Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

4 سمكات حمر من الفرنسي هنري ماتيس للحظ الحسن والمنظر الجميل وأكثر

لوحة من الشرق وأخرى من الغرب ولكن بعيداً من كيبلنغ والصراع الحضاري المفترض

"داخل إناء السمك الأحمر" لماتيس (موقع غيتي)

كثيراً ما رسم هنري ماتيس أسماكاً في لوحاته، بل إنه زاوج في نهاية الأمر بين الطيور والأسماك الملونة في تلك القصاصات الورقية التزيينية التي ختم بها مساراته الإبداعية كنوع من الدخول في عالم الشكل الخالص من دون مضافرة ذلك الشكل مع أي موضوع، غير أن غياب تلك المضافرة في المراحل الأخيرة من المسار الإبداعي لهذا الفنان الذي عاش وعمل على مفترق الطريق بين القرن التاسع عشر، وذلك الذي بعده، لا يمكنه أن ينطبق على "الدور" الذي يمكن الحديث عنه بالنسبة إلى تلك السمكات الحمراء التي نجدها في لوحات عديدة مبكرة من أعماله، ولكن، بخاصة في لوحتين محددتين انكبّ عليهما دارسو عمله وحياته مستطلعين مكانة السمك الأحمر فيهما متسائلين، مثلاً، عما جعله، وبصورة خاصة، يرسم سمكتين حمراوين في كل منها على الرغم من الفارق الجغرافي الذي يفصل بينهما، وكذلك على الرغم من الفارق الأسلوبي الذي يميز بينهما.

شرق وغرب

ونتحدث هنا تحديداً عن اللوحتين المعروفتين بـ"داخل، إناء سمك أحمر" (1914) و"المقهى العربي" (1913)، وكان يمكننا بالطبع أن نتحدث كذلك عن لوحة "سارة على الشرفة" التي رسمت في عام 1912 لولا أن أسماكها ليست حمراء تماماً، لذا نكتفي بلوحة من الغرب وأخرى من الشرق للدنو من هذا الموضوع الذي لا شك أن بحثه قد حيّر الدارسين، وعلى الأقل، حتى كان تدخل الكاتب بيار شنايدر الذي، عبر إصداره الكتاب الذي بات المرجع الأساسي لدراسة حياة ماتيس وفنه، قدم التفسير الأكثر طرافة وصدقية لحكاية تلك الأسماك، وهنا، قد يكون من المفيد أن نشير إلى أن الإناء الزجاجي الذي تسبح فيه سمكتان في كل واحدة من اللوحتين يحتل مركز الصدارة في المشهد على الرغم من أنه قد لا يشغل سوى مساحة يسيرة منه، لكن الرسام وضعه بشكل يجذب إليه عين المتفرج على الفور، بل كما يقول شنايدر، بشكل يبدو معه، من خلال شفافية زجاج الإناءين، وكأن الأسماك تسبح في الفضاء وتتحرك في فراغ.

كأنها السباحة في الفراغ

مهما يكن، فإن اللوحة الأقدم زمنياً بين هاتين اللوحتين، "المقهى العربي" (210 سنتيمترات عرضاً مقابل ارتفاع يصل إلى 176 سنتيمتراً، وتوجد اليوم بين مقتنيات متحف "هيرميتاج" في سانت بطرسبورغ)، تبدو في مجملها ذات مناخ هلامي وكأنه مشهد غير مادي، حيث وحدها الأعمدة في خلفية اللوحة تتسم بطابع مادي، بيد أن الأهم هنا هو أن المشهد نفسه، أو على الأقل الجزء منه الذي يشغله زبونان عربيان وسط اللوحة، يبدو متحلقاً تماماً من حول الإناء الذي تسبح فيه السمكتان في وقت يتأمل الزبونان منظرهما في صمت تبجيلي، هما اللذان يلفت الباحث شنايدر نظرنا إلى كم أنهما بدورهما يبدوان وكأنهما عائمان في الفضاء في نوع من التساوق مع عوم سمكتيهما.

وكل ذلك في أسلوب بالغ التبسيط. يقول شنايدر إن ماتيس إنما استعاره أصلاً من تلك المنمنمات الفارسية التي كان قد اكتشفها في ميونيخ الألمانية قبل سنوات حين التقى خلال معرض كبير أقيم هناك، وللمرة الأولى بتلك الفنون الإسلامية التي ستطبعه تزيينيتها حتى نهايات حياته، كما ستمهد كذلك إلى التقائه الأوسع ليس فقط بالفنون الإسلامية هذه المرة، بل كذلك بالمناخ الإسلامي نفسه من خلال زياراته اللاحقة، بخاصة لتونس وبقية أنحاء الشمال الأفريقي، وهي الزيارات التي ستترك عليه تأثيرات دائمة.

جزء من ثلاثية

وفي عودتنا هنا إلى هذه اللوحة التي تنتمي مباشرة إلى مرحلة ماتيس العربية، إن جاز لنا القول، يمكننا أن نلاحظ مع شنايدر أن "المقهى العربي" لوحة يمكن أن تقرأ بصورة إجمالية كجزء من تلك الثلاثية التي تصور نوعاً من صمت غارق في حركة هلامية ميتافيزيقية، الثلاثية التي تضم إلى "المقهى العربي" لوحتين كبيرتين أخريين لماتيس هما "الرقصة" و"الموسيقى"، وهما معاً لوحتان رسمهما ماتيس قبل "المقهى العربي"، أي تباعاً في العامين 1909 و1910، وتزيدان عن اللوحة الأولى حجماً، علماً بأن اللوحات الثلاث معلقة بكل تبجيل في متحف "هيرميتاج" الروسي وتعتبر من مفاخره.

أما بالنسبة إلى مكانتها في مسار ماتيس، فإنها تعتبر من ذرى المرحلة الميتافيزيفية في فنه بعيداً من مراحله الأخرى، سواء أكانت مرحلة الضواري السابقة أو مرحلة الأشكال التزيينية اللاحقة، ويمكننا، على أية حال، أن نرى أن لوحاته الثلاثية مهدت بشكل أو بآخر لتلك المرحلة التزيينية من خلال الصمت الذي توحي به حتى في قلب اللعبة الموسيقية ولعبة الرقص كما من خلال جلسة المقهى التي قد نستغرب الصمت الذي توحي به، والذي لا شك فيه هنا هو أن كل هذا سيقودنا حتماً إلى التساؤل حول سمكتي اللوحة وعلاقتهما بسمكتي اللوحة التي تلتها زمنياً، والتي على الرغم من هذا القاسم المشترك، تبدو منتمية جغرافياً، ومن ناحية الدلالة إلى عالم يختلف تماماً عن عالم "المقهى العربي"، فما دور الأسماك هنا؟

السمك الأحمر وفن الرسم

في لوحة "داخل، إناء السمك الأحمر"، لدينا مشهد أوروبي تماماً، إذ لدينا معاً ثلاثة عناصر لطالما شكلت لوازم أساسية في لوحات ماتيس: النافذة، والمحترف، إضافة إلى حضور السمكتين، ولكن، ضمن إطار جغرافية مادية بحتة حيث تطل النافذة بدورها على خارج مفعم بالتلوين في انطلاقة من داخل أمعن الرسام في تلوينه والتشديد على الوجود المستقل لكل عنصر من عناصره، لدينا هنا فضاء يكاد يكون واقعياً معاكساً تماماً لفضاء "المقهى العربي"، ولكن لدينا، في الوقت نفسه، السمكتان تسبحان كما تفعل أختاهما في اللوحة الأخرى، ولكن، في ما تفعلان ذلك، في اللوحة العربية، وكأنهما تسبحان في فضاء خاوٍ، كما حال الراقصين في لوحة "الرقصة" والموسيقيين في لوحة "الموسيقى"، ها هما سمكتا اللوحة الأوروبية تسبحان في ماء ركزت على وجوده ألوان ماتيس بشكل مغرق في واقعيته، فلم تعودا هنا سابحتين في الفراغ الهلامي، بل في مادة تظهر قوة لونهما والديناميكية المادية لتحركهما.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وبهذا المنطق، نكاد نجدنا أمام ما يوحي فكرياً بمادية الغرب مقابل روحية الشرق، وطبعاً، لن نصل هنا إلى مثل هذا التفسير طالما أننا على يقين من أن ماتيس لم يقصده هو الذي من المؤكد أن مثل هذه الفكرة الكبلينغية، نسبة إلى الكاتب الإنجليزي كيبلنغ الذي قال مرة إن اللقاء لا يمكن أن يتم أبداً بين مادية الغرب وروحانية الشرق، لم تخطر في باله.

في الأحوال كافة، يمكننا على أية حال أن نفترض مع الباحث بيار شنايدر، أن ماتيس قد جعل السمكتين الحمراوين قاسماً مشتركاً بين هاتين اللوحتين اللتين قد يفرق بينهما كل شيء آخر، كتعبير عن حسن الحظ وفرح الحياة انطلاقاً من تلك المقولة التي تنسب السعادة والوفر والعطاء لهذا النوع من السمك، إذ تسمى السمكة الحمراء في الإنجليزية عادة "السمكة الذهبية"، ناهيك بذلك القول الذي يتحدث عن سعادة المرء، "إنه سعيد سعادة سمكة في الماء"، أو هذا على الأقل ما يقوله لنا شنايدر في كتابه "العمدة"، مؤكداً أن ماتيس كان بالتأكيد يعرف تماماً أن السمك الأحمر يعتبر دائماً الإشارة التي لا تخطئ إلى استتباب الرخاء والسعادة وحسن الطالع، ولنضف إلى هذا ما تم التعارف عليه في عالم الفن منذ العصور القديمة من أن الأسماك الحمراء، أو الذهبية تبعاً للمناطق، إنما هي دائماً كناية عن الفن وعن حسن الطالع، ولا يمكن لهذا ألا يكون قد خطر على بال ماتيس، وهو يرسم سمكاته في لوحاته هذه كما في غيرها.

إقبال روسي

ولد هنري ماتيس في اليوم الأخير من عام 1869 في كاتو كامبريسيس الفرنسية، وبدأ حياته دارساً الحقوق، لكنه حين بلغ الـ21 من عمره، شعر فجأة أنه يجب أن يتحول إلى الرسم، ففعل وانتقل إلى باريس حيث التحق بأكاديمية جوليان، وهو بعد تركه هذه الأكاديمية العريقة التحق بمحترف غوستاف مورو ليتابع مساره الفني منذ ذلك الحين وحتى رحيله عام 1954 متنقلاً من مرحلة إلى أخرى، ولكن دائماً في استقلالية كانت سرعان ما تبعده عن تيارات ومدارس يسهم في تأسيسها، وهو خلال ذلك المسار، عرف شهرة ونجاحاً كبيرين، ولا سيما حين اكتشفه الجامعون من الأثرياء الروس، فامتلأت مجموعاتهم بلوحاته ما يفسر وجود عدد كبير من لوحاته اليوم في سانت بطرسبورغ وموسكو، وغيرهما.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة