Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

سنوات من البحث العلمي بين روسيا والغرب ضاعت في الحرب

روسيا لديها مجتمع علمي غني بمتخصصين موهوبين يعتمد عليهم الغرب من أجل النهوض بمشاريع عدة في الأرض والفضاء. ما الذي يحدث الآن؟

لن يشعر المجتمع الدولي براحة كافية للانخراط في العلوم الروسية مجدداً قبل مرور أعوام عدة (غيتي)

تنقل لنا التلفزيونات الموت والدمار اللذين تحصدهما المعارك الجارية راهناً، ولكن بعيداً من الشاشات، جلب الصراع في أوكرانيا الخراب للعلماء في مختلف أنحاء الكوكب. هكذا، بعدما كرسوا مسيرتهم المهنية برمّتها من أجل تعزيز العلاقات بين روسيا والغرب، تلاشت أمام عيون هؤلاء، نساء ورجالاً، إنجازات حياتهم، أو وضعت في الأدراج.

على الرغم من أن حجم الاقتصاد الروسي أصغر من الاقتصاد الإيطالي، إلا أنه يضم مجتمعاً علمياً مبهراً، ولطالما اضطلع بدور أكبر من وزنه على المسرح الدولي. في أعقاب الغزو الأخير [الذي نفذته روسيا ضد أوكرانيا]، وضعت غالبية هذه المشاريع، إن لم نقُل كلها، قيد الانتظار. بالنسبة إلى مشروع على شاكلة "محطة الفضاء الدولية" (اختصاراً "آي إس إس" ISS)، تبدو المشاركة الروسية متجذرة إلى حد أن فصلها رسمياً عنه يكاد يكون غير وارد.

ولكن، إن وقع [الغزو] على الرحلات الفضائية غير المأهولة، يبدو أسوأ [من الحال مع محطة الفضاء الدولية]. يُعدّ مسبار الفضاء الروبوتي "روزاليند فرانكلين" محاولة مشتركة لإرسال مركبة جوالة أوروبية الصنع إلى الكوكب الأحمر [المريخ]. ومن المفارقات، أن إطلاقه تقرر قبل عامين، لكنه فوّت "نافذة الإطلاق" المتاحة أمامه. أخيراً، بدت الأمور كافة ملائمة لتنفيذ المهمة في سبتمبر (أيلول) من العام الحالي، والهبوط تالياً على سطح الكوكب بعد حوالى ستة أشهر.

للأسف، المريخ هدف متحرك، ولا يبقى الأخير والأرض في الموضع المناسب لإطلاق مركبة فضائية سوى نحو أسبوعين كل 26 شهراً. إذا فاتتنا نافذة الإطلاق، علينا أن ننتظر 26 شهراً أخرى قبل أن تتوافر "نافذة الإطلاق" التالية المناسبة للتحليق. الآن، تقبع تلك المركبة الفضائية بتفاؤل في ستيفنيج بإنجلترا، جاهزة للانطلاق في رحلتها نحو الهدف المنشود في سبتمبر المقبل. ولكن، لما كان نظام الهبوط الفعلي قد طُوّر في روسيا، فمن شبه المؤكد أنه سيصار إلى إلغاء العملية المرتقبة في سبتمبر. هكذا، سينتهي المطاف بالمركبة متروكة في متحف ما، أو أن "وكالة الفضاء الأوروبية" ستطلب من متخصصين أميركيين في النهاية تطوير جزء بديل للجانب الهندسي الروسي.

تزداد علاقة الروس والغرب تعقيداً بالنسبة إلى مشاريع أخرى. في ثمانينيات القرن العشرين، طور برنامج الفضاء السوفياتي نوعاً جديداً من محركات صواريخ تعمل بالكيروسين والأوكسجين السائلين. للوهلة الأولى، لم تبدُ هذه تقنية مثيرة للاهتمام تماماً، لكن حينما سُمح لمهندسين غربيين أخيراً الدخول بحرية إلى منشآت فضاء سوفياتية، أدركوا أن السوفيات ابتكروا طريقة تعزز كثيراً قوة الدفع الناتجة من المحرك الذي يشتغل بوقود الكيروسين.

استخدمت أحدث الصواريخ الأميركية الأوكسجين والهيدروجين السائلين، ونال ذلك موافقة معظم المهندسين في وكالة الفضاء الأميركية "ناسا". بشكل أو بآخر، وجد الروس طريقة لاستخراج كمية إضافية من الأوكسجين والكيروسين السائلين باستخدام غرفة احتراق مزدوجة. مع انتهاء الحرب الباردة وانهيار برنامج الفضاء السوفياتي، صدر أمر بتدمير تلك المحركات ولكن لم يُصَر إلى تنفيذه أبداً، وبقي صف كامل منها قابعاً في أحد المستودعات.

في الوقت المناسب، نجح "يونايتد لونش ألاينس" [معناه الحرفي هو "تحالف الإطلاق المتحد"] United Launch  Alliance (اتحاد أميركي يصنع الصواريخ) في شراء عدد منها بكميات كبيرة وسعر منخفض، ثم تشغيلها في صواريخه المتخصصة في حمل مركبات الفضاء. اليوم، يُستخدم المحرك الروسي الصنع "آر دي- 180"RD-180   في المرحلة الأولى من صاروخ "أطلس الخامس" Atlas V الشهير، ولا ريب في انقطاع التوريد سيتسبب بمشكلة كبيرة للأميركيين.

بصفتها عضواً سابقاً في الاتحاد السوفياتي، مُنحت أوكرانيا دوراً رئيساً في بناء الصواريخ الباليستية العابرة للقارات. مع انتهاء "الحرب الباردة"، أنجز مصنعها "يوزماش" المرحلة الأولى من صاروخ "أنتاريز" Antares. وتستخدم الأخير شركة "نورثروب غرومان" في الولايات المتحدة لإعادة تزويد "محطة الفضاء الدولية" بمركبات شحن غير مأهولة. كذلك يمثل مصدراً منتظماً في التصدير والحصول على المداخيل بالنسبة إلى أوكرانيا. ولما كانت القوات الروسية قد احتلت المصنع الآن، بات من الصعب معرفة إذا كانت هذه العلاقة ستعود إلى سابق عهدها.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

 

نعود إلى الأرض حيث يبدو الوضع على القدر ذاته من السوء. مثلاً، يشكّل "المفاعل النووي الحراري التجريبي الدولي" (اختصاراً "آيتر" ITER)، مشروعاً متقدماً جداً في فرنسا متخصصاً بتطوير تكنولوجيا الاندماج النووي، وقد أنجز نصفه حتى الآن. في الأساس، المفاعل الرئيس لـ"آيتر" هو من نوع "توكاماك" Tokamak، والأخير اسم باللغة الروسية لمفاعل يتخذ الشكل الدائري للحلوى الشهيرة "دونات"، ويعود تاريخه إلى الحقبة السوفياتية. في الواقع، لم يكتفِ الروس بتسمية المشروع، بل استثمروا أيضاً الموارد في بناء الجهاز الجديد المذهل وعملية تشغيله المرتقبة. كيف سيُكتب لهذا المشروع أن يستمر؟ في ظل الأوضاع الراهنة، ثمة سبع جهات لديها مصلحة في "آيتر"، من بينها الصين والهند، إضافة إلى الولايات المتحدة وأوروبا وكوريا واليابان. وغني عن القول إنه لن يكون سهلاً بقاء هذه الباقة من المستثمرين معاً.

المفارقة هنا أن الرئيس الأميركي الأربعين رونالد ريغان وزعيم الاتحاد السوفياتي ميخائيل غورباتشوف وضعا التصور الخاص بمشروع "آيتر" خلال المراحل الأخيرة من "الحرب الباردة". كان البعض ينظر إلى "آيتر" و"محطة الفضاء الدولية" على أنهما نوع من الملاذ الدبلوماسي يحول إلى الأبد دون دخول القوتين المتنافستين في صراع. ولكن الآن، ومع ظهور حرب ساخنة جديدة، بات التعاون برمّته موضع شك.

سبق أن أوقف مختبر فيزياء الجسيمات الأوروبي، "سيرن" CERN (المنظمة الأوروبية للبحوث النووية)، روسيا عن المشاركة في أعماله. جدير بالذكر أن "سيرن" لم يطرد العلماء الروس حينما غزا الاتحاد السوفياتي تشيكوسلوفاكيا في 1968 أو أفغانستان في 1979، وربما افترض بوتين ببساطة أن التعاون سيستمر في مشروع كهذا.

في سياق مشابه، لم يعلّق "الاتحاد الفلكي الدولي" الذي تأسس بعد الحرب العالمية الأولى بغرض تشجيع التعاون في علم الفلك، عضوية روسيا بعد. ولا حاجة للقول إن الفريق الأوكراني يستشيط غضباً. لا نملك هنا سوى إطلاق العنان لمزيد من الحسرة على رجال ونساء أمضوا حياتهم المهنية بأسرها في محاولة لتعزيز الصداقة والتعاون بين الدول، ويُطلب منهم الآن أن يمزقوا إرباً كل ما عملوا من أجله.

تعكف مؤسسات البحث والابتكار في المملكة المتحدة على مراجعة المشاريع مع جهات الاتصال الروسية كافة، علماً أنه لا يسَع المرء إلا أن يأمل في إعادة تنشيط بعض هذه الروابط في أقل تقدير، إذا تحقق نوع من التسوية في أوكرانيا. قبل أيام قليلة من الغزو، سألتُ خبيرة روسية متخصصة في التحليل المالي إذا كان بوتين سينفذ الهجوم فعلاً، فأجابتني بالنفي، موضحة أن ذلك كان مجرد حيلة لا أكثر. غير أن الأمر لم تكُن له أهمية، فقد فاز فعلاً. فبمجرد وضع دباباته على الحدود مع أوكرانيا، رفع سعر الغاز الطبيعي بنسبة 35 في المئة. استندت استراتيجية بوتين الاقتصادية برمّتها إلى تصدير الغاز والنفط. حينما ينخفض سعراهما، تتخبط بلاده في انهيار كارثي. حينما يرتفعان، تبدأ بسط سيطرتها. وفي الحقيقة، لقد أخطأتْ تلك المحللة المالية. لقد قصد بوتين في كلامه الأعمال التجارية، وتمخض عن الهجوم على أوكرانيا ما هو أبعد كثيراً من زيادة أسعار النفط.

في 2020، اشترت بريطانيا حصة كبيرة في نظام الأقمار الاصطناعية الدولي المفلس آنذاك "ون ويب" OneWeb. اعتزم الأخير إطلاق 600 قمر اصطناعي صغير في مدار أرضي منخفض بهدف توفير اتصال عريض النطاق للناس على الأرض. (400 قمر منها موجودة فعلاً في ذلك المدار). كان من المقرر أن يكتمل المشروع في 2022، لكن في الرابع من مارس (آذار) الماضي، أبعدت "وكالة الفضاء الروسية" المركبة "سويوز"Soyuz  من منصة الإطلاق في مركز "بايكونور كوزمودروم" الفضائي في كازاخستان. ما لم يحدث تغيير ما بسرعة كبيرة، يبدو أنه سيتعيّن على "ون ويب" العثور على صاروخ آخر لحمل بقية الأقمار الاصطناعية خلال الأشهر القليلة المقبلة.

ربما يصل مشروع "ون ويب" إلى هدفه، حتى لو وقع عبء ذلك على كاهل دافعي الضرائب البريطانيين، لكن بالنسبة إلى المشاريع الأكثر طموحاً، ليس مستبعداً أن تواجه حكومتنا صعوبة في توفير الاستعدادات. ثمة مشاريع علمية كبرى يبقى تمويلها عسيراً على أي دولة. في الواقع، كان على البريطانيين أن يضعوا جل إمكاناتهم في الطاقة النووية الاندماجية حينما فعل الفرنسيون الأمر ذاته بالنسبة إلى تلك التكنولوجيا الحيوية، وحاول الألمان ابتكار نوع جديد من "مسرعات الجسيمات" particle accelerator العالية الطاقة. يبدو من الصعب أن نعرف حجم الفرص التي تنطوي عليها أي من تلك المشاريع في ما يتصل بصناعة منتج قابل للتطبيق تجارياً، وليس من اللامعقول أن نقترح إخفاق كل هذه المشاريع. ولكن عبر الربط بين موازنات وقدرات كثير من البلاد، أصبحت حقيقة واقعة بالنسبة إلينا المشاركة في مجموعة واسعة من مشاريع عالية المخاطر سنكافح جميعاً من أجل تمويلها بمفردنا.

 

حينما انتهى صراع "الحرب الباردة"، كان الروس، المنعزلون جغرافياً ودولياً، في أمسّ الحاجة إلى إرسال شعبهم إلى الغرب كي يتعرف إلى كيفية ترجمة مواهبهم إلى منتجات مجدية تجارياً. نعم، يملك الروس موارد طبيعية كثيرة، ولكنهم لا يحظون بمستوى معيشة مثير للإعجاب.

المؤسف بشأن ذلك كله أنه خلال فترة ما، لم يتعاون الروس أبداً مع الغرب في أي جانب. لقد فصل جدار بين الشرق والغرب، وكانت محاولة عبوره من دون الأوراق المطلوبة، تضعك في مرمى النيران. مع مرور الوقت، انتهى هذا الوضع. ورأى كثير من الناس أن التعاون في العلوم، خصوصاً "العلوم الكبيرة"، وسيلة للتغلب على انقسامات الماضي. لك أن تفكر في الصور الرمزية التي تتبدّى عن التحام كبسولة "سويوز" روسية بـ"محطة الفضاء الدولية". فجأة، ظهرت مجموعة من العلماء اليابانيين والروس والأميركيين في أرض عجائب فائقة التكنولوجبا، وصارت التحيات التي أعقبت ذلك رمزاً للتعاون الدولي.

على نحو أقل وضوحاً، إنما أكثر أهمية ربما، جاءت محاولات الجامعات إرساء روابط مع منافسات الماضي السوفياتية. وفي القرن الحادي والعشرين، أُهيب بأكاديميين غربيين كثر المشاركة في البحوث الجديدة في "الجامعة الروسية". كان "معهد سكولكوفو للعلوم والتكنولوجيا" بمثابة جامعة بحثية جديدة باللغة الإنجليزية في ضواحي موسكو. للوهلة الأولى، يبدو الأمر واعداً للغاية، ونهاية أكيدة للفصل الدولي الذي شكّل أساس "الحرب الباردة". عقد الروس أنفسهم الآمال على استخدامه نواة في نسختهم الخاصة من "وادي السيليكون"، ولكن منذ أعوام يشهد المعهد احتكاكات جراء المواقف السياسية للحكومة الروسية.

حينما أسقطت مجموعة مدعومة من روسيا طائرة على متنها ركاب هولنديون، شعر أحد الأكاديميين الهولنديين في مجال بحوث الخلايا الجذعية بأنه أصبح عاجزاً عن مواصلة مشواره العلمي. في الحقيقة، ليس سهلاً الحصول على عالِم من النخبة مثله، وإذ تعتمد حكومتك نمط سلوك عبثي، يصبح الاحتفاظ بهؤلاء أكثر صعوبة. في خضم موجة الغضب الحالية بشأن الوضع في أوكرانيا، من الصعب ألا تشعر بالأسف تجاه أكاديميين لم يدخروا جهداً في سبيل بناء روابط مهنية مع المجتمع العالمي، لكن جل ما حصدوه دمار إنجازاتهم نتيجة عملية صنع القرارات خارجة عن إرادتهم تماماً.

بالتالي، تزداد عملية اتخاذ القرارات تلك عبثية حينما ينظر المرء إلى أداء بوتين على الساحة المحلية. لقد نظّم بوتين حملات لتعزيز البحث العلمي في روسيا، معترفاً بالأهمية التي تكتسيها من أجل خير مستقبل البلاد الاقتصادي. قبل سنتين، افتتح رسمياً مصنعاً لـ"مرسيدس بنز" في روسيا، برفقة وزير الاقتصاد الألماني. والآن تراه على استعداد لأن يدير ظهره لمعظم تلك الإنجازات أو كلها، من أجل تحقيق مكاسب يتوقع أن يحوزها من عملية عسكرية خاصة واحدة.

في الآونة الأخيرة، وفي تطور غريب جداً، سبح ثلاثة رواد فضاء روس إلى داخل "محطة الفضاء الدولية" حيث تنعدم الجاذبية واحداً تلو الآخر، مرتدين سترات فضائية [صفراء وزرقاء] بلون العلم الأوكراني. هل تعمّدوا تهريب بدلات الطيران إلى الخارج من دون علم السلطة العليا؟ هل كانت الفرق الفضائية على الأرض متواطئة في هذا العمل؟ ما شكل الاستقبال الذي يتوقعون تلقّيه عند عودتهم إلى الأرض؟ عموماً، رفض مركز مراقبة البعثة أن يكون اعتماد الألوان مقصوداً، معتبراً أنه جاء مصادفة.

وفي غمرة ذلك كله، يبدو مهماً أن نضع الأمور في نصابها إلى حد ما. طوال أعوام عدة، بدا أن جدار برلين سيبقى منتصباً إلى الأبد وسط مدينة كانت ذات يوم عظيمة وهدية مطلقة لكُتّاب الإثارة في كل مكان. ولكنه يبدو من حيث نقف الآن، حاشية صغيرة في أسفل تاريخ البشرية. بعدما شُيّد في 1962، سقط الجدار الفاصل مع حلول 1989، وهي فترة زمنية قصيرة جداً. في النهاية، سينتهي القتال في أوكرانيا، لكن المجتمع الدولي لن يشعر براحة كافية للانخراط في العلوم الروسية مجدداً قبل مرور أعوام عدة على ذلك.

 

نشر في "اندبندنت" بتاريخ 7 أبريل 2022

© The Independent

المزيد من تقارير