Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

هلال الفقهاء أم قمر "تلسكوب"؟

سجالات سنوية يختلط فيها الفقه بالسياسة والصراع على النفوذ بين رؤية العين المجردة رمضان والمراصد الفلكية

رغم تقدم علوم الفلك جدل رؤية الهلال لايزال قائما (مركز الفلك الدولي)

قبل عقود وقرون كان عادياً أن تصوم القاهرة رمضان، فيما لا تزال مكة في حل من أمرها، لا يثير ذلك أي إشكال طبقاً لاختلاف المطالع الذي تداوله الفقهاء في عصور مضت، لم يكن "التلسكوب" فيها طوع السكان والمتخصصين في الدول العربية والإسلامية.

إلا أن استمرار الجدل بعد تقدم علوم الفلك على النحو القائم، يطرح عديداً من التساؤلات حول المآرب التي تقف وراء الأمر، خصوصاً وأن الدول الإسلامية المعنية بالأمر لديها كيانات جامعة، مثل منظمة التعاون الإسلامي وجامعة الدول العربية، وأخرى بين هذه وتلك، يمكنها استحداث تنظيم يحسم الجدل المتعلق بأحد أركان الإسلام (الصيام) التي تهم نحو ملياري مسلم.

عند الطرح السنوي لهذه القضية يدور السجال عمن كان صيامه أقرب للصواب، ومن فاتته "ليلة القدر"، لأن دولته جانبها الصواب، ثم ماذا يترتب على الشيعي الذي صام على رؤية السنة، والسني الذي أفطر على رؤية الشيعي، وهكذا تذهب الأفكار أحزاباً وتتناسل من أصلابها المسائل، في حالة جدل يصفه البعض بالعقيم، لولا أن مؤسسات دينية وأخرى تنهج مسار الإسلام السياسي، تجد في السجال باباً للاستقطاب وربط الرواد بوثاقها، والمريدين بأعتابها.

ما تقول خريطة هلال 2022؟

واستبق مرصد الفلك الدولي هذا العام الحالة السنوية ببيان، يبشر بمزيد من الانقسام الذي يراه البعض له خلفيات سياسية، فوزع خريطة لهلال رمضان في هذا العام، تظهر أين يمكن أن يرى وأين يستحيل.

ويقول "حيث إن شهر شعبان بدأ يوم الجمعة 4 مارس (آذار) 2022 في معظم الدول الإسلامية، فعليه ستتحرى معظم الدول هلال شهر رمضان يوم الجمعة 29 شعبان 1443هـ الموافق 1 أبريل (نيسان)"، إلا أن المركز قطع بأن رؤية الهلال في ذلك التاريخ "غير ممكنة بالعين المجردة من أي مكان في العالم الإسلامي، في حين أنها ممكنة باستخدام التلسكوب فقط، وبصعوبة بالغة من أطراف بسيطة من غرب القارة الأفريقية، ورؤية الهلال يومها ممكنة بالعين المجردة بصعوبة بالغة في أجزاء من القارتين الأميركيتين. كما أن رؤية الهلال يومها باستخدام تقنية التصوير الفلكي ممكنة بصعوبة كبيرة في حالة الصفاء التام للغلاف الجوي فقط".

واعتبر أن إمكانية رؤية الهلال بالتلسكوب في أجزاء من العالم الإسلامي يوم الجمعة، إلى جانب حدوث الاقتران قبل غروب الشمس، وغروب القمر بعد غروب الشمس في جميع مناطق العالم الإسلامي، تجعلان من المتوقع في هكذا ظروف "أن تعلن غالبية دول العالم الإسلامي بدء شهر رمضان في اليوم التالي، وهو يوم السبت 2 أبريل، وستكون عدته فيها 30 يوماً"، ويساندها في ذلك الباحث الفلكي السعودي ذائع الصيت الدكتور خالد الزعاق، الذي أصبحت إفاداته بالأحوال الجوية محل ثقة السعوديين بعد تجربة طويلة.

لكن المركز الفلكي ينبه في نشرته الدورية إلى أن هناك اتجاهاً آخر، قد لا يرى في توظيف التلسكوب حلاً كافياً، فلا يعول إلا على العين المجردة، وهي التي قطع بأنها يستحيل أن ترى الهلال الجمعة، لذلك فإن هذه الشريحة من الدول، على الرغم من قلتها موجودة، "فيتوقع أن يبدأ فيها شهر رمضان يوم الأحد 3 أبريل، وستكون عدته في بعضها 29 يوماً وفي بعضها الآخر 30 يوماً".

ولا يتعرض المركز للاعتبارات السياسية التي يرى البعض أنها الدافع وراء اختيار إحدى الطريقتين أحياناً، لكنه تجاوز هذا الشق إلى وضع الهلال في دول لا يمكنها أن تراه الجمعة حتى بـ"التلسكوب"، ويضيف "الحسابات السطحية للهلال وقت غروب الشمس كما يأتي، في جاكرتا يغيب القمر بعد 11 دقيقة من غروب الشمس، وعمره 3 ساعات و43 دقيقة. وفي أبو ظبي يغيب القمر بعد 14 دقيقة من غروب الشمس، وعمره 9 ساعات و5 دقائق. وفي مكة المكرمة يغيب القمر بعد 17 دقيقة من غروب الشمس، وعمره 10 ساعات و25 دقيقة. وفي عمّان والقدس يغيب القمر بعد 16 دقيقة من غروب الشمس، وعمره 10 ساعات و34 دقيقة. وفي القاهرة يغيب القمر بعد 17 دقيقة من غروب الشمس، وعمره 10 ساعات و54 دقيقة. وفي الخرطوم يغيب القمر بعد 18 دقيقة من غروب الشمس، وعمره 11 ساعة و5 دقائق. وفي الرباط يغيب القمر بعد 23 دقيقة من غروب الشمس، وعمره 13 ساعة و22 دقيقة. ورؤية الهلال في جميع المناطق سالفة الذكر غير ممكنة لا بالعين المجردة ولا باستخدام التلسكوب".

تقنين الرؤية في السعودية

اختلاف المعطيات الفلكية ومرونة النظر إليها في بعض الأحيان، هو ما دفع مهتمين إلى الدعوة في وقت مبكر للاتفاق على آلية، تمكن من "توحيد الرؤية" بين البلدان العربية أو حتى الإسلامية، مثلما هو قائم في شهر ذي الحجة، الذي تتبع فيه الغالبية السعودية، التي تقام على أرضها في مكة المكرمة شعائر الحج فتأتيها وفود الحج من معظم دول العالم، فيما يؤدي أهاليهم في المدن المختلفة صلاة العيد والأضاحي، في انسجام تام مع الحجاج، فما الذي يمنع الاتفاق على رمضان، بعد أن صار ممكناً في الأضحى، وهما عيدان في المنزلة نفسها عند المسلمين؟

يحرج هذا السؤال المهتمين، لأن أحداً لا يعرف له إجابة نهائية، فعدم الاتفاق على أي شيء، عربياً، صار سمة لازمة، حتى شاع القول "اتفق العرب على ألا يتفقوا"، لكن على الرغم من ذلك نظمت السعودية من جهتها "ترائي الهلال" على نحو يتطور عاماً بعد آخر، وظفت فيه العلوم الحديثة، ولم تتركه في أيدي رجال الدين وجماعات الإسلام السياسي التي تشرق بفتاواها وتغرب، وذلك بعد جد طويل، أثار سجالات بين المثقفين والمحافظين، الرافضين في ما سبق حتى الاستئناس بالحساب والمراصد الفلكية، والاقتصار على "العين المجردة" وحسب.

وفي تقرير لوكالة الأنباء الرسمية "واس" يشير إلى أن الرياض أوكلت هذه المهمة للمحكمة العليا التي تقف على ضمان موثوقية الترائي من خلال معايير عدة منها المعيار الطبي، حيث يخضع المترائي لتجربة طويلة واختبار طبي لفحص حدة النظر بحسب ما ذكر رئيس المحكمة العليا الشيخ خالد بن عبدالله اللحيدان، ثم تُعرض أوراقه على اللجنة الإشرافية الدائمة لرصد الأهلة بوزارة العدل المعتمدة بأمر من العاهل السعودي، ويتابع أعمالها وزير العدل في البلاد.

خدعة "السراب المتعالي"

وفي ظل معايير مقننة لاختيار المترائين يعتقد اللحيدان، أن احتمالية وجود حالة خداع بصرية قد تعتري بعضهم يقل شأنها عند بعض الفلكيين، لكنها تبقى محل نقاش علمي كما عرض البروفيسور الراحل حسن باصرة في إحدى مشاركاته، الذي قال إن الهلال قد يظهر فوق الأفق الغربي، على الرغم من غروبه قبل الشمس تحت تأثير ما يسمى "السراب المتعالي" الذي يتسبب في إظهار صور خيالية مرتفعة في السماء فوق الأجرام الأصلية.

وفيما كان بعض التقليديين لا يرى اعتباراً إلا للعين المجردة، يرى المتخصصون أن الشريعة الإسلامية لا ترفض الاندماج مع العلوم الأخرى، بل كانت منسجمة معها لذا كانت فكرة ربط التقنية بالترائي من الموضوعات التي يناقشها أعضاء هيئة كبار العلماء في الرياض "ليعطوا الرأي الراجح فيها بعد البحث والتقصي وعليه أجازت الهيئة عام 1403هـ الاستعانة بالمراصد الفلكية، وحددت الفرق بين الشهر القمري عند علماء الشريعة وعلماء الحساب، ونُشر البحث في مجلد أبحاث الهيئة عام 2013، كما أصدر مجلس الوزراء عام 1418 هـ لائحة تحري رؤية هلال أوائل الأشهر القمرية".

ويرى اللحيدان في هذا السياق أن الاعتماد في ثبوت دخول الشهر الهجري من عدمه يتم بناء على رؤية الهلال بعد غروب الشمس لقوله عليه الصلاة والسلام، "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته" لأنه الأصل في ذلك اتباعاً للسنة في اعتماد الرؤية، مشدداً على أن العلم الحديث لا يتصادم إطلاقًا مع الشريعة السمحة الصالحة لكل زمان ومكان، ولا تُقبل شهادة غير صحيحة تخالف الحس والواقع".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ولفت إلى أن الآلية المتبعة هي ندب قضاة للشخوص مع المترائين في موقع الترائي في المراصد المنتشرة في مناطق المملكة التي تشرف عليها مدينة الملك عبد العزيز للعلوم والتقنية، بمشاركة نخبة من المتخصصين في رصد الأهلة وعدد من المتخصصين في علم الفلك ممن يحملون شهادة الدكتوراه في هذا التخصص، ومندوبي الجهات الحكومية مع العناية الفائقة في اختيار مواقع هذه المراصد، حيث تخضع لمعايير جغرافية، وعلمية، وفلكية تُسهِّل عملية الترائي للوقوف على دقة هذه المراصد من رؤية للهلال أو عدمه.

مراصد وقضاة وهواة

وانطلاقاً من أهمية استخدام الأجهزة التقنية في الترائي على أساس أنها تعمل على إيضاح موجود لا إيجاد مفقود، تضم المراصد الفلكية للمدينة أجهزة مزودة بأحدث التقنيات والـ"تلسكوبات" والمناظير والكاميرات الحرارية من نوع "CCD"، لتعمل هي ومرصد جامعة المجمعة على رصد الأهلة، إلى جانب المرصد الحديث في برج ساعة مكة المكرمة الذي ينتظر العمل به، وتُربط هذه المراصد بالبث المرئي المباشر مع المحكمة العليا أثناء انعقاد الجلسة عند بدء عملية الرصد والترائي، بينما يقوم الفريق المتخصص بإعداد التقارير الخاصة بأحوال القمر.

وتتابع المحكمة العليا رصد الأهلة تقنياً في أيام الترائي منذ وقت مبكر، وكذلك التقارير الفلكية والحسابية الصادرة من الجهات الحكومية عن ولادة القمر ووقت غروب الشمس والقمر ومكثه ودرجته، والأحوال الجوية في كل منطقة من مناطق الرصد لمعرفة مدى إمكانية الرؤية من عدمها، ولا تقبل شهادة الرائي على عواهنها، بل أفاد رئيس المحكمة أن اللجنة تناقشه للتحقق من صحة رؤيته قبيل الإعلان عن رؤية الهلال.

وينشط المركز الوطني للفلك والملاحة السعودي في مجال رصد الأهلة على المستوى العالمي، إذ نشر عديداً من الأوراق العلمية في الدوريات المحكمة، وينشر بيانات الأهلة في كتيب يعد لهذا الخصوص سنوياً، ووفرت مدينة الملك عبد العزيز للعلوم والتقنية لرصد الأهلة مراصد موزعة في عدد من مناطق المملكة منها الثابتة في مكة المكرمة "مرصد أم القرى" وفي تبوك "الوجه، وحالة عمار"، والبقية متحركة في كل من الرياض "سدير، تمير، وشقراء" والقصيم، والدمام، والمدينة المنورة، وحائل.

مطاردة "تسلكوب" الهلال قبل الليل

وتمكن البروفيسور زكي المصطفى وفريق العمل معه حسب وكالة "واس" من رصد الهلال مرات عدة في وضح النهار بالكاميرات عالية الحساسية، وجرى تتبعه حتى مغيب الشمس، وحصل الفريق على براءتي اختراع إزاء هذه الخطوة العلمية، فيما لايزال العمل يجري على تطوير هذا التقنية للرصد في الظروف المناخية الصعبة مثل الغيوم والغبار، وذلك بتصميم مرشحات خاصة (فلاتر)، وهكذا يتم الدمج في السعودية بين رؤية العين المجردة والتلسكوب.

وأفاد أن تقويم أم القرى اعتمد في إعداده على تحقيق الشروط العلمية المتوافقة مع الشروط الشرعية بالجمع بين ولادة القمر ومفارقته للشمس، أي إنه يغرب بعدها على إحداثيات الكعبة المشرفة، وهي المرة الأولى في التاريخ الإسلامي يتم إعداد تقويم بهذه الشروط، مبيناً أنه من أساسيات رصد الأهلة حدوث ولادة الهلال، أو ما يُسمى بالاقتران، قبل مغيب الشمس ومغيب القمر بعد مغيب الشمس في مكان الرصد.

نظرة الفقهاء في رفض الـ"تلسكوب"

في الجانب الشيعي، لا يزال المرجع السيد علي السيستاني يرى مثل نظرائه الكبار من فقهاء السنة القدامى أن رؤية الهلال بالعين المجردة هي المعتبرة شرعاً، إذ ناقش هذه القصة في سلسلة من الفتاوى وثقها عنه موقع المرجعية في العراق، إذ كان من بين التساؤلات "الدين الإسلامي دين متجدد صالح لكل الأزمان، والاعتماد على الرؤية بالعين المجردة كان يصلح لزمن لا تتوفر فيه الأدوات المقربة، فلماذا لا يفتى بالاعتماد عليها في هذا الزمان"؟

أجاب عن ذلك بأن "الدين الإسلامي الحنيف يصلح لكل زمان، ولكن من قال إن الاعتماد على الرؤية المحلية بالعين المجردة لا يصلح لهذا الزمان؟ بل لو كان أهل كل منطقة يعتمدون على الرؤية غير المسلحة (بالتلسكوب) فيها فيفطرون إن شاهدوا هلال شوال ويصومون إن لم يشاهدوه، لما حدث هذا الاختلاف والإرباك الذي نشهده في كثير من السنين".

ويرفض السيستاني ومثله معظم الفقهاء المؤيدين لرؤيته من السنة والشيعة، أن يكون عدم الأخذ بالرؤية بـ"التلسكوب" في إثبات الهلال، مبعثه "الإحجام عن الاستعانة بالأجهزة الحديثة في تشخيص موضوع الحكم الشرعي، بل من جهة أن ما جُعل موضوعاً له إنما هو من قبيل ما يعد أن يكون قابلاً للتحقق من وجوده لعامة الناس ممن يملك عيناً سليمة حتى أهل الأرياف وسكنة البراري والجبال".

 وفي وقت لا يجد فيه الصائمون في الدول الإسلامية حرجاً كبيراً بوصفهم يتبعون إعلانات دولهم على أي نحو تكون، يقع المغتربون في دول غربية وذات غالبية غير مسلمة في سجالات موسمية لا تنتهي، حسب التيار الذين ينتمون إليه والجهة التي تمول المؤسسة الراعية للجامع والمركز الإسلامي، فإن كانت مصرية أو سعودية أو قطرية أو تركية مثلاً صاموا على مواقيتها وأفطروا، أولا اختارت ما يروق لها طبقاً لآليات غير مقننة تتبدل حيناً بعد آخر، وإن كانت "رابطة العالم الإسلامي" تحاول تنظيم هذا القطاع العريض ليس فقط من هذا البعد، ولكن أيضاً في الفتوى ولحوم "الحلال"، وغيرها.

اقرأ المزيد

المزيد من تحقيقات ومطولات