Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

مركز بومبيدو يحتفي بفتوحات هنري ماتيس التشكيلية

معرض استعادي شامل في ذكرى 150 عاماً على ميلاد الفنان الذي أخضع الرسم لتحولات لا متناهية

في قمة إبداعه تخلى ماتيس عن البعد التجريبي وعاد إلى المشهد الطبيعي والتصوير الواقعي (الخدمة الإعلامية في المعرض)

"تقاس أهمية الفنان بكمية العلامات الجديدة التي يدخلها على اللغة التشكيلية"، قال مرة الرسام الفرنسي هنري ماتيس (1869 - 1954) للشاعر لويس أراغون. وخلف هذه العلامات سعى منظمو معرضه الحالي في "مركز بومبيدو" (باريس) الذي يقام بمناسبة مرور 150 عاماً على ولادته، ويتوق إلى إعادة خط مسيرته الفنية بكل مراحلها وكشف دوره الرائد في بلورة جماليات عصره، من خلال 230 عملاً فنياً له وعدد كبير من الوثائق المرجعية.

عنوان المعرض، "ماتيس، مثل رواية"، مستقى من عنوان الكتاب الذي وضعه أراغون حول الفنان، "هنري ماتيس، رواية" (1971). وكما في هذا الكتاب، تسمح صالات المعرض الثماني بالغوص داخل عمل هذا العملاق وبتكوين فكرة دقيقة عنه انطلاقاً من النظرة التي ألقاها عليه ثمانية شعراء ونقاد كبار، هم: أراغون، وجورج دوتوي، ودومينيك فوركاد، وكليمان غرينبرغ، وشارل لويس هيند، وبيار شنيدير، وجان كلاي، إضافة إلى ماتيس نفسه.

وكمقابل لهذه القراءات، يسائل المعرض أيضاً علاقة الفنان بالكتابة، ليس فقط من خلال مفرداته التشكيلية، بل اللغوية أيضاً. ولا عجب في ذلك، فهاجس إنارة سيرورة إبداعه، الذي تسلط عليه طوال حياته، دفعه إلى ممارسة الكتابة بانتظام، وأنجب بالنتيجة ماتيس الكاتب.

بحثاً عن لغة جديدة

في الصالة الأولى، يتبين لنا أن ماتيس، منذ بداياته، نوّع مصادر تعليمه ووحيه. فبعد أكاديمية "جوليان" التي دخلها عام 1891، واكتشف فيها ميله إلى موضوع العري وللدقة في الرسم، انتقل عام 1892 إلى محترف "غوستاف مورو" بحثاً عن فضاء حرية يحول دون تحول قواعد عمله الصارمة إلى منهج، قبل أن يتوجه إلى بريتانيا عام 1895، ثم إلى كورسيكا عام 1898، لممارسة الرسم في الهواء الطلق وضمن أنوار مختلفة.  وفي كل مرة كان يتخذ أسلوبه هوية محددة، كان يتخلى عنه ويغير وجهته لإدراكه أن تلك الفترة كانت فترة تدريب، ولا بد بالتالي من الاختبار خلالها انطلاقاً من تأثيرات فنية مختلفة للعثور على "لغته" الخاصة.

 

 

في الصالة الثانية، نشاهد الانقلاب الذي حصل في عمله عام 1905. وفعلاً، بعد سنوات من التدريب تتميز بمحاورة مستمرة لأبرز حركات عصره الفنية، توجه ماتيس إلى مدينة كوليور، ونشط مع الرسام أندريه دوران بهدف تحرير اللوحة من التمثل التقليدي (mimétique) للموضوع المعالج فيها. وفي هذا السياق، حرر خطوطها من وظيفة تحديد ملامح الأشياء الماثلة فيها، ومسطحاتها اللونية من وظيفة تحديد فضائها، تاركاً للعلاقات بين ألوانها الصافية مهمة تشكيلها.

وفي الثالثة، نرى كيف عثر الفنان على جوانب من حداثته التشكيلية في أعمال يردنا طابعها "البدائي" إلى أصول الفن الأوروبي بقدر ما يردنا إلى فنون غير أوروبية. وبعيداً عن أي حنين إلى الماضي أو عن افتتان بفنون أجنبية، ما أثار اهتمامه بهذه الأعمال هو حداثة أشكالها. ففي السجادات والأقمشة الشرقية، حفظ تراكب المسطحات الذي لا يعير أي اهتمام لهاجس الأمانة للأشياء الممثلة. وفي المنحوتات الأفريقية، حفظ ذلك التوازن بين الأحجام القادر على تجديد النموذج الكلاسيكي للعري. وفي الفسيفساءات البيزنطية، حفظ ذلك التبسيط في الأشكال والأحجام، وذلك التمثيل للفضاء الذي لا يهجس بالأبعاد الثلاثة.

زخرف وتجريد

الصالة الرابعة مرصودة للتطورات التي طرأت على عمل ماتيس قبل الحرب العالمية الأولى، تحديداً ابتكاره فضاءً زخرفياً يلامس أحياناً التجريد، وتبنيه خلال هذه الحرب توجهات تشكيلية جديدة ذات راديكالية مدهشة، كصهره داخل لوحاته الفضاء التشكيلي والفضاء الواقعي، ولجوئه إلى اللون الأسود كوسيلة تعبير عن مشاعره، وإنجازه بورتريهات تعكس شبهاً عميقاً وليس سطحياً بأصحابها. بالتالي تنم عن معرفة عليا، تأملية وملغزة.

وفي الخامسة، يتبين لنا كيف تخلى عام 1918، في قمة إبداعه وشهرته، عن البعد التجريبي في عمله للعودة إلى المشهد الطبيعي والتصوير الواقعي. قرار مدحه بعض النقاد بوصفه عودة إلى التقليد الفني الفرنسي الكبير، وانتقده بعض آخر كفرملة لتقدمه السابق والباهر، بينما هدف الفنان من خلاله إلى إعادة النظر بحداثته المكتسبة عبر لوحات لا يرتكز تشكيلها على علاقة الألوان في ما بينها، بل على النور الذي يقولب موضوعها، ويخلق وحدة جديدة لسطحها ضمن توازن في حالة توتر دائم.

 

 

في الصالة السادسة، نرى كيف عبر ماتيس عام 1930 من "رسم حميمي" يمجد الشكل عبر إخضاعه لتحولات لا متناهية، إلى رسم "هندسي" يفرض رؤية للأشياء من بعيد، ويؤدي حتماً إلى انبثاق العلامة. علماً أن الشكل والعلامة تعايشا حتى النهاية داخل عمله، ودراسته الثابتة لأشكال الأشياء هي التي آلت به إلى اختصارها بعلامات.

وفي السابعة، نشاهد الفتوحات التشكيلية الجديدة التي قادها بعد عملية جراحية لامس خلالها الموت، وفي مقدمتها "مشاهد داخلية في بلدة فانس" (1946 - 1948) التي ألغى فيها العمق الفضائي للوحة لصالح "منظور عاطفي" تبدو فيه الأشياء وكأنها هي التي تسكن الفنان لا العكس. أعمال تعتبر الأخيرة التي أنجزها على مسند، وذهب في تأجيج نبرة ألوان سطوحها إلى حدود التوهج.

الأوراق المقطعة

ولأنه يتعذر عبور مسيرة ماتيس الفنية من دون التوقف عند ما اعتبره تحفته الفنية، أي "كنيسة فانس الدومينيكية للمسبحة الوردية"، كرست الصالة الثامنة لهذا العمل الكلي الذي يشكل تتويجاً لبحثه الثابت عن توازن الرسم واللون. عمل لم يقتصر على تصميم هندسة الكنيسة الصغيرة المذكورة، بل طاول ديكورها وزجاجها وحتى القطع والملابس الليتورجية.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

هكذا جاءت الكنيسة على شكل فضاء مفتوح تزينه من جهة رسوم ثلاثة سوداء على بلاط سيراميك أبيض لامع، يمثل اثنان منها القديس دومينيك والعذراء مريم حاملةً الطفل يسوع الذين اختصر الفنان وجه كل منهم بخط صاف يقابله الخط المقطع لدرب السبيل على الرسم الثالث؛ ومن جهة، زجاجيات (vitraux) مصممة بتقنية "الورق المقطع"، ولا تحمل سوى ألوانها الزرقاء والصفراء والخضراء النيرة.

وتختم المعرض نماذج من "الأوراق المقطعة" التي انطلق ماتيس في إنجازها عام 1943 في كتابه الشهير "جاز"، واعتمد تقنيتها بشكل منهجي في السنوات الأخيرة من حياته بسبب تنامي ضعف نظره، لكن أيضاً لتلبيتها طموحه الثابت في بلوغ حصيلة بين اللون والشكل. تقنية استبدل فيها الريشة بالمقص من دون أن يفقد رسمه شيئاً من سيولته ورشاقته، ومكّنته من التحكم مجدداً بتمثلاته التصويرية ومن التلاعب بإضاءة لوحاته، كما في مراحل عمله السابقة، وبالنتيجة، من إثارة دهشتنا وإعجابنا بارتجالات شكلية ولونية باهرة.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة