Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

أورهان باموق عن الكتابة والذاكرة على هامش توغله في مدينته

"إسطنبول" يا لروعة تاريخها رغم الاضطهاد الرسمي

أورهان باموق في مدينته (غيتي)

كان عام 2003 عام نشاط استثنائي في حياة الكاتب التركي المشاكس، أورهان باموق وعمله. بل لعله العام الذي وصل فيه إنتاجه إلى ذروته رغم المناكفات بينه وبين سلطات بلاده التي لم تكن تستسغ مواقفه المناصرة لحقوق الأكراد والمؤيدة لاعتذار جدّي من الأرمن الذين اضطهدهم العثمانيون وخلفاء العثمانيين سواء بسواء. حينها كانت سمعة باموق تحميه وتربك السلطات السياسية الأمنية من دون أن تمنعها من محاكمته وتغريمه بين الحين والآخر. ومن هنا كان من الطبيعي أن يوسّع باموق دائرة تحركه في الخارج مقيماً توازناً دقيقاً بين إنتاجاته الأدبية التي راحت تدهش العالم وصولاً إلى حصوله بعد ذلك بثلاث سنوات على جائزة نوبل الأدبية ليكون أول تركي يفوز بها – والأخير حتى الآن -، كما وصولاً إلى استضافته في جامعات أميركية وأوروبية ليلقي فيها محاضرات، وبين مواصلته التعبير عن مواقف سياسية مشاكسة أمنت له احترام العالم في وقت زادت من حدة غيظ حكومات بلاده المتعاقبة تجاهه.

ذلك العام المثمر

في عام 2003 إذا كان باموق يراقب بعين الرضا ترجمات رواياته التي كانت صدرت حتى ذلك الحين، ولا سيما منها "البيت الصامت" و"اسمي أحمر" و"القلعة البيضاء" و"الكتاب الأسود" "والحياة الجديدة" ثم بخاصة تحفته "ثلج" التي كانت قد صدرت للتو، ويمعن تردداً في إعادة نشر روايته الطويلة الأولى "جودت بيه وأبناؤه" غير راغب في إحيائها بعد نسيان طويل، ثم وفي خضم ذلك كله يضع اللمسات الأخيرة على كتاب جديد غير روائي سيصدر في ذلك العام نفسه ويبقى واحداً من أحب كتبه إلى نفسه لأنه بالتحديد كتابه الأكثر ذاتية بالنظر إلى أن موضوعه مدينة "إسطنبول" التي كثيراً ما حضرت في كتاباته وفي حياته وفي ذكرياته وبدا له أن الوقت قد حان أخيراً لكي يكون لها كتاب خاص بها.

ونعرف أن كتاب "إسطنبول"، الذي عُرّف بكونه كتاب ذكريات، قد صدر بالفعل في ذلك العام بالذات، ليترجم من فوره إلى العديد من اللغات ويُستقبل بترحاب في كل اللغات التي نُقل إليها. ويمكن القول على أية حال أن هذا الكتاب قد كانت له مساهمة أساسية في حصول باموق على جائزة نوبل، ناهيك بدوره في عودة اهتمام الحياة الثقافية العالمية بتلك المدينة. ولعل الفرنسيين كانوا أكثر من غيرهم اهتماماً بالكتاب حيث صدر منذ العام 2007 في طبعة أنيقة ثم بعد حين في طبعة شعبية كان من نتائج الإقبال عليها أن دار نشر "غاليمار" عادت وأصدرت من الكتاب طبعة جديدة فخمة مزينة بعدد كبير من الصور واللوحات التي تتراوح بين الاحتفال بالمدينة وبالذين رسموها أو صوّروها على مدى التاريخ، وبين صور نابعة من ذكريات باموق نفسها وأحياناً من علاقته برواياته ومواضيعها. بالتأكيد جاء الكتاب واحداً من أجمل ما حظيت به مدينة إسطنبول في الغرب.

 

الإنجليز يحتفلون على طريقتهم

يومها، احتفلت الحياة الثقافية الإنجليزية بدورها بصدور ترجمة إنجليزية من الكتاب، وكان من بين وقائع الاحتفال فقرات خاصة كرستها محطة الـ"بي بي سي". ضمن إطار واحد من أهم برامجها الأدبية الأسبوعية كان يُبث أسبوعياً في ذلك الحين ويلقى إقبالاً كبيراً. يومها، طلب أصحاب البرنامج من أورهان باموق، صاحب جائزة نوبل للآداب بعد ذلك بثلاثة أعوام، أن يتحدث عن مدينته إسطنبول، في نص يأتي، بحسب ما طُلب منه، متكاملاً مع نصوص الكتاب ويأتي أكثر حميمية. ولقد اختار هو يومها أن يتحدث عما كان يفكر فيه حين كان قبل سنوات يكتب روايته "اسمي أحمر" التي تدور وقائعها جميعاً في إسطنبول ولكن قبل ثلاثة أو أربعة قرون.

"حين كنت أنجز كتابي هذا، قال باموق، راودت ذهني، على الأرجح أفكار منها فكرة ترى أن النقاد قد يكتبون يوماً ما وهم في صدد الحديث عن هذا الكتاب: ها هو باموق يفعل لإسطنبول ما فعله جيمس جويس لمدينة دبلن (في "يوليسيس"). فالحال أنني في ما كنت أكتب هذا النص وأتخيله ككتاب حديث وطموح، كان يجول في رأسي، بالتأكيد، طيف جيمس جويس... وأفكر في ما فعله لمدينته. وهنا، على سبيل أن استخلص لنفسي ما كان عليه الأمر بالنسبة إلى جويس أقول إنه نظر إلى مدينته، كما أنظر إلى مدينتي الآن، باعتبارها مدينة تقع على هوامش أوروبا، أكثر مما توجد من نقطة المركز منها.

"من الطبيعي والمؤكد أنك إذا عشت في هذه الزاوية من العالم، سوف تستحوذ عليك كل هواجس النزعة القومية وقلقها، وستقول لنفسك إن بلدك مهم جداً، ومدينتك فائقة الأهمية. إذاً، حين يخامرك هذا الشعور سيكون من شأنك على الفور أن تسحب مدينتك من زاويتها الهامشية لتجعلها تبدو وتُقرأ وكأنها باريس أو لندن – كأنها باريس بلزاك، ولندن تشارلز ديكنز – بمعنى أنها على الفور سوف تعثر على مكانها ومكانتها في خريطة العالم الأدبي.

حياة المدن أشبه بالعيش في مجرّة

"حياة المدينة. حياة المناطق العمرانية. الحياة في المدن، هي في الواقع أشبه بالعيش في مجرة من صور لا أهمية لها، متأرجحة، حمقاء وعبثية. غير أن نظرتك تكون هي ما يعطى معنى غريباً، وغامضاً لهذه التفاصيل الصغيرة العائدة إلى الشوارع، إلى الإسفلت أو إلى الطرق ذات الأرضية الحجرية بدلاً منه. إلى الإعلانات والبائعات. إلى مواقف الباصات، والمداخن والنوافذ. والحال أن كل هذه الأشياء الصغيرة أو الكبيرة، هي التي تشكل نسيج المدينة، وكل مدينة تبدو، في هذا السياق، مختلفة عن غيرها. ولعل هذا ما يجعل من المستحيل عليك أن تعطي صورة للمدينة عبر بطاقة بريدية. صورة المدينة تأتي من مذاق هذا النسيج... وهذا ما فعلته أنا بإسطنبول.

"أذكر أن الكاتب الفرنسي جيرار دي نرفال، الذي كان شخصاً يميل إلى الإحباط، وشاعراً، أتى إلى هنا ليكتب كتاباً ضخماً، سميكاً وغريباً سمّاه "رحلة إلى الشرق". لقد كان كتاباً طموحاً متلوناً في بعض الأحيان... بيد أن مقاطع عديدة منه أتت رائعة. بعده جاء مواطنه وصديقه تيوفيل غوتييه ليضع عن إسطنبول كتاباً مثيراً للاهتمام. غير أن أفضل كتاب وضعه أجنبي عن إسطنبول حتى الآن هو ذاك الذي كتبه مؤلف روايات الأطفال الإيطالي إدموندو دي آميشي. كان كتاباً في أدب الرحلات للناشئة. ولقد كان هذا الكتاب من النجاح بحيث أنه ترجم من الإيطالية إلى لغات عديدة. وكانت مثلاً فصول منه تحكي عن كلاب إسطنبول أو عن شوارع في إسطنبول فريدة من نوعها.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

روائح المدن وأصواتها

"أتى بعد هؤلاء وقبلهم كتاب آخرون، لكن قلة منهم فقط، أصابت الهدف. أما البقية فقد اكتفوا برسم صورة غرائبية مثيرة لإسطنبول. هؤلاء لم يدركوا حقيقة نسيج المدينة. تنبهوا إلى النُصُب والمباني والتفتوا إلى كل ما هو غرائبي وغريب، مضيفين إلى هذا كله ألواناً من عندهم ليس لها أدنى وجود في إسطنبول الحقيقة (...). ولا بد هنا من أن أذكر أمراً مهماً، هو الأصوات التي يمكن لزائر المدينة الحقيقي والكاتب عنها أن يسمعها. إنها عادة تكون خاصة بالمدينة، تكون طابعها. في المدن الغربية يكون صوت مترو الأعماق شديد الخصوصية، مثلاً، ويبقى مالئاً روحك وذهنك فيعود في أية لحظة، عبر مشهد في فيلم، أو حتى حين تسيقظ ذكرى المدينة في خيالك ذات لحظة. أما في إسطنبول فإن الصوت الأكثر حضوراً هو صوت صفارات المراكب، وحريق الفحم داخل المداخن، وأمواج البوسفور وهي تخبط الأرصفة، والمراكب الصغيرة الضيقة وهي تسري تحت النوارس المحلقة.

"وما هذه كلها سوى الأشياء التي ما إن أغمض عيني حتى تتسارع عائدة إلى مخيلتي حتى ولو كنت في الطرف الآخر من العالم، جاعلة إسطنبول تبزغ أمام عيني روحي بشكل مباغت".

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة