Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"وصايا" الكتاب اللاتينيين في المئوية الخامسة لـ"اكتشاف" أميركا

ثلاثة أصوات بين الغضب والتسامح والعمل المستقبلي لمحاكمة الماضي أو نسيانه

كولومبوس وقد مد إليه الهنود الحمر أذرعهم مرحبين (غيتي)

في مثل هذه الأيام تماماً من عام 1992 أي قبل ثلاثين عاماً من الآن احتفلت أميركا بما سُمي يومها "المئوية الخامسة" لـ"اكتشاف" القارة وتحديداً على يد كريستوف كولومبوس. وحين نضع كلمة "اكتشاف" بين معقوفتين فما هذا بالطبع إلا لأن مفهوم الاكتشاف نفسه، إنما هو مفهوم غربي كان ولا يزال يثير سجالات تحتد حيناً وتخفت في بعض الأحيان، لكنها اشتدت إلى أقصى الحدود في عام الذكرى. أما حين نتحدث عن احتفال أميركي بالمناسبة، فيجدر بنا أن نحدد أن جنوبي القارة، أي نصفها اللاتيني كان المعني خصوصاً بالاحتفال، كما أن الاحتفال لم يعتبر دائماً مناسبة سعيدة إضافة إلى أن "المحتفلين" كانوا في أغلبهم من مثقفي القارة اللاتينية من الذين لا بد أيضاً من الإشارة إلى أن جوهر احتفالهم كان سلبياً. أما في الشمال، لدى "اليانكي" فساد نوع من لا مبالاة أو اهتمام خجول لم يرق إلى مستوى الاحتفال، ولو كان احتفالاً نقدياً.

الكلمة الفصل من ليفي – ستروس

وطبعاً ليس من شأننا هنا أن نمعن في تفسير مجريات ومواقف باتت بديهية من ناحية السجال حول مفهوم الاكتشاف، أو من حول استذكار الإبادات الجماعية التي نتجت عن ذلك الغزو الأوروبي الأبيض الذي كانه ذلك "الاكتشاف" في حقيقة أمره، أو من حول الدمار الذي طال حضارات كانت ذات شأن قبل وصول السينيور كولومبوس وبحارته والغزاة الذين تلوه، أو حتى الاستناد إلى العالم الأنثروبولوجي الفرنسي الشهير كلود ليفي ستروس الذي نعى، لا سيما في كتابه "حكاية اللنكس" و"الخزافة الغيورة" على الغرب إضاعته فرصة التآخي التي بادأه من سموا "الهنود الحمر" بها حين وصل ومستوطنوه إلى القارة ففتح سكان البلاد أيديهم مرحبين بـ"التوائم الآتين من الشرق" فإذا بالسيوف والرماح والرصاص تنطلق لتبيدهم. كل هذا لن نتوقف عنده طويلاً فقد بات من نافل القول وجرى الحديث عنه أنهاراً خلال السنوات الثلاثين التالية للاحتفال.

كتاب على الخط

لكننا سنتوقف عند مواقف عبر عنها في تلك المناسبة ثلاثة من كبار الكتاب الأميركيين اللاتينيين إذ راحت الصحافة الأوروبية واللاتينية تسألهم رأيهم في المناسبة. وحينها كان كل واحد منهم يشغل مكانته في الكتابة باللغة الإسبانية ضمن إطار فورة الاهتمام الكبرى بكل ما كان يصل إلى "العالم الخارجي" من الإبداع الأميركي اللاتيني، ونتحدث هنا عن البيروفي ماريو بارغاس يوسا الذي سيحوز بعد ذلك جائزة نوبل الأدبية وينتج عدداً كبيراً من تحف روائية وكتب سياسية تضعه في مكانة متقدمة؛ وكارلوس فوينتيس الذي حتى وإن لم يفز بنوبل لم يرحل عن عالم إلا مكللاً بمجد روائي كبير ومكانة سياسية نضالية متقدمة على مستوى القارة كلها؛ وأخيراً إدواردو غاليانو الذي انطلق من وطنه الأوروغواي ليشمل بدراساته الأنثروبولوجية الاتهامية العنيفة كل ما حدث في القارة اللاتينية، وربما خصوصاً انطلاقاً من كتابه الأول الكبير "شرايين أميركا المفتوحة" وما تلاه من كتابات مماثلة شكلت بيانات اتهام ضد الهيمنة الأوروبية على مقدرات القارة اللاتينية، كما ضد الدمار الممنهج الذي طال تلك القارة، بل حتى حضارات الشمال الأميركي الماقبل– كولومبي، بحيث كان من كبار حاملي لواء إعادة النظر في التاريخ المدون. وهو لواء ظل يحمله ويكتب عنه حتى رحيله. ولقد بقي لدينا من هذا الثلاثي المنصف بارغاس يوسا وحده. ولكن هل مهم كثيراً أن يكون زميلاه قد رحلا وهما يخوضان معركتهما كل منهما على طريقته؟ أبداً فكتاب أميركا اللاتينية أصحاب تلك القضية التي لا تموت هم في نهاية الأمر من صنف أولئك الشعراء الذين تشبههم قصيدة لجان كوكتو بالطيور الذين يبقى نشيدهم محلقاً في فضاءات الكون بعدما يرحلون.

وصايا فكرية

وفي الأحوال كافة لا ريب أن مداخلات كل منهم في تلك المناسبة "الاحتفالية" أتت على شكل وصايا فكرية وذلك بدءاً من بارغاس يوسا الذي أكد "أننا لكي نتحمل تبعات الوجود الأبيض في القارة اللاتينية ونتعايش معه، علينا التأكيد أن نتحمل ما يلقيه علينا من مسؤوليات تاريخية" منبهاً إلى واقع لا يحب أن يتم تناسيه وهو أن "جدودي البيض الذين وصلوا إلى القارة الجديدة عرفوا كيف يتمازجون معها وكيف يجعلونها وطناً نهائياً لهم، بحيث كانت النتيجة، في رأيه، أن أضحت تلك المنطقة الجديدة نوعاً من الامتداد لأوطانهم القديمة، امتداد يجد جذوره في تربة شبه الجزيرة الإيبيرية". وهذا التواصل ما كان من شأنه إلا أن "ترك طابعه على الهنود الأميركيين؛ فتماماً كما أن الأوروبيين انطبعوا بحياتهم في الأوطان الجديدة ما وراء المحيطات متبنين الطابع المحلي والطقوس، كذلك فإن الهنود من السكان الأصليين انطبعوا بما جاء به الأوروبيون عموماً والإسبان خصوصاً، ما خلق أول عولمة حقيقية في التاريخ". ويتابع يوسا أن تلك النتيجة ينبغي "ألا تحول بيننا وبين محاكمة الماضي وتعلم الدروس من الكوارث التي تركها شرط ألا نبقى أسرى ذلك الماضي بشكل يمنعنا من بناء حاضر مشترك".

نحو الاهتمام بالمستقبل

لكن فوينتيس لا يبدو متفقاً بإفراط مع هذا الموقف التصالحي المهادن الذي رأى فيه انعكاساً لرغبات يحملها فارغاس يوسا، الساعي في ذلك الحين إلى لعب أدوار سياسية "وسطية" من شأنها أن تحمله إلى رئاسة البيرو، ومع ذلك يرى أن علينا على أي حال أن نترك الماضي للماضي، ولو لبعض الوقت "وعلى الأقل حتى يمكننا أن نفكر في المستقبل وكيف ينبغي علينا أن نصنعه معاً؛ ومعاً رغم كل شيء". ومن هنا، "دون أن نقول عفى الله عما مضى، يتابع فوينتيس، علينا أن نستخلص من هذه الذكرى دروساً مفيدة للمستقبل. هذا المستقبل المرهون على أي حال بقدرة أميركا اللاتينية على الاتحاد. فأبناء شعوب هذه القارة، ومهما كانت أعراقهم وألوانهم، يمتلكون اندفاعة انطلاق حقيقية، خصوصاً أن الأمة والثقافة وحتى اللغة تتطابق هنا من دون التوقف طويلاً عند الفوارق بين الإسبانية والبرتغالية– لغة البرازيل طبعاً– ونحن لا ندين بهذا فقط إلى كتابنا وفنانينا، بل حتى الكبار من سياسيينا الذي لا يغيب عن بالهم أن الزمن بات زمن الاقتصاد، وليس زمن الأيديولوجيا. ونعرف جميعاً أن التقارب الاقتصادي بين أمم القارة كفيل بأن ينقذنا من أخطار عولمية تبدو فاغرة فاهها لالتهامنا...".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

الكتاب المقدس والأرض

في مقابل هذين الصوتين يحب إدواردو غاليانو أن يبدأ إجابته بما يقتبسه عن رجل الدين الجنوب أفريقي الكبير الكاردينال دزموند توتو حين قال مرة وهو يبتسم متحدثاً عن غزو الأوروبيين البيض أفريقيا السوداء: "لقد وصلوا إلى ديارنا حاملين الكتاب المقدس، بينما كنا نحن نمتلك الأراضي. قالوا لنا: أغمضوا عيونكم ففعلنا، وحين فتحناها اكتشفنا أنهم هم من يمتلكون الأرض الآن فيما صار الكتاب المقدس في حوزتنا". ويعلق غاليانو بقوله: "إن هذه الحكاية نفسها تنطبق على غزو البيض القارة الأميركية. حيث يجب أن نتذكر دائماً أن هنود هذه القارة هم الذين وقعوا ضحية أكبر عملية نهب عرفها التاريخ هم الذين لا يزالون حتى اليوم محرومين من آخر القطع التي تبقت لهم بعد تفاقم عملية النهب، إضافة إلى كونهم لا يزالون مكرهين حتى اليوم على إنكار هويتهم التي هي في أساس اختلافهم. لا يزال ممنوعاً عليهم أن يعيشوا على طريقتهم وتبعاً لعوائدهم، ما يعني، ودائماً بحسب غاليانو، أنهم محرومون حتى من حقهم في الوجود"، والملفت في نظر غاليانو أن عمليات النهب والسلب التي كانت تتم في البداية باسم السماوات سرعان ما باتت تتم باسم التقدم والمسار الحضاري إلى الأمام، بعد أن لم تعد السماوات قادرة على خدمة الغزاة ضد الشعوب التي اكتشفت أنه يمكن للسماء أن تكون إلى جانبها. ومهما يكن من أمر، يضيف غاليانو هنا مذكراً بأن الكنيسة نفسها "أقرت باكراً منذ عام 1537 أن الهنود الحمر يمتلكون روحاً وعقلاً، لكنها لم تتوقف عن مباركة ما يقترف من مجازر ودمار في حقهم، ساكتة عن ضروب النهب لأن السياسيين والعسكر أصحاب القرار الحقيقيين لم يبالوا بما جددته الكنيسة فواصلوا اعتبار الهنود من طبقات دنيا يستحوذ عليهم الشيطان في حلهم وترحالهم، ما يجعل من الضروري حرمانهم مما يمكن أن يستعيده منهم الشيطان...".

المزيد من ثقافة