Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

أورهان باموق: أردوغان لم يفرح بفوزي بنوبل ووصفني بالإرهابي

الروائي التركي يتحدث عن سر اختياره الطاعون مادة روائية وانهيار الامبراطورية العثمانية

أورهان باموق والروح العثمانية (أ.ف.ب)

منذ أن قرأ الكاتب التركي أورهان باموق رواية ألبير كامو "الطاعون"، في سن المراهقة، لازمه حلم في وضع رواية حول الموضوع نفسه. حلم حققه أخيراً في "ليالي الطاعون" التي صدرت ترجمتها الفرنسية حديثاً عن دار "غاليمار" الباريسية، وتشكّل جدارية تاريخية ضخمة (680 صفحة) تناول فيها قضية استقدام السلطان عبد الحميد الثاني أطباء من أوروبا عام 1901 للقضاء على وباء الطاعون الذي تفشّى آنذاك في الإمبراطورية العثمانية، مصوّراً في طريقه سيرورة انهيار هذه الإمبراطورية وانبثاق الحس القومي داخل جغرافيتها، وخاطّاً بورتريه آسِراً لإحدى بنات السلطان السجين مراد الخامس، الأميرة باريزي.

ولإنجاز كل ذلك، ابتكر صاحب "القلعة البيضاء" (1985) جزيرة خيالية باسم "مينغر"، تقع قرب جزيرة كريت، وراوية مؤرّخة تعمل على الرسائل، الخيالية أيضاً، للأميرة باريزي المسجونة مع زوجها الطبيب في الجزيرة. سردية بزمنين إذاً عزّز باموق فتنتها بجانب بوليسي عبر ابتكاره شخصية طبيب يجهد لكشف ملابسات جريمتي قتل تحدثان في مينغر، بموازاة مكافحته من أجل فرض حظر التجوّل على أبناء الجزيرة اليونانيين والأتراك، المعتادين العيش في الهواء الطلق.

الطاعون والخوف

وكما في رواياته السابقة، تحضر في "ليالي الطاعون" كل مهارات باموق السردية والكتابية التي حصد عليها جازة "نوبل" عام 2006، ومعها براعته النادرة في إعادة تشييد فصول تاريخية محورية، وفي مضاعفة وجهات النظر والتأملات والطُرَف في الموضوع المعالَج، الأمر الذي يحوّل روايته إلى عربسة أو موزاييك تصوّر بدقّة عملية انبثاق تركيا الحديثة، بأساطيرها وتناقضاتها، وتمسك بكل تعقيد الكائن البشري والحياة بفضل بنية مدوخة تقوم على انقلابات فجائية في عملية السرد وتأملات رجعية واستطرادات غزيرة، تساهم جميعاً في جعل "جسد اللحظة المعيشة ملموساً"، على حد قول أحد النقاد.

وكما لو أن ذلك لا يكفي، يمنحنا باموق أيضاً في عمله هذا تحليلاً ثاقباً في السلوك غير العقلاني الذي يخلّفه خطر الموت، وفي الطاعون تحديداً كوباء كاشِف لهذا السلوك، وفي الوقت نفسه، كذريعة لإطلاق العنان لأعمق غرائزنا، وبالتالي كعامل مزيل لأي كبح اجتماعي أو شخصي. وبالنتيجة، ما يتعذّر على أي مؤرّخ إنجازه، نظراً إلى الضوابط التي تتحكّم بمنهجية علمه، ينجح هذا الكاتب، من قمة فنه، في تحقيقه، عبر جمعه بين براءة السردية الأولى لروايته، التي تتحّكم بها نظرة امرأة في قلب الأحداث المروية، وعِلم السردية الثانية، سردية حفيدة هذه المرأة، المؤرّخة الشغوفة بالأدب من منطلق كونه الوسيلة الوحيدة لمقاربة حقيقة الكائنات والأشياء.

وفي ضوء ذلك، لا نعجب من كثرة الحوارات التي أجريت في فرنسا مع باموق، مباشرةً بعد صدور روايته. حوارات اخترنا هنا ترجمة مقتطفات من بعضها لإنارتها، أفضل من أي قراءة نقدية، ظروف كتابة هذا العمل، طبيعته ومضمونه، أو لقيمة ما يقوله باموق فيها حول عمله الكتابي ككل أو حول مواضيع أخرى مهمة.

سر الأوبئة

ففي ما يتعلّق بخياره وباء الطاعون موضوعاً لروايته، الذي يتّسم بجانب راهن، يوضح الكاتب لأحد الصحافيين: "انطلقتُ في كتابة هذا النص عام 2016، أي قبل وباء "كوفيد"، واهتمامي بالأوبئة عمره أربعة عقود، ناهيك عن الشخصيات المتخصصة بالطاعون الحاضرة في روايتي "القلعة البيضاء" و"المنزل الهادئ" (1983). في روايتي الجديدة، أستخدم هذا الوباء كاستعارة لتركيا ولنظام ينزلق نحو الاستبداد. ومع أن مصدر إلهامي الأول فيها هو رواية كامو "الطاعون" والأخلاقية الوجودية، لكني أردتُ وضع رواية واقعية. ضف إلى ذلك أنني تأمّلتُ كثيراً أثناء كتابتها في نظريات إدوارد سعيد، في الاستشراق وسوء قراءة الغرب للشرق ونسبه إليه قدرية فطرية".

نظراً إل حجم هذه الرواية الضخم وتطلّبها خمس سنوات من باموق لكتابتها، يسأله صحافي آخر إن كان قد قرأ كثيراً حول موضوعها قبل المباشرة بكتابتها، فيجيب: "أقارب في هذا العمل الطاعون والخوف من الموت، وأيضاً انهيار الإمبراطورية العثمانية وإدارتها البيروقراطية. موضوعات عدة إذاً قرأتُ لمعالجتها أبحاثاً كثيرة، تاريخية وطبية، وأيضاً روايات، أفضلها في موضوع الطاعون روايتا الإنجليزي دانييل ديفو، "يوميات سنة الوباء" (1722)، والإيطالي أليسندرو مانزوني، "الخطيبة" (1821)".

وحول تعدُّد أزمنة الرواية ورواتها، وعموماً، فن السرد الروائي الذي يمارسه، يقول:" تعلّمتُ من جوزيف كونراد، أننا كلّما تقدّمنا في السن، تمكّنا من القفز داخل الزمن. ومن ويليام فوكنر، تعلمّتُ مسألة تغيير الراوي. وفي الواقع، يمكننا أن نفعل هذين الأمرين في الوقت نفسه. يمكننا أيضاً استخدام مراشح (filtres) تاريخية. أحب اللجوء إلى كل هذه التقنيات، وحين أكتب رواية، أستعين بها جميعاً. الرواية لا تقتصر على قصة واحدة تتقدم في زمن واحد، إذ ثمة أشياء كثيرة تدور في فلكها. إنها مثل أوركسترا، في نظري، ولذلك تراني أبتكر عربسات في كل واحدة من رواياتي. لكن هذا لا يعني أنني روائي حداثي يصعّب على القارئ مهمته. ثمة فقط لعبة أدعوه إليها".

جزيرة خرافية

وعن سبب اختياره جزيرة خرافية خلال نهاية الإمبراطورية العثمانية إطاراً جغرافياً وزمنياً رئيسياً لروايته، يقول: "أردتُ أن أكتب عن نشوء القوميات والدول الصغيرة من خلال شخصيات صغيرة، وأن أتأمل في الأوبئة بعين جديدة ولغة جديدة. لطالما خلقت الأوبئة رغبات جديدة: رغبة البقاء على قيد الحياة أولاً، وأيضاً رغبة بدء حياة جديدة".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ولأن تراجُع الإمبراطورية العثمانية بدأ، بشكلٍ أو بآخر، مع تتويج السلطان عبد الحميد الثاني (1876)، أحد الأشخاص المهمين في رواية باموق، يسأله صحافي إن كان هذا السلطان هو المسؤول الأكبر عن انهيارها، فيجيب: "لا تنس أن القيصر الروسي (نيكولاي الأول) أطلق على هذه الإمبراطورية، منذ عام 1853، تسمية "رجل أوروبا المريض". أما بالنسبة إلى عبد الحميد الثاني، فصحيح أنه خسر منطقة البلقان، ولكن لماذا نلومه؟ ما هي جريمته؟ مثل الجمهوريين الأتراك الأوائل، أستطيع أن أقول إن انهيار الإمبراطورية العثمانية كان أمراً جيداً. وعلى خلاف المحافظين والقوميين المعادين للغرب، لا أعتقد أن هذه الإمبراطورية وقعت ضحية القوى الأجنبية، بما أنها هي التي اجتاحت وابتلعت البلقان وشبه جزيرة القرم والشرق الأوسط... الشيء الجنوني هو أنه حتى اليوم، تطرح تركيا نفسها كضحية".

وحول كتابته في روايته أن هذا السلطان هو مَن ابتكر "الإسلام السياسي"، يوضح: "في ذلك الوقت، كانت جميع الإمبراطوريات في طور التفكك، لا سيما الإمبراطورية البريطانية التي كانت تشمل الكثير من المسلمين في الأراضي التي تسمّى اليوم باكستان، بنغلادش والهند. وبوصفه أمير المؤمنين، رأى عبد الحميد الثاني أنه يمكنه استخدام هؤلاء المسلمين، عبر دفعهم إلى الثورة، إن مارست القوى الغربية ضغوطاً عليه. كانت دوافعه أكثر صلافة  منها دينية".

مناهضة الغرب

أما لماذا يبجّل الرئيس التركي أردوغان هذا السلطان، فـ "لأن هذا الأخير تحوّل في نهاية حياته إلى منظّر للرؤية التركية المناهضة للغرب، فوضع في هذا الموضوع كتاباً برنامجياً من 600 صفحة، مليئاً بالأخطاء. لكن في قيامه بذلك، وضع حجر الأساس لنزعة مناهَضة الغرب التي كان المحافظون والقوميون الأتراك يحتاجونها، كما كانوا يحتاجون سلطاناً "موقّراً" وحديثاً. وفي الحقيقة، كان هذا السلطان قاسياً وعنيفاً، لكن كانت له أيضاً جوانب متحضِّرة. ولذلك استولى حزب أردوغان على كتابه وحوّله إلى مرجع وراية".

وعن سبب بقائه في تركيا، على الرغم من كل شيء، يقول باموق: "بقيتُ لأنني أكتب باللغة التركية وما زلت قادراً على التنفسّ. لم يكن أردوغان سعيداً لنيلي جائزة "نوبل"، بل قال إنها مُنِحت لإرهابي، قبل أن يصرّح المتحدّث باسمه أن الرئيس لا يريد التعليق عليّ. عدتُ إلى تركيا ولم يتكلم أحد عن نيلي الجائزة ولا عن أن الرئيس وصفني بالإرهابي. هذا هو عالم الأتراك. العيش في تركيا ليس دائماً سهلاً، لكني أفعل ما في وسعي للبقاء لأنني أريد العيش هنا، في شقّتي التي تطلّ على البوسفور وأسكنها منذ سبعين عاماً".

يبقى أن نشير إلى أن مقاطع معينة من الرواية، لا سيما تلك التي يستولي فيها ضابط شاب يدعى كامل على السلطة ويعلن استقلال الجزيرة، ويصبح أيقونة لسكانها، دفعت محامياً من إزمير إلى رفع قضية ضدّ باموق اتّهمه فيها بـ "الإساءة إلى مؤسس الجمهورية التركية، مصطفى كمال، وإلى العلم التركي"! تهمة قد تعرّض الكاتب إلى محاكمة "كافكاوية" كتلك المحاكمات الكثيرة اليوم في وطنه.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة