قبل صعودها على متن أحد المراكب، التي تقل مهاجرين سرّيين بحراً، تركت فتاة جزائرية تدعى كوثر قيناد، تبلغ من العمر 16 سنة، رسالة وداع مكتوبة لأسرتها. تقول فيها "آسفة أبي، آسفة ماما، قررت تجريب حظي ما وراء البحر، سئمت من حياة البؤس والحرمان، وسأتصل بكما حالما أصل، أدعُوَا لي". حررتها بتاريخ 18 مايو (أيار) الحالي.
الرسالة، أدخلت والدها المستشفى من هول الصدمة، فالفتاة التي تنحدر من مدينة وهران الساحلية غرب الجزائر، قصدت وجهة غير معلومة، ووالدها انتظر قدومها مساءً كعادتها، إلى أن عثر على رسالة الوداع التي تركتها له ولأمها.
ولا تزال الفتاة القاصر محل بحث، إذ لم تتصل بعائلتها منذ مغادرتها المنزل، وفي تصريحات نقلتها جريدة "الشروق" الجزائرية على لسان والدها، قال إنه "فقد طعم الحياة بعد فقدانه لكوثر، البنت المطيعة الطيبة، التي لم تفارقه لحظة، وفضلت العيش معه بعد انفصاله عن والدتها".
وأضاف الوالد أن الفتاة كانت تعيش معه في ظروف عادية "لم تشكُ يوماً من أية مشكلة، ولم تطلب حاجة إلا ولبّيتها لها"، وعلى الرغم من صعوبة الحياة من دون شريكة، فإنه وجد في بنته الثانية كوثر الصديقة والرفيقة والبنت المطيعة الوفية، لكن عندما غابت عن البيت صار جحيماً يصعب البقاء فيه، مطالباً كل من يمكنه المساعدة ألا يبخلهم ذلك، كما ذكرت الصحيفة.
نقاش صامت
هزت قضية كوثر الرأي العام الجزائري، وتداولت منابر إعلامية عدة قصتها، إذ تأخذ ظاهرة الهجرة غير الشرعية النسوية في البلاد "طابعاً غير مرئي" أو "نقاشاً خفياً" يحتاج إلى إضاءات "سوسيوثقافية" واجتماعية وحتى اقتصادية لتشخيص الظاهرة، كما يقول متخصصون في ظل كثرة الأسئلة عن دوافع اقتحام النساء ما يُصطلح عليه شعبياً بـ"الحراقة".
وارتبطت الهجرة غير الشرعية في المخيال الشعبي بالرجال لاعتبارات تبدو منطقية في نظر كثيرين، وبعيدة من التمييز بين الجنسين، كون هذا السلوك الذي يحمل مجازفة يتطلب طاقة لتحمّل المصاعب وقدرة بدنية، إضافة إلى الأعراف الاجتماعية التي لا تتقبل إقدام الفتيات على خطوات مماثلة.
ومنذ فترة، وفي كل مرة يتم فيها الإعلان عن إحباط محاولة هجرة غير شرعية، يتضح أن من بين المهاجريين نساء، سواء قررن خوض هذه التجربة المحفوفة بالمخاطر بمفردهن أو مع أولادهن وأزواجهن، وإن كانت الأرقام الخاصة بهن غائبة في التقارير التي تُعنى بالهجرة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
الهجرة الذهنية
من الصعب الوصول إلى عينات من نساء قررن الهجرة بطريقة غير شرعية أو على الأقل هي عملية معقدة قد تتطلب وقتاً وثقة متبادلة للحديث عن قصصهن إلى وسائل الإعلام، لكن المعلومات المتوافرة تفيد بأن النسوة عندما يتخذن هذا القرار لا يتراجعن عنه، وفي سلوكهن جانب من التحدي والرغبة بإثبات الذات، فلكل واحدة قصتها ودوافعها.وتوضح شهادات لنساء قررن الهجرة غير الشرعية، نقلتها وسائل إعلام جزائرية في وقت سابق، أنهن أقدمن على هذه الخطوة لمقاومة التهميش وهروباً من الضغوط الاجتماعية وبحثاً عن الاستقلالية الذاتية، خصوصاً بالنسبة إلى النساء المطلقات اللاتي أصبحن يتهربن من "أقاويل الناس" التي لا ترحم.
لكن في الجهة المقابلة، يقول متخصصون لـ"اندبندنت عربية" إن شعار إثبات الذات والمغامرة بالهجرة إلى بلد آخر قرار ارتجالي بعيد كل البعد من البراغماتية، ويشير هؤلاء إلى أن مواقع التواصل الاجتماعي لها دور بارز في تفشي هذه الظاهرة، إذ يبدأ التفكير في الهجرة ذهنياً، من خلال التأثر بالحياة الاستهلاكية المعروضة على المنصات الاجتماعية، التي تصور حياة الرفاهية والتحرر الذي يمكن أن تصل إليه المرأة وهي في الضفة الأخرى، ما يؤدي إلى تشجيعهن على مغادرة بلدانهن.
تبريرات دينية
يجد المهاجرون بطريقة غير نظامية تبريرات "دينية"، إذ يعتبرون أن مغامرتهم بركوب قوارب الموت وجه من أوجه السعي لحياة أفضل، وترتبط رغبة النساء منهن بتحسين نوعية حياة عائلاتهن، ما يكسبهن مكانة اجتماعية مرموقة ويعزز موقعهن في المجتمع الأصلي، بالتالي فإن فرضية موتهن ما هي إلا قضاء وقدر، بحسب اعتقاد السائد، إذ يتمسّكن بمقولة مشهورة في الجزائر: "ياكلني حوت البحر ولا ياكلني الدود" (يأكلني حوت البحر بدل دود القبر).
وكانت الجزائر أصدرت في وقت سابق عن طريق المجلس الإسلامي الأعلى فتوى تحرم الهجرة غير الشرعية، أيدتها وزارة الشؤون الدينية والأوقاف، وذلك على خلفية تنامي ظاهرة هجرة الجزائريين بطريقة سرية إلى أوروبا، كما سنت السلطات قوانين صارمة لمحاربة الظاهرة، وجرمت كل من يحاول الهجرة بالسجن.
وتتهم السلطات الجزائرية عصابات منظمة بتجنيد الناس للهجرة السرية من أجل جمع المال، عبر تقديم وعود كاذبة للشباب وإيهامهم بأنهم سيجدون جنة خارج وطنهم، كما جاء على لسان الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون، خلال زيارته إلى إيطاليا الأربعاء 25 مايو، عندما تأسف في لقاء جمعه مع الجالية الجزائرية، "لوقوع بعض المواطنين فريسة لهذه العصابات".
وأكد تبون أن بلاده تسعى بكل الوسائل إلى حراسة الحدود والشواطئ ومحاربة منابع تغذية هذه الظاهرة"، التي يقول خبراء إنها تتطلب وضع استراتيجية تنموية واضحة لامتصاص البطالة والاستثمار في الشباب والكفاءات في الشغل وتحسين الخدمات.