور بطرس الأول، ما يتعلق بما بذله من اهتمام في نهاية حياته بالمناطق المتاخمة لأراضي الإمبرطورية الروسية في المحيط المتجمد الشمالي، وهو ما صار يحظى باهتمام كبير من جانب الرئيس بوتين منذ أولى سنوات وصوله إلى سدّة الحكم في الكرملين. وكان ذلك في صدارة أسباب قراره حول بناء أكبر كاسحة جليد في العالم تعمل بالطاقة النووية، أطلق عليها اسم "بطرس الأعظم" تخليداً لذكرى ومآثر هذه الشخصية التاريخية المتفردة.

ومن القرائن المبكرة التي تشير إلى أن بوتين عقد العزم على استئناف مسيرة "الأسلاف العظام"، ذلك الخطاب التاريخي الذي ألقاه في مؤتمر الأمن الأوروبي في ميونيخ في فبراير (شباط) 2007، وأعلن فيه رفض بلاده لعالم القطب الواحد، وعزمها على استعادة موقعها الذي تستحق على خريطة السياسة العالمية. ويذكر المراقبون أن بوتين وشأن بطرس الأول الذي كان أول من أقام ترسانته الصناعية العسكرية، عاد إلى تكريس الاهتمام الأكبر لبلاده لتطوير قدراتها الصناعية والعسكرية استناداً إلى ما تملكه روسيا من قدرات بشرية وثروات طبيعية تقدّر بما يقرب من 30 في المئة من ثروات العالم.

اعتماد بوتين للتاريخ أساساً نظرياً

ونشير أيضاً إلى أن بوتين عاد ليستعيد بحر آزوف جنوب شرقي أوكرانيا بعد سقوط ماريوبول، وإحكام سيطرته على هذا البحر بوصفه المدخل الرئيسي إلى البحر الأسود، على نفس النحو الذي كان بدأ به بطرس الأول لرحلة إنشاء أسطوله الجنوبي في هذه المنطقة في مطلع القرن الثامن عشر، والذي شارك بنفسه في بناء أولى سفنه القتالية التي دخل على متنها حوض البحر الأسود للمرة الأولى في التاريخ.

ويذكر التاريخ أن بطرس الأول تمكن من عقد اتفاقية مع الإمبراطورية العثمانية تعترف فيها بحقوقه في هذه المنطقة، وهو ما يحرص الرئيس الروسي على الاقتداء به في علاقاته مع أنقرة، على الرغم من كل ما يكتنف استقرار علاقات البلدين من مصاعب، يعود معظمها إلى تضارب المصالح الجيواستراتيجية في المنطقة، ولكونها أحد أعضاء حلف "الناتو"، فضلاً عن استمرار علاقاتها الوثيقة مع أوكرانيا بما فيها ما يتعلق بالمجالات العسكرية والصناعية. ويعود المراقبون إلى التوقف عند ما سبق وقاله بوتين حول أن الاتحاد السوفياتي لطالما وقع في شرك اللهاث وراء ما يحققه الغرب من إنجازات وتقدم. ومن هذه الإنجازات التي أشار إليها بوتين التوصل إلى سر القنبلة النووية، والكثير من الإنجازات العسكرية، التي استطاع الاتحاد السوفياتي الوصول اليها متأخراً عن الغرب، حتى قوله إنه آن للغرب أن يحاول اللحاق بما تحرزه روسيا من إنجازات صناعية عسكرية، ومنها الأسلحة فرط الصوتية والمنظومات الصاروخية الدفاعية، التي قال إن بعضها سيظل عصياً على الغرب، ربما حتى عام 2025.

على أن هناك أيضاً من النقاط التي يجب التوقف عندها في صدد مسيرة بوتين واستئنافه لمحاولات الاقتفاء بخطى إمبراطور روسيا التاريخي بطرس الأكبر، ومن بعده من عظام روسيا. وهنا يتوقف مراقبون كثيرون عند اعتماد بوتين للتاريخ أساساً نظرياً ينطلق منه إلى تحقيق ما يرومه لبلاده من أهداف وإنجازات. وكان هنري كيسنجر عميد الدبلوماسية الأميركية أول من توصل إلى ذلك الوصف العبقري الذي يتداوله العالم اليوم تحت اسم "الإيمان الصوفي" لبوتين بالتاريخ، وهو ذلك الإيمان الذي نعتقد أن بوتين اختاره بديلاً "للعقيدة الشيوعية"، التي استند إليها الاتحاد السوفياتي أساساً لسياساته وتوجهاته لما يزيد على 70 عاماً. ويذكر المراقبون أن التخلي عن هذه العقيدة الشيوعية من خلال إعلان إسقاط "المادة السادسة" من الدستور السوفياتي في عام 1990، وهي المادة التي كانت تكفل للحزب الشيوعي الدور القائد في الدولة، كان من أهم أسباب سقوط الدولة السوفياتية في نهاية عام 1991.

ويبقى أن نستشهد بما يتردد في الساحة الروسية من تفسيرات حول أن بوتين لا يريد العودة إلى الماضي السحيق، بقدر ما يريد إعادة "ضبط حركة التاريخ المعاصر" في إطار المواثيق الدولية، وما يكفل لبلاده من ضمانات أمنية سبق وأودعها مذكرته إلى الإدارة الأميركية و"الناتو" في منتصف نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، في وقت يظل العالم يلتزم الصمت تجاه دول قامت استناداً إلى تاريخ يعترفون أنه يعود إلى خمسة آلاف عام، على أنقاض دول وشعوب، من أبنائها من لا يزال يحتفظ في جيبه بحجة ملكية مسكنه، يعود تاريخها إلى سنوات الاحتلال العثماني!

اقرأ المزيد

المزيد من تقارير