يواجه الجزائريون وضعاً غير مألوف بعد أن بلغت الأسعار مستويات قياسية منذ بداية رمضان، وفي وقت حاولت الحكومة مواجهة الظاهرة بإجراءات مثل أسواق "الرحمة" وتوسيع دائرة "من المنتج إلى المستهلك"، غير أن لا شيء تغير، ما يطرح تساؤلات حول من يمسك بزمام الأسعار في البلاد.
وفي حين يترقب المواطن انفراجاً في الأزمة الاقتصادية والاجتماعية التي أسقطت القدرة الشرائية بالقاضية، بعد ظهور بوادر بنهاية جائحة "كورونا"، استيقظ مع بداية شهر رمضان على وقع جنون الأسعار جراء الغزو الروسي لأوكرانيا، وما ترتب عليها من مصاعب اقتصادية انعكست بشكل مباشر على الوضع الاجتماعي الدولي لما للدولتين من ثقل، وهما اللتان تتصدران منتجي القمح والحبوب والغاز وغيرها من المواد الضرورية.
وبات الوضع لا يطاق منذ بداية شهر الصوم، إذ تستمر أزمة ندرة مواد استهلاكية مثل الحليب والزيت والطحين، ولم تخلُ يوميات المواطنين من الطوابير لاقتناء هذه المنتجات التي تقوم الحكومة بمجهودات كبيرة للتخفيف من الأزمة، وأهمها فتح شبكة أسواق حملت اسم "الرحمة"، وكذا توسيع سياسة "من المنتج إلى المستهلك"، بهدف توفير المواد الغذائية وخلق أسعار في المتناول، لكن يبدو أن الخطوة لم تحقق مرادها في ظل استمرار الندرة وارتفاع الأسعار.
1200 سوق
"الرحمة" هي مجموعة أسواق وضعتها الحكومة من أجل تقريب المنتج إلى المستهلك وتقليص دائرة "المناورين" بما يخدم المواطن من خلال إيصال السلع بأسعار معقولة، وعلى الرغم من عدم انتشارها في مختلف مناطق البلاد، فإنه يقدر عددها بـ1200 سوق موزعة عبر 58 ولاية "محافظة"، وفق ما ذكرت وزارة التجارة التي أكدت "أن هذه المساحات التجارية تعرض مختلف المنتجات للبيع بأسعار موحدة ومنخفضة مقارنة بباقي المحال"، وأضافت أن "الخطوة تهدف إلى توفير السلع والحد من نشاط المضاربين الذي عادة ما يتسبب فعلهم في الندرة والغلاء"، مشيرة إلى أن "تموين هذه الأسواق بالسلع والمنتجات ومختلف البضائع سيكون مباشرة من المنتجين والفلاحين من دون المرور عبر وسطاء".
ترحيب وانتقاد
ولقي الإجراء ترحيباً من عدة أطراف، وأوضحت المنظمة الجزائرية لحماية المستهلك أن "فتح ما يعرف بـ(أسواق الرحمة) التي صارت عادة ترافق حلول رمضان، خطوة مستحسنة شرط أن يتم تموينها وفق المعايير المطلوبة"، إلا أنها أشارت إلى بعض النقائص وقالت إن "عددها ضعيف مقارنة بالحاجة، فالعاصمة مثلاً بها بلديات تفتقد لسوق واحدة على الرغم من تعداد سكانها الكبير".
أما الجمعية الجزائرية للتجارة والحرفيين، فترى أن "عدة مصنعين لم ينخرطوا في هذه الخطوة، ما تسبب في ندرة بعض المنتجات بعدد من هذه الأسواق، لكن هناك من يرى "أن أسواق (الرحمة) لم تحقق أهدافها، حيث أكدت جمعية (أمان) لحماية المستهلك أن الأسعار المتداولة في هذه الأسواق لا تختلف كثيراً عما هو متداول في المساحات التجارية الأخرى"، مشددة على أن "المبادرة على الرغم من أنها تهدف إلى توفر مختلف المواد الاستهلاكية وبأسعار مقبولة، فإنها لا تحمل إلا اسم (الرحمة) في غياب مدلولاتها، إذ إن هناك الكثير من المواد الاستهلاكية الأساسية غير متوفرة في أغلب أسواق الرحمة، وإن وجدت فأسعارها ليست منخفضة بالشكل المعقول"، داعية وزارة التجارة إلى مراقبة هذه الأسواق التي بات يسيطر عليها بعض الباعة الفوضويين.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
قدرة شرائية منهارة
يوضح أستاذ الاقتصاد أحمد الحيدوسي لـ"اندبندنت عربية"، "أن تقرير منظمة الأغذية والزراعة (فاو) أشار في العدد الأخير الصادر في 8 أبريل (نيسان) الحالي، إلى أن متوسط مؤشر الأسعار ارتفع بـ12.6 في المئة وبلغ رقم 159.3 نقطة، وهو أغلى مستوى وصله منذ إنشاء المؤشر في 1990، وقد ركز التقرير على الأزمة الروسية الأوكرانية بحكم أن المنطقة تصدر 30 في المئة من القمح دولياً، و20 في المئة من الذرة، بالإضافة إلى الزيوت النباتية، ما أثر في أسعار السلع الاستهلاكية على مستوى العالم، لذلك جاءت أسواق الرحمة لامتصاص هذه الصدمة السعرية، على الرغم من أن هذه الأسواق تقليد منذ سنوات تعمل عليه الحكومة خلال شهر الصوم".
وأوضح أن "هذه الأسواق تحاول تخفيف العبء عن المستهلك الجزائري، لكن الأسعار ظلت مرتفعة في نظر المستهلك، لأن الأسعار في الأصل كذلك، بخاصة أن أغلب مدخلات الإنتاج مستوردة في الجزائر". يتابع أن "هذه الخطوة جيدة، إذ إنها تعتمد على قناة مباشرة من المنتج للمستهلك من دون وجود وسيط وبإعفاء ضريبي، لكن لم تخفف عن المواطن بحكم أن قدرته الشرائية منهارة، ويرجع ذلك إلى تراكم السنوات"، مضيفاً أن "مواجهة ارتفاع الأسعار تمر عبر وضع استراتيجية لإحلال الواردات ورفع الإنتاج، لا سيما في المنتجات الغذائية والزراعية"، مشيراً إلى "تسطير الحكومة برنامجاً طموحاً لرفع مردودية إنتاج الهكتار من الحبوب بأنواعها، باتباع أساليب وتقنيات حديثة كالسقي التكميلي واستعمال المكننة، وإذا ما وصلت هذه المردودية إلى 40 قنطاراً في الهكتار بالنسبة إلى الحبوب وبالمساحة المزروعة نفسها، فإنه يمكن الحديث عن تحقيق الاكتفاء الذاتي".
المنتجون يرفضون الانخراط
من جانبه، يعتبر الحقوقي عابد نعمان، في تصريح خاص، أنه "قبل الحديث عن أسواق الرحمة كأسواق، نتحدث عنها كإجراء مبدئي من حيث سبب وجودها والهدف منها وهل حققت أهدافها"، وقال إن "السلطات لجأت إلى إطلاقها لمواجهة ندرة وغلاء أسعار مواد استهلاكية أساسية تزامناً وحلول شهر رمضان، لكن للأسف لم تبلغ الهدف المنشود بسبب أن المنتجين والصناعيين لم ينخرطوا في هذا المسعى، ما جعل أسواق الرحمة من دون سلعة بالمفهوم التجاري"، مبرزاً أن "هذا السلوك يترجم شراسة الصراع الذي يعيشه قطاع التجارة بين الدولة والجناح العميق من كبار المضاربين".
ويتابع نعمان أن "مسألة الأسعار يفرضها الواقع التجاري الذي دخل نفق المضاربة، وتكوين ما يعرف بجماعة الضغط التجاري"، مشدداً على أن "الحل في تجفيف المنابع عن طريق إعادة هيكلة الغرف التجارية، التي صدر أخيراً قانون جديد ينظمها، مع إيجاد صيغة لحماية المنتوج من سوء استغلاله من لحظة الإنتاج إلى غاية وصوله إلى تاجر التجزئة".