قد يعجز العالم عن إحصاء ما خلّفته الحروب من أضرار وخسائر بشرية واقتصادية واجتماعية وغيرها. وأغلب الظنّ أنّ البشرية لو أجرت حساباً أوليّاً ودقيقاً لما تنفقه، وأنفقته من موارد على الحروب، مثالنا الحرب العالمية الثانية (1939-1945) في القرن العشرين، والتي بلغ ضحاياها ما بين 50 إلى 60 مليون قتيل، ثلاثة أرباعهم من المدنيين، ناهيك عن تدمير ما لا يقل عن 27000 بلدة ومئات المدن الكبرى وعشرات آلاف المدارس والجامعات، و36000 مشروع وعشرات آلاف المصانع، عدا حالات البؤس العميم التي تُفرض على الشعوب، نظير ما عاناه الشعب الألماني وسائر الشعوب الأوروبية من تدهور لأحوالهم المادّية، لو أخذت البشرية العبرة من هذه الحرب لفكّرت مليّاً بهذه التكلفة الهائلة، لأجيال وأجيال، ولوجدت سبيلاً أكثر أمناً وحفظاً لمستقبل الأرض ورخاء شعوبها.
وإذا ما أدخلنا عامل الطمأنينة النفسية، وما يوجبها من استقرار وشعور بالأمان والسوية النفسية، المعتبرة شرطاً لعلاقات اجتماعية بنّاءة، يرى أغلب علماء النفس في الحرب، أياً تكن، إطاراً مدمّراً للسوية النفسية، ومكمناً للعقد النفسية التي لا يعلم غير الله مداها وآثارها التي لا تزول إلاّ بزوال صاحبها.
الإنسان وصراعه
في مقابل استسهال العنف، الجاري اعتماده منذ وجد الإنسان وصراعاته، من أيام قايين وهابيل (قابيل وهابيل، في القرآن الكريم)، بل منذ أن كان الإنسان، ونسيان تداعيات ذلك العنف المدمّرة مادياً وروحياً، كان ينهض في البشر منْ يعيد إلى الإنسان كرامته، ومنادياً بأشكال أخرى، باختيار آخر، هو أغلب الظنّ المنهج الإنساني الأسمى والأبقى، إذا ما بقي للبشرية، بعد صراعاتها العنفية، باقية؛ عنيتُ به اللاعنف.
وفي هذا السياق، يستذكر العالم مسيرة الملح التي قادها المهاتما غاندي عام 1930، متحدّياً الحكومة البريطانية، وساعياً إلى تدريب إخوانه المواطنين الهنود على استعادة مواردهم، ولا سيما الملح، من المستعمرين الإنكليز، ومن دون أن يمسّ القوى العسكرية القامعة بأيّ أذى، وهي تملك من السلاح وأدوات القمع والسلطة بما لا يقاس. ومنذئذٍ، انطلق تيّار عبر العالم، في بلدان الشّرق والغرب وصولاً إلى بلداننا العربية، ولبنان، حيث أُنشئت أخيراً، في عام 2014، جامعة للاعنف. ولكن هل يعني هذا الأمر أنّ فكرة اللاعنف أو منهجه الفكري والفلسفي والسلوكي هو حديث العهد؟
يجيب كتاب "أقوال في اللاعنف" الصادر عام (2020) بمناسبة المئوية الأولى لصدور هذا المفهوم عن غاندي (1919) وإطلاقه حركته الاحتجاجية ضد المستعمر الإنكليزي ومن أجل توطيد وحدة الشعب الهندي بتعدد طوائفه وأديانه وطبقاته. وأول ما قاله في تعريفه باللاعنف: "ليس لديّ شيء جديد أعلّمه للعالم. ذلك أنّ الحقيقة واللاعنف قديمان قدم التّلال. كلّ ما فعلتُه هو محاولة إغناء تجاربي في هذين المجالين قدر المستطاع".
إذاً، يعتبر غاندي أنّ منهج اللاعنف والآهيمسا (لا للأذية) الذي اعتمده في نضاله، وضحّى بنفسه في سبيله، يعود بجذوره إلى كونفوشيوس (551-479 ق.م) صاحب الفضيلة الكاملة، والإنسان الأعلى الذي يأبى أن يردّ على الإساءة بمثلها، والقائل "لا تفعلْ بغيرك ما لا تحبّ أن يفعله بك". ومثل ذلك ما قاله المسيح، وأخذ به ليو تولستوي، القائل "ينبغي للحقيقة أن تفرض نفسها، من غير عنف". ومن تلك الأقوال المؤسّسة لمنهج اللاعنف، ما يُنسب إلى الفيلسوف الصيني لاو تسو (604-531 ق.م) "أعامل بطيبة الذين بلا طيبة، وأعامل بطيبة ذوي الطيبة، وهكذا تنتصر الطيبة". ويذهب الفيلسوف اليوناني زينون (490-430 ق.م) المذهب اللاعنفي نفسه، إذ يقول: "إن بسطتَ يدينِ عنيفتين عليّ، فإنّك قد تحصل على جسدي، أما فكري فيبقى عصيّاً عليك".
الديمومة البشرية
ولو جاوزنا الأزمنة، لوجدنا لهذا المنهج أنصاراً كباراً، رأوا في الحروب التي عصفت بالبشر، في حينه، خيرَ دليل على صحّته ونقاء سبيله من أجل ديمومة النوع البشري، وحفظ الكرامة الإنسانية، وإحلال السلام والرفاه والعدل بين الناس والأمم. فها أنّ مونتاني (1533-1592م) الأديب والموسوعي الفرنسي، يدلي برأيه في فعل القتل الذي كان يجري في أوروبا بين الإقطاعات والدول الناشئة حديثاً، فيقول: "ما من فكرة يستحقّ أن نقتل إنساناً لأجلها". وذلك هو رأي الأديب الروسي ليو تولستوي (1828-1910) المعارض لظاهرة الحرب، وما تستدعيه من أفعال القتل، إذ قال: "من المؤلم أن نرى استهلاك رجال أقوياء ومقتدرين طاقاتهم في القتل". وقد بلغ إعجاب غاندي بتولستوي حدّاً جعله يقرّ بالتحوّل الذي أحدثه في نفسه، إذ يقول: "كنتُ مؤمناً بالعنف، فلمّا قرأتُ كتاب تولستوي "ملكوت الله فيكم"، صرتُ مؤمناً باللاعنف إيماناً لا يتزعزع. إنّ تولستوي أكبر رسل اللاعنف الذين شهدهم عصرنا".
ولئن خالفت البشرية مبدأ اللاعنف، في الأغلب الأعم، وعلى امتداد العصور حتّى صحّت نسبة العالمية عليها، فأحدثت الويلات التي لم تبرأ منها إلى حين كتابة هذه السطور، فإنّ العديد من الأصوات في زمن حداثتنا، وقبيلها، ارتفعت دحضاً للعنف، وإيثاراً للسلام. فهذا عبد الغفار خان (1890-1988) المجاهد الهندي المسلم من الباشتون، صديق غاندي، والمناضل إلى جنبه في سبيل تحرير الهند من المستعمرين الإنكليز، كان يقول: "إنما أنا جنديّ بسيط في خدمة الله. ولا غاية لي سوى أن أخدم. وأيّ قيمة لادّعاء الشجاعة إن لم تتمثّلْ في مواجهة العدو من أجل قضية محقّة، ومن دون سلاح ولا تراجع ولا انتقام؟ ذلك أنّ اللاعنف هو لا عنف الأقوياء، وهو أعلى مراتب الشرف!". وبالفعل، فقد أبدى أتباع عبد الغفار خان، المئة ألف عبر الهند، مقداراً عالياً من الشجاعة والبأس والاحتمال حيال قساوة الإنكليز وتنكيلهم بالمعارضة الهندية. وهذه الفيلسوفة حنّة آرندت (1906-1975) التي كانت شاهدة على أفظع فعل تاريخي، متمثّل في ارتكاب النازيين إبادة لليهود في أوروبا- وهي اليهودية الناجية- تقول: "إنّ فعل العنف، كأيّ فعل آخر، يغيّر العالم، إلاّ أنّه يغيّره، على الأرجح، إلى عالم أكثر عنفاً. ذاك أنّ العنف هو تعبير عن العجز".
الموت الأخلاقي
وفي مقابل السياسات التي اتّبعتها الدول العظمى والداعية إلى التسلّح، إبان الحرب الباردة، نهضت أصوات أبرزها لمارتن لوثر كينغ (1929-1968) تحذّر الدول، وهنا الولايات المتحدة الأميركية، من زيادة ميزانيتها الحربية، إذ قال: "إنّ أمّة تستمرّ في تكريس مزيد من الأموال لميزانيّتها العسكرية، هي أمّة تقترب من الموت الأخلاقي". ومثل ذلك دعوة فيديركو مايور(1937) المدير العام السابق لليونسكو إلى تكريس الدول نفسها "من أجل القوة الأخلاقية للسلام، بدلاً من أن تكون قوة قسرية للحرب".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ولكن مهلاً. قد يخطر في بال البعض أنّ منهج اللاعنف هذا قد يعني استسلاماً كاملاً لمن يملك العنف، ولمن يستخدمه للظلم أو القمع أو الاحتلال أو الاستعمار. غير أنّ للاعنف، بحسب الفيلسوف جان-ماري مولّر (1939-2021) دلالة ذات أبعاد معاصرة: فاللاعنف فلسفة حياة، ومنهج يعتمده المواطن الفرد المسؤول عن مصيره، سواء على المستوى الذاتي، أو على مستوى العلاقات بين الأفراد، أو على الصعيد السياسي، من أجل "إدانة عنف الظالمين، ومكافحته بالدرجة الأولى"، وعدم الاكتفاء بذلك، بل الحرص على عدم انجرار المظلومين إلى عنف مقابل. ولعلّ خير مثال على نجاعة هذا المنهج، ما أحدثته "انتفاضة الحجارة" بحسب المفكّر وليد صليبي، في كتابه "نعم للمقاومة، لا للعنف" (2005)، وما أحدثه العصيان المدني وعدم التعاون الاقتصادي والسياسي مع المحتلّ، في الضفة وغزة، من تصدّع في المؤسسات الإسرائيلية، ومن آثار لا تُمحى على صورة الدولة الإسرائيلية في الخارج.
وبالعودة إلى بعض الدراسات التي صدرت أواخر الثمانينيات من القرن الماضي، عن المقاومة المدنية (اللاعنفية) لأعتى نظام عرفه العالم الغربي، هو النظام النازي، ولا سيّما الكتاب بعنوان "عزّلاً في مواجهة هتلر" للباحث الفرنسي جاك سيملان (1951-)، يتكشّف لنا أنّ الشعوب الواقعة تحت الاحتلال، يسعها أن تتدبّر نفسها في مواجهة العدو والمحتلّ، وتبتكر أساليب وأشكالاً من عدم التعاون الاقتصادي والسياسي، ولا تتوانى عن تهريب من ينبغي تخليصهم من قبضة النازيين (وبفضل تدخّل الفرنسيين نجا 75 في المئة من اليهود من الاعتقال والموت). وفي الكتاب أمثلة أخرى ساطعة في دلالتها على إبداعية المقاومة اللاعنفية، ومنها تشكيل المقاومة البولندية (اللاعنفية) مدارس سرية لتعليم الطلاّب موادّ علمية وإنسانية وغيرها، في ظلّ احتلال الجيش السوفياتي بلادهم، ومنعه إياهم من التعلّم واكتساب المهارات والوقوف في وجهه ذوي كرامات، واعتزاز بلغتهم وانتمائهم القومي ورقيهم العلمي.
وبعد، يمكن الاستخلاص أنّ منهج اللاعنف، هذا وصفه، يحسن التوقف عنده، واستمداد الدروس البليغة منه، حفظاً للإنسان، وكرامته، وحرصاً على سوية ضميره وأخلاقياته ومكانته وسط عالم يتهدده خطر الفناء بالعنف، أو بالتلوّث، أو بالثورات. وللإنسان أن يختار أيّ الجهات والمناهج يعتمد.