Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

يوم رحب هنود أميركا بمجيء كولومبوس فبادرهم رجاله بمذبحة مدمرة

ليفي ستروس ينعى على الغرب رفضه التوأمة في ذكرى اكتشاف العالم الجديد

لوحة تجسد لحظة وصول كريستوف كولومبوس إلى القارة الأميركية (غيتي)

في عام 1992 احتفل العالم بالمئوية الخامسة لما يسمى "اكتشاف" كريستوف كولومبوس للقارة الأميركية. ويومها تبارت الصحف والمطبوعات المتخصصة وغير المتخصصة في الطلب من عدد من كبار علماء ومفكري أميركا اللاتينية خصوصاً، أن يكتبوا نصوصاً حول تاريخية ذلك "الاكتشاف" وأهميته في تاريخ البشرية، على اعتبار أنهم هم المعنيون بالمسألة أكثر من سواهم. وفي الوقت نفسه، كان عالم الأناسة الفرنسي كلود ليفي ستروس واحداً من أكثر العلماء من غير الأميركيين إسهاماً في تلك "الذكرى"، حيث تدافع نحوه الباحثون والصحافيون يطلبون منه أن يدلي بدلوه في الموضوع. وكانت الصدفة قد جعلت هذا الباحث الفرنسي الثمانيني حينها، يصدر كتابين أساسيين حول هذا الموضوع هما "الخزافة الغيورة" و"حكاية القط البري"، ومن هنا كان ينصح سائليه بأن يستشيروا كتابيه هذين ليحصلوا على ما يشاؤون من إجابات.

كيف نفهم علاقة عرجاء؟

غير أن تلك الإحالة لم تمنعه من التركيز على حكاية تاريخية كثيراً ما يذكرها في كتبه ودراساته، وفي رأيه أنها تحمل مفتاحاً أساسياً لفهم العلاقة "العرجاء" التي قامت بين الغرب والمناطق التي "اكتشفها" وليس فقط في أميركا. وإن كانت الحكاية المشار إليها أميركية، فحين وصل كولومبوس وبحارته إلى أول أرض أميركية وطؤوها، فوجئوا بالسكان يتجمعون مستقبلينهم بالترحاب، فكان رد فعلهم، ربما لخوفهم من أن يكون في الأمر فخ أو ربما لرفضهم تلك الأريحية يبديها "همج" تجاههم، كان أن هاجموا مستقبليهم وراحوا يذبحونهم!

في تفسيره لهذه الحكاية، يقول ليفي ستروس دائماً إنها تتعلق برفض الغرب للتوأمة التي كانت تطالبه بها الشعوب الأخرى، ناعياً على ذلك الغرب قصر نظره والفرص الضائعة التي حالت بينه وأن يبني مع الآخر رباطاً إنسانياً حقيقياً. ويمكننا أن نقول إن الكتابين اللذين أشرنا إليهما يفصلان هذه الفكرة، ويمكننا اعتبارهما أقسى محضر اتهام وإدانة ضد تلك الممارسات الغربية.

غير أن هذه الفكرة لا يمكن اعتبارها جديدة لدى ليفي ستروس، بل يمكننا أن نعود مثلاً إلى نص قديم له هو "العرق والتاريخ" الذي وضعه بطلب من "اليونسكو" قبل أكثر من نصف قرن، وسيصبح ذا شهرة كبيرة لاحقاً، فقد كتب، "إن الحضارات التي نثني اليوم، في صورة جماعية، على أدائها بالنسبة إلى منظومة التراتيبات الاجتماعية كما بالنسبة إلى منظومة إنتاجها الرمزي، ومنها مثلاً حضارة مصر القديمة، وحضارة بين النهرين وفارس والإغريق والهند والصين، وإمبراطوريات وادي النيجر، وصولاً إلى الآزيتك والمايا، كل تلك الحضارات كانت كبيرة وعظيمة، ليس بفضل عبقرية معينة تمتع بها عرق من الأعراق، بل لأن البشر الذين بنوا تلك الحضارات وعاشوا في داخلها، عرفوا كيف يستفيدون من العناصر التي وفرتها لهم شتى الثقافات، فعمدوا إلى توليد توليفة في ما بينها". أي بكلمات أخرى، إن الحضارات الكبرى هي تلك التي وجدت نفسها عند نقطة تلاقي تأثيرات شديدة التنوع، فعرفت كيف تفتح أبوابها على مصاريعها، وأن تعرّض ذاتها إلى تلك التأثيرات.

الهمجية هي العجز عن التلاقح

 في المقابل، رأى العالم الفرنسي أن "إصرار مجموعة من البشر على أن تبقى وحدها معزولة، بعيدة من التأثرات والتأثيرات الخارجية، ستكون في النهاية عُرضة لوضع فيه مقتلها وفناؤها وفيه ما يمنعها من أن تحقق طبيعتها كما ينبغي". وذلك تعريف يصلح، في رأي المفكر، لكلمة "همجية"، الهمجية في هذا السياق هي عدم الرغبة ، أو العجز عن، التلاقح مع الآخر.

وفي هذا المعنى بالتحديد يرى ليفي ستروس أن الغرب، في صورة عامة، ولكن خصوصاً في تعاطيه مع مسألة "اكتشاف" أميركا، كان ولا يزال همجياً إلى أبعد الحدود... هذا الغرب هو المسؤول عن الانحطاط الذي وصل إليه عالم اليوم، يرى ستروس أن الهمجية تكمن، خصوصاً، في الطريقة التي بها تعامل الغرب، الإسباني – المسيحي مع سكان أميركا الأصليين (وكذلك مع المسلمين الأندلسيين كما مع يهود إسبانيا بعد سقوط مملكة غرناطة...). تصرف الغرب كان تصرف مستعمر حقيقي إذ "عمدت الحضارة الغربية إلى تركيز جنودها ومصارفها ومنشآتها وجمعياتها التبشيرية في أنحاء العالم كافة، كما أنها تدخلت في صورة مباشرة أو غير مباشرة، في حياة السكان الأصليين محدثة انقلاباً جذرياً في نمط عيشهم التقليدي، إما عبر تصدير نمط عيشها إليهم، وإما عبر خلقها تلك الشروط التي أدت إلى انهيار الأطر التقليدية القائمة، من دون أن تحل أية أطر أخرى محلها". ومن الجدير ذكره هنا، أن هذا المؤلف يعتبر وجود علم الأناسة نفسه، بدعة غربية... وربما وسيلة عبّر الغرب بها عن إحساسه بالذنب!.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)


التوأمة المستحيلة

هذه الأفكار العامة التي عاد ليفي ستراوس وبثها متفرقة في عديد من كتبه، كما جعلها تشكل، بصيغة من الصيغ، الخاتمة المنطقية للجزء الرابع والأخير من كتابه الضخم "أسطوريات"، مختتماً بها كذلك كتابه الأشهر "مدارات حزينة"، هي نفسها تلك التي سوف يعود إليها، في شكل أكثر توضيحاً، في كتبه الأخيرة مثل "الخزافة الغيورة" و"حكاية القط البري" و"النظرة المبتعدة". وخصوصاً في "حكاية القط البري" الذي كان إسهاماً، غير مقصود منه، في "الاحتفال" باكتشاف أميركا كما أشرنا، كتأكيد جديد منه على الطريقة التي بها أضاع الغرب فرصته. فهذا الكتاب هو نشيد حقيقي لغنى عالم سكان أميركا الأصليين، لا سيما في تعبيراتهم الشفاهية، حيث يفتتح ليفي ستوس كتابه هذا بالحديث عن عديد من الأساطير مركزاً، بشكل خاص، على العلاقة التي تقيمها هذه الأساطير مع الظواهر الطبيعية مثل الريح والضباب، كما على التضاد بين بعض مكونات تلك الطبيعة (مثل "القط البري" اللنكس، و"الكلب البري" الكويوت) إنطلاقاً من فكرة ثنائية البعد، ظلت دائماً عزيزة على فكر الكاتب، تقوم على التضاد الدائم بين عنصري (التوأمة) لتوليد عناصر الطبيعة واستمرارية الحياة. وانطلاقاً من هذا المبدأ، يموضع ستروس مسألة العلاقة بين الآخر (الهندي الأحمر هنا) والإنسان الأبيض. هذا الإنسان الذي حين وصل إلى القارة الجديدة على متن سفن كولومبوس، استُقبل بالترحاب على عكس ما كان يمكنه أن يتوقع. لماذا؟

استقبال الغريب جزء من الأساطير المؤسسة

ويقوم التفسير المنطقي، كما يقدمه لنا ليفي ستروس، على قاعدة أن أهل البلاد الأصليين كانوا ينتظرون ذلك الوصول لأنه مندرج، أصلاً، في أساطيرهم، "وذلك واقع تاريخي لا يمكن لنا نفيه" يقول الكاتب، مضيفاً، "لقد استقبل الهنود الحمر القادمين البيض بأذرع مفتوحة، إلى درجة أن كولومبوس نفسه ذهل لبشاشة ذلك الاستقبال، علماً بأن موقف الغزاة كان على عكس ذلك".

لقد توصل ليفي ستروس إلى تفسير هذا الموقف انطلاقاً من تلك النظرة الإجمالية، التي كان توصل إليها إبان اشتغاله على مشكلة تتعلق بجوهر واحدة من الأساطير تتحدث عن أهل الريح والضباب. وكان الاشتغال على هذه الأسطورة مهماً بالنسبة إليه، لا سيما وأن نقطة انطلاقه في رباعية "أسطوريات" كانت تقوم على مبدأ تحليل الأساطير المتعلقة بمنشأ الماء والنار وتضادهما. ويقول ستراوس إن أساطير الريح والضباب تعيد، وإن على صعيد مصغر، إنتاج الأساطير الكبرى المتعلقة بنار الطبخ. إذ إن الضباب، كما هي حال نار الطبخ، يشغل المسافة بين السماء والأرض. أما الريح فإنها تشتت الضباب تماماً كما أن الماء يشتت النار، "ما يجعلنا، كما يقول الكاتب، نلاحظ توازياً على الصعيد الشكلي بين المنظومتين". وفي رأي ليفي ستروس، فإن أسطورية الريح والضباب هذه تبرز شخصيتين (في انعكاسها الحكائي)، شخصية اللنكس (القط البري) وشخصية الكويوت (الكلب البري). وهما شخصيتان تربطهما علاقات تناحرية، علاقات التعارض بين عنصر القط وعنصر الكلب. ويقول ستراوس إن "دراسة هذه العلاقة وانعكاسها الحكائي، هو الذي جعلني ألاحظ عنصراً ثابتاً في عناصر الفكر الهندي – الأميركي، فكرة التوأمة... المستحيلة".

حين يكون الآخر ضرورة ماسة

"إذا عممنا هذه الفكرة على صعيد البشر، يقول ستراوس، سنفهم كيف أن وصول الرجل الأبيض إلى القارة الأميركية، بوصفه الآخر الضروري لتحقيق الذات الأصلية ذاتها، كان أمراً حاضراً في فكرانية الهنود الحمر، لأن وجود هؤلاء نفسه كان يفترض بالضرورة وجود الآخر، الأبيض، اللا-هندي. فإذا فهمنا هذا البعد في أعماقه، سنفهم ذلك الأمر الذي بدا محيراً في موقف هنود المكسيك والبيرو منظوراً إليه من وجهة نظر القادمين البيض. إذ، حين وصل هؤلاء، تبين لهم أن الهنود ينتظرونهم فاتحين أذرعتهم مرحبين بهم. فكيف كان رد البيض؟ المذابح والتدمير. لقد دمروا، خصوصاً، كل ما هو جميل ورائع، دمروا ونهبوا ثم وقفوا يزعمون أنهم وصلوا إلى "أرض خواء لا حضارة فيها ولا حياة". ومع ذلك، يذكّرنا كلود ليفي ستروس بتلك "الدهشة التي أصابت الرسام البريشت دورر، حين قيض له في فيينا أن يتفرج على كنوز آل هابسبرغ، ومنها أشياء وتحف كان كورتيس قد أتى بها من المكسيك فأذهلت الناس بجمالها الرائع ودقة صنعها".

المزيد من ثقافة