Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

حين ودعت بريطانيا العظمى كينز متسائلة عما إذا لم يكن دائما على حق

ماذا لو أصغى حلفاء الحرب الأولى لنصائح صاحب "النتائج الاقتصادية للصلح"؟

جون ماينارد كينز في صورة بتاريخ 16 مارس 1940 (غيتي)

كان الاقتصادي الإنجليزي الشاب في ذلك الحين جون ماينارد كينز قد لفت إليه الأنظار بشكل استثنائي خلال مؤتمر الصلح الذي عُقد في فرساي الفرنسية إذ كان عضواً في الوفد البريطاني، فانسحب حين وجد أن ما تنص عليه الاتفاقيات سيدمر أوروبا، لا سيما منه ما يتعلق بالبنود التي ستذل الشعب الألماني. ولم يكن ذلك آخر مؤتمر يعلن موقفاً ضده، إذ سنراه يفعل الشيء نفسه بعد ذلك في "مؤتمر بريتون وودز" حين وقف ضد الأميركيين مطالباً بنقود عالمية، بدلاً من الاعتماد على الدولار. ولكن في الحالتين كان كينز خاسراً، وفي الحالتين تبين للعالم لاحقاً أنه كان على حق. ومن هنا خلال جنازته الرسمية والشعبية التي جرت لدى وفاته في عام 1946 لم يكتفِ عارفوه بالتساؤل عما كانت ستصبح عليه صورة العالم لو أن الحلفاء أصغوا إليه خلال مؤتمر فرساي واستنكفوا عن إلحاق ذل بالشعب الألماني ساعد هتلر والنازية على الظهور وخداع ذلك الشعب الذي كان معروفاً بعقلانيته وحكمته، فإذا بالذل يدفعه إلى حضن اللاعقلانية الهتلرية، بل إنهم تذكروا كتابه المهم الذي وضعه عن تلك القضية برمتها تحت عنوان "النتائج الاقتصادية للصلح".

بين الاقتصاد والأخلاق

والحقيقة أن الذين استعادوا هذا الكتاب وأمعنوا فيه قراءة وتحليلاً توصلوا إلى استنتاجات بالغة الأهمية سيصل إليها لاحقاً واحد من أعظم مؤرخي القرن العشرين، إريك هوبسباون، على الرغم من كونه ينطلق من منظور ماركسي يتعارض تماماً مع منظور كينز. ومع ذلك نعرف أن هوبسباون كان يعتبر كينز واحداً من أعظم اقتصاديي القرن العشرين. وكان كينز أصدر "النتائج الاقتصادية للصلح" فور مبارحته فرساي منطلقاً من حقيقة كان يراها نصب عينيه وقد نظر إليها من منظورين، أخلاقي واقتصادي في آنٍ معاً. فهو من الناحية الاقتصادية كان يرى أن التعويضات التي كانت في سبيلها إلى أن تُفرض على ألمانيا بوصفها "صاحبة المسؤولية الأولى عن تلك الحرب المدمرة" كانت مبالغة إلى درجة لا تُطاق ولن يكون في إمكان ألمانيا تحملها لعقود مقبلة من السنين ما سيتسبب حتماً ليس فقط في إفلاسها بشكل دائم، بل، وهذا هو الجانب الأخلاقي في المسألة، في إلحاق البؤس والذل بالشعب الألماني بكل طبقاته وفئاته ما سيجعله مرمياً في أحضان شتى الفئات المتطرفة. بل إن كينز ركز في دراسته على أن ذلك الانهيار الاقتصادي إذ سيلاحق الألمان لزمن طويل مقبل، ستكون له انعكاسات بالغة الخطورة حتى على الاقتصاد العالمي برمته. ومن شأن هذا أن يحوّل العالم كله إلى حالة تنافسية تناحرية تعزز من قوة كل ضروب التطرف.

عداء مستديم بين أمتين

وإذ دخل كينز هنا في التفاصيل متوقفاً، على سبيل المثال عند حالة العلاقة المقبلة بين ألمانيا وفرنسا على ضوء قرارات فرساي، منطلقاً من حالة العداء المتجذر والعميق بين الأمتين، تساءل عما إذا سيكون في مقدور ألمانيا أن توفر التعويضات الضخمة التي طُلبت منها في فرساي لإعادة تسليح فرنسا إضافة إلى إعادة إعمار مصانعها. من أين سيأتي الألمان بكل تلك الأموال اللازمة لذلك؟ من لا مكان! يجيب كينز ويستنتج بالتالي أنه "من المؤكد أن كل ذلك سيسفر عن تفاقم النزاعات بينهما ليس على المستوى الحكومي والرسمي فقط، بل على المستوى الشعبي أيضاً، ما سيخلق حالة عداء دائمة". والأدهى من ذلك، بالنسبة إلى كينز، أن فرنسا، حتى وإن اعتُبرت من بين "كبار المنتصرين" في الحرب العالمية الأولى، فإنها الأمة التي خرجت من تلك الحرب بأكبر قدر من الخسائر وقد دفعت مليوناً ونصف المليون قتيل من خيرة أبنائها ودُمِّرت كل بنيتها الاقتصادية من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب. فمن أين سيأتي الألمان بما يعوض على ذلك كله؟

النصائح المحقة مرفوضة

والحقيقة أن المؤتمِرين في فرساي ضربوا عرض الحائط بكل ما نصح به كينز، وهو ما لفت نظر نخب العالم كله إلى مواقفه التي شرحها بالتفصيل في الكتاب، فأيده كثر في العالم بينما عارضه آخرون، لا سيما منهم كبار الاقتصاديين الفرنسيين إلى حد اتهامه بـ"العمالة للألمان". وهو اتهام سخر منه كثر، لا سيما حين جابهه به عالم شاب فرنسي هو إيتيان مانتو الذي نشر بالإنجليزية وعن مطبوعات جامعة أوكسفورد تحديداً، كتاباً عنوانه "السلام القرطاجي"، رفض فيه مجمل أطروحات كينز. ونعرف اليوم أن حركة التاريخ أعطت كينز وأطروحاته الحق، لا سيما على ضوء النتائج التي أسفر عنها مؤتمر فرساي، وهي نتائج يجمع المؤرخون اليوم، وفي ضوء أحداث التاريخ التالية، على أنها كانت في خلفية ذلك الشعور بالذل الذي هيمن على الشعب الألماني الذي شعر أنه مطالَب بأن يدفع ثمن خطايا قياداته. ومن هنا، وعلى خطى مفكرين كبار من طينة برتراند راسل ومن بعده إريك هوبسباون كان ذلك السؤال الذي دار في أذهان مشيعي كينز يوم رحيله، وقد اعتُبر أنه كان على حق بعكس كل السياسيين الذين وقعوا على أي حال، وكما كان كينز يقول، "في فخ مزايدات بعضهم على البعض الآخر". ولكن لئن كان كينز قد عاش ورصد ما جعله يتيقن من أنه كان على حق بالنسبة إلى فرساي، فإن رحيله المبكر حال بينه وبين أن يكتشف أنه كان على حق أيضاً في موقفه من مؤتمر بريتون وودز حيث مرة أخرى قدم نصائحه، لكن السياسيين لم يأخذوا بها، ما جعل كل الذين تعاملوا مع تلك المسألة حين انكشفت أضاليل ذلك المؤتمر الآخر وخطاياه، يقولون من جديد: "آه كم كن كينز هنا أيضاً على حق"، وطبعاً سيكون هوبسباون مرة أخرى من المعبرين عن هذا، ومرة أخرى رغم الخصومة الأيديولوجية بين الرجلين.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)


نتائج إذلال الشعوب

وانطلاقاً من هذا كله يمكننا اليوم أن نطرح سؤالاً للتذكير فقط، وربما أيضاً انطلاقاً مما يقترفه السياسيون في كل زمان ومكان في حق الشعوب: ماذا يبقى من كينز؟ جون ماينارد كينز، الابن المدلل للنخبة اليسارية البريطانية خلال فترة ما بين الحربين، وأعظم باحث اقتصادي أنجبته بلاد الإنجليز في القرن العشرين، من شأنه اليوم أن يهتز في قبره إن هو لاحظ، كما يلاحظ الجميع، أن السياسيين لا يتعلمون الدروس، لا دروسه هو ولا دروس التاريخ مع استثناءات بالغة الأهمية. لعل أهمها أن نظرية كينز هذه كانت الأساس الذي اعتمد عليه فرانكلين روزفلت في الولايات المتحدة حين صاغ سياسة "الصفقة الجديدة"، كما اعتمدت عليه أوروبا كلها خلال فترة ما بعد الحرب أو خلال مرحلة منها فقط.

فابيو بلومسبوري

ولِد كينز في  عام 1883 في كامبريدج ودرس حتى عام 1920 في ايتون، ثم في كلية الملك في كامبريدج (حتى 1906) حيث بدأ ينضم إلى حلقات الحزب الليبرالي. وفي عام 1908 التحق بالمكتب الهندي، وفي 1909 بدأ العمل في الصحافة، ثم أسس نادي الاقتصاد السياسي في كامبريدج، في الوقت الذي انضم فيه إلى "جماعة بلومسبوري" مع فرجينيا وولف والإخوة ستراتشي وروجر فراي وغيرهم. ونشر في عام 1912 واحداً من أول كتبه الاقتصادية "النقد الهندي والمالية" وبين عامَي 1914 و1919 أضحى واحداً من كبار موظفي وزارة المالية، وهو بهذه الصفة أسهم في الإعداد لمؤتمر فرساي قبل انسحابه منه. ومنذ ذلك الحين لم يكف عن نشر الكتب والدراسات التي كانت تطالب جميعها بتدخل الدولة وبتعزيز القطاع العام من أجل خلق فرص عمل كاملة ودائمة للعمال. والطريف أن هذا الاقتصادي الفذ الذي أنفق عمره يدافع عن حق العمال في العمل، كان يكره العمال، أو هذا على الأقل ما تقوله لنا دراسة نُشرت أخيراً، في بريطانيا تحت إشراف جون توي، الأستاذ في كامبريدج، الذي جمع العديد من النصوص التي كان كينز كتبها في عام 1913، وجاء فيها أن العمال ليسوا أكثر من "سكارى وجهلة يجب أن يخضع ازدياد عددهم لرقابة الدولة". ولكن مهما يكن من شأن كتابات كينز المكتشفة حديثاً، فإن ذلك لا يقلل من قيمته كباحث اقتصادي أثر على أجيال بأسرها من الباحثين، وربما على مجموع الأحزاب الاشتراكية الأوروبية، وخصوصاً عبر كتب مثل "دراسة حول الإصلاح المالي" (1923) و"النتائج الاقتصادية لنظرية السيد تشرشل". وفي هذا النص يقف بوضوح ضد سياسة تشرشل الاقتصادية. وإضافة إلى هذا النشاط الاقتصادي خاض كينز معترك الحياة الفنية من خلال مساندته للجمعيات والمجلات وشرائه اللوحات وإسهامه في إقامة مسرح الفن في كامبريدج، ولقد زاد اهتمامه بالفنون الاستعراضية منذ زواجه من راقصة الباليه الروسية ليديا لوبوكوفا، في عام 1925.

المزيد من ثقافة