Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

ما تبقى لنا... عن الحكواتي والصندوق وخيال الظل والعودة البعيدة

خطفت الهواتف والألعاب الإلكترونية عقول الصبية فيما "مسرح الدمى" يزدهر بمخيمات النزوح

في الماضي كان الرجال يتحلقون حول "الحكواتي" صاحب الطربوش الأحمر مستمعين إليه بشغف (اندبندنت عربية)

ألهب صوت الحكواتي، أبو شادي، تصفيق الحضور في مقهى النوفرة بدمشق القديمة، بعد ضربة من سيفه على منضدة حديدية توضع أمامه خلال روايته إحدى حكايات عنترة بن شداد وبطولاته، وبين أدخنة بيضاء تناثرت في أجواء المكان بكثافة، منبعثة من نراجيل المقهى العتيق، سرعان ما انصرف الجميع إلى هواتفهم الجوالة وألواحهم الضوئية بعد قضاء سويعات لإحياء تقليد درج الناس على إحيائه قبل عهود وعقود، وكان وقتذاك أحد ملامح حياة الدمشقيين التي عاشوها من دون تلفاز أو هاتف أو حتى كهرباء.

يقول أحد رواد المقهى، "كان الرجال بعد صلاة المغرب والإفطار يصلون إلى هنا، ويتحلقون حول صاحب الطربوش الأحمر الذي يتصدر المكان، ويستمعون إليه بكل شغف، وقد وصل بهم الاندماج بالقصة إلى حد الانفعال والغضب حين يسقط البطل عن فرسه، أو يقع أسيراً في أيادي الأعداء، أو يصدحون فرحاً وتتعالى الهتافات وعبارات الإطراء بعد أن ينتصر".

التسلية في الصيام

ولقد عرف السوريون أشكالاً كثيرة للترويح والترفيه عن أنفسهم خلال ساعات الصوم الطويلة، وإن كان للرجال أعمالهم وأماكن التسلية الخاصة بهم كالمقاهي، وللنساء جلساتهن الخاصة بالحديث عن الطبخ والكلام حول التدابير المنزلية من خياطة وحياكة وغيرها من شؤون المنزل، فإن الأطفال في هذا الوقت كانت لديهم ألعابهم الخاصة، التي باتت في عداد التراث الشعبي، بعد أفول عهدها إلى غير رجعة.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

يجزم العم رضوان المؤقت، ذي الثمانين سنة، أن عادات التسالي في رمضان ليست كالسابق، فـ"كل شيء تبدّل"، وبحسرة لا تخلو من ابتسامة شوق لما يصفه بالزمن الجميل، يروي مجريات تسالي رمضان، حين دأب الأطفال على تحويل الأزقة في الحي مسرحاً لهم، وأردف، "أذكر كم كنا نقضي نهار الصوم نلهو بألعاب لم نعد نراها اليوم لدى أطفال هذا الجيل، الألعاب والتسالي في زمننا كانت تعتمد على النشاط، وتعزز لدينا حب الحفظ وتنشيط الخيال، واليوم فإن الأكثر رواجاً هي الألعاب الإلكترونية فقط".

بالمقابل، يذكر أحد الشبان، في العقد الرابع من عمره، أنه منذ زمن ليس بالبعيد، كانت التسالي الرمضانية تعتمد على الألعاب اليدوية، التي تنتشر في دكاكين الحارات الشعبية، يقول، "أذكر لعبة المتاهة، وهي عبارة عن كرة صغيرة تحاول أن تأخذها بحرص شديد إلى مسارها الصحيح لتصل إلى الهدف، تعلمنا منها التركيز وشدة الانتباه، لقد كنا نتسابق على من يربح في ألعاب مثل الغميضة، وقفز الحبل، وكثير من الهدايا كانت تأتينا تشجيعاً لنا على الصوم".

مع التطور التكنولوجي، حيث الكثير من الألعاب والقليل من النشاط العقلي والحركي، باتت التسلية من دون مغزى أو فائدة، مثل لعبة "البا بجي"، وهي إحدى الألعاب الإلكترونية التي انتشرت بشكل غير مسبوق بين الصغار والكبار على السواء.

ماذا بقي لنا؟

في غضون ذلك، تُمضي العائلة السورية ما تبقى لها من أيام الصوم نهاراً في متابعة مجموعة من الأعمال الدرامية، إذا ما حظيت ببضع ساعات من التيار الكهربائي، حيث تعيش البلاد أزمة تقنين صارمة، وتخطفهم كذلك أضواء الشاشة الصغيرة بحجم الكف، لمتابعة ما يروق لهم عبر وسائل التواصل الاجتماعي.

العادات تغيّرت وتبدلت، وفق الباحثة الأكاديمية المتخصصة في شؤون التقاليد الشعبية، نيبال دالي، وترى أن "أكثر المتضررين من ذلك هو الجيل الجديد من الأطفال، ممن أدمنوا عادات وطباعاً جديدة". وتضيف الباحثة، لـ"اندبندنت عربية"، "تنوعت في الماضي تسالي رمضان، التي كان الأطفال يحظون بنصيب كافٍ منها، كصندوق العجائب مثلاً، أو ما يطلق عليه صندوق (الفرجة)، وكان يعد من أبرز وسائل التسلية للأطفال، الذين يلتمون حول صاحب الصندوق حين سماع صوته قادماً في الحارات أو الساحات العامة ينادي (تعال تفرج يا حباب)، ومع تطور الوقت صنعت ألعاب صغيرة الحجم فيها رسوم خاصة للطفل تشبه هذا الصندوق".

وصندوق العجائب، كما تشرح الباحثة، هو صندوق خشبي مستطيل الحجم ومزركش بالألوان، يتخلله ثلاث أو أربع نوافذ دائرية تتسع لرأس الطفل، مغطاة بعدسات زجاجية مكبرة تتيح له مشاهدة الرسوم التي يحركها صاحب الصندوق، راوياً حكايته من خلالها، ويثبّت صندوق العجائب على منصب خشبية، مع مقاعد للأطفال والفتيان المتفرجين، ويصدح صاحب الصندوق بالمناداة، "شوف تفرج يا سلام، شوف أحوالك بالتمام. شوف قدامك عجايب، شوف قدامك غرايب".

خيال الظل والعودة البعيدة

إزاء ذلك، يحاول الدمشقيون أن يعيدوا إحياء جزء من التراث الشعبي في ما يخص تسالي الأطفال المندثرة بمبادرات تبدو خجولة إلى حد ما لنقص الدعم المالي، وافتقارها للترويج الكافي، يقول الفنان رامي دركوشي إنه بعد مشاركته بمسرح الطفل، كان لديهم عدد من التجارب لخيال الظل لم يكتب لها الاستمرار، مؤكداً، "لا بد من الاعتراف بأن التطبيقات الذكية، والرسوم الكرتونية جذبت الأطفال إليها بلا شك، ومن الصعب إعادتهم إلى ذلك الزمن".

قد ينجح خيال الظل ومسرح الدمى في الترفيه عن الأطفال في شهر رمضان، لكن في مخيمات النزوح، وهي البقعة الأكثر احتياجاً والأكثر فقراً في الأرض السورية، وعلى أرضها لا تتوافر لدى الأطفال، وحتى الكبار، وسائل الرفاهية الكافية من الهواتف الذكية، لأن جميع وسائل التكنولوجيا تكاد تكون معدومة، فيما تجاهد فرق جوالة لمسرح الطفل، بإمكانيات محدودة، لكي ترسم الابتسامة على وجوههم المتعبة والشاحبة من نير الحرب والجوع.

اقرأ المزيد

المزيد من منوعات