Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"الصلح مع الفاسدين" يثير الجدل في تونس... استعادة أموال أم تشنيع؟

مرسوم رئاسي يقايض العقوبات بإنشاء مشاريع تنموية ومراقبون يتساءلون عن أي جرائم يتحدث؟

قوات أمن قرب مبنى وزارة الداخلية في وسط العاصمة التونسية (رويترز)

وقع الرئيس التونسي قيس سعيد، مرسوماً يوفر فرصة عفو لرجال أعمال متورطين في قضايا فساد، مقابل إنشائهم مشاريع استثمار ذات طابع تنموي في جهات فقيرة. وسبق أن طرح الرئيس هذا المقترح في الصيف الماضي بمجرد تجميده البرلمان وحله الحكومة وانتقاده فشل جميع الحكومات السابقة في استرجاع مقدرات الشعب التونسي المنهوبة من أموال وأملاك، وفق تقديره.

الرئيس التونسي وصف مقايضة رجال الأعمال المتهمين بقضايا اقتصادية وأعمال وممارسات ترتبت عليها منافع غير مشروعة بمشاريع تنموية، بالمبادرة العملية لاسترجاع الدولة التونسية مبالغ مهمة من الأموال المتخلدة بذمة متجاوزين للقانون. على أن يجري إسقاط التبعات القضائية المفترضة ضدهم، واسترجاع الأموال بتعويض العقوبات السجنية والمالية عن طريق تطوير البنى التحتية في جهات تشكو من نقائص.

لكن المرسوم الذي أصدره سعيد بمناسبة عيد الاستقلال قوبل بانتقادات، إذ رأى محللون تحدثوا إلى "اندبندنت عربية" أن الصلح المذكور يفتقر إلى استراتيجية واضحة لتنفيذه في جانبه الخاص بالمشاريع التنموية المتعهد بها ومردوداتها الاقتصادية من قبل المتمتعين بالتسوية الجزائية، علاوة على الغموض الذي يلف قائمة رجال الأعمال التي لم تنشر.

تسوية جزائية

وكان الرئيس تحدث منذ 28 يوليو (تموز) 2021، بعد تجميده البرلمان بيومين، عن قائمة لرجال أعمال نهبوا 13.5 مليار دينار (4.57 مليار دولار)، ويبلغ عددهم 460، ودعا لدى استقباله رئيس منظمة الأعراف، سمير ماجول، رجال الأعمال المعنيين، الذين وردت أسماؤهم في تقرير أعدته اللجنة الوطنية ﻟﺘﻘﺼﻲ الحقائق حول الرشوة والفساد، للانخراط في الصلح الجزائي، مضيفاً أنه "ليست هناك نية للتنكيل برجال الأعمال، ولكن الأموال المتخلدة بذمتهم يجب أن تعود للشعب". وأعلن أنه "سيجري إصدار نص حول إبرام صلح جزائي مع المتورطين في نهب المال العام، وكل شخص معني يتعهد بتنفيذ مشاريع تنموية في المدن والقرى الأكثر فقراً على غرار المدارس والبنية التحتية والمستشفيات".

وأوضح الرئيس أنه سيجري ترتيب رجال الأعمال المعنيين بالأمر ترتيباً تنازلياً، من الأكثر إلى الأقل تورطاً، وترتيب المدن والقرى من الأكثر إلى الأقل فقراً، على أن ينجز الأكثر تورطاً مشاريع في المنطقة الأكثر فقراً.

ترتيبات إبرام الصلح

نشرت الجريدة الرسمية "الرائد الرسمي"، 21 مارس (آذار) الحالي، المرسوم الرئاسي الذي وقعه سعيد بمناسبة عيد الاستقلال. ووردت فيه ترتيبات تنفيذ الصلح مع الدولة في الجرائم المالية التي أنتجت ضرراً مالياً للدولة والمؤسسات والهيئات العمومية أو أي جهة أخرى، تكريساً لمبدأ العدالة الجزائية التعويضية وطرق توظيف عائدات الصلح الجزائي لفائدة المجموعة الوطنية على قاعدة العدل والإنصاف. ويهدف إلى استبدال المحاكمة أو العقوبات التي كان من المفروض أن تقدم في حق الدولة أو إحدى مؤسساتها أو أي جهة أخرى، بدفع مبالغ مالية أو إنجاز مشاريع وطنية أو جهوية أو محلية بحسب الحاجة. ويدخل في احتساب المبالغ المالية أو المشاريع المتعهد بإنجازها نسب التضخم المالي استناداً إلى الأرقام الرسمية التي تتولى تقديمها الهياكل الرسمية المختصة.
وتشمل أحكام هذا المرسوم كل شخص مادي أو معنوي صدرت في شأنه أحكام جزائية، أو كان محل محاكمة جزائية أو تتبعات قضائية أو إدارية أو نفذ أعمالاً تترتب عليها جرائم اقتصادية ومالية. ويجري تعيين أعضاء اللجنة الوطنية للصلح الجزائي المكلفة بالبت في الصلح من قبل رئيس الجمهورية، وتتكون من قضاة ومراقبين إداريين. وتتعهد بالملفات بموجب مطلب من المعني بالصلح. كما يمكن للجنة أن تتعهد تلقائياً بمطالب المتصالحين.

وإذا كان طالب الصلح الجزائي موقوفاً أو بصدد تنفيذ عقوبة سالبة للحرية، فيقدم طلب الصلح الجزائي إلى الوكيل العام بمحكمة الاستئناف. ويتضمن القضايا الجزائية المنشورة والتبعات الجزائية القائمة ومآلها والمحكمة المتعهدة والأحكام الصادرة ومبلغ الصلح المقترح أداؤه وآجال تسديده أو المشروع المقترح إنجازه والضمانات المالية لتنفيذ الصلح. وتكلف اللجنة الوطنية للصلح الجزائي بضبط قائمة المعنيين بالصلح من أجل الأفعال المرتكبة منذ الفترة السابقة لسنة 2011 إلى حد تاريخ نشر المرسوم. وتعرض الصلح على الطالب وتتفاوض معه حول قيمة المبالغ المالية الواجب دفعها.

ويقع إبرام الصلح في حدود المبلغ المالي المستولى عليه، أو قيمة المنفعة المتحصل عليها، أو مقدار الضرر الذي طال المال العام، مثلما تم تحديده من قبل اللجنة، تضاف إليه نسبة 10 في المئة عن كل سنة من تاريخ حصول ذلك. ويتخذ اتفاق الصلح المذكور صبغة الصلح النهائي إذا أفضى إلى أداء كامل المبالغ المستوجب دفعها، أو بعد إنجاز المشاريع المتعهد بها. وإن كان خيار طالب الصلح إنجاز مشاريع في حدود المبالغ المطالب بدفعها فإن اتفاق الصلح يتخذ صبغة الصلح الوقتي، شريطة تأمين مبلغ مالي لا يقل عن 50 في المئة من قيمة المبالغ المحددة من قبل اللجنة. ويجوز للجنة أن تقبل عرضاً بالصلح الوقتي، وتضبط أجلاً لا يتجاوز ثلاثة أشهر لخلاص ما تبقى من المبالغ.

ويترتب على الصلح الجزائي الوقتي إيقاف التبعات أو المحاكمة أو تنفيذ العقوبة، بما في ذلك تحجير السفر. وفي حال عدم إتمام تنفيذ بنود الصلح الجزائي تنتقل قانوناً الأموال المؤمنة إلى الدولة، وتستأنف التبعات أو المحاكمة أو تنفيذ العقاب. ولا يبرم عقد الصلح الجزائي النهائي مع اللجنة الوطنية إلا بعد إيداع كامل المبالغ المضمنة باتفاق الصلح في الحساب الخاص المفتوح بخزينة الدولة، أو بعد إنجاز المشاريع المتفق عليها. 

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)


التصرف في العائدات

وينص الفصل 29 من المرسوم على أن يفتح، بقرار من الوزير المكلف بالمالية، حساب أموال مشاركة في خزينة الدولة تحت مسمى "حساب عائدات الصلح الجزائي لتمويل المشاريع التنموية"، وتودع فيه المبالغ المالية المتفق عليها. وتوظف الأموال المودعة في تمويل إنجاز مشاريع تنموية اعتماداً على خصوصية المناطق واحتياجات الأهالي والأولويات الوطنية والمحلية والأهداف المرسومة بمخططات التنمية. كما ترصد 80 في المئة من العائدات لفائدة المدن والقرى المنتفعة بالمشاريع المذكورة حسب ترتيبها من الأكثر إلى الأقل فقراً. وتخصص 20 في المئة لمؤسسات في الجهات تأخذ شكل شركات ذات صبغة أهلية أو استثمارية أو تجارية طبقاً للمشاريع الجاري بها العمل. ويخضع التصرف في تلك الأموال إلى رقابة محكمة المحاسبات. 

قائمة غير محيّنة

الخبير الاقتصادي، معز الجودي، انتقد مرسوم الصلح الجزائي بالنظر إلى عدم الدقة التي تحيط بقائمة المنتفعين المفترضين به. وقال إن الرقم الذي أعلن عنه رئيس الجمهورية لرجال الأعمال المرتكبين لجرائم اقتصادية والمتحصلين على منافع مالية، وهو 460، عاد بالضرر على المؤسسات العمومية، إذ يحتاج إلى التحيين لأن الرقم المذكور يشير إلى 460 قضية منشورة، وتم البت في العديد منها خلال السنوات الأخيرة. وينسحب الأمر على الأرقام التي تحدث عنها سعيد بخصوص الأموال المنهوبة، إذ ذكر أنها 13.5 مليار دينار (4.57 مليار دولار)، وهي أرقام غير محينة بدورها وغير صحيحة، ولا تحتكم إلى أي بحث ودراسة أو قضايا منشورة. بل عبارة عن مجرد تقديرات لأملاك وليست سيولة.

وحذر الجودي من خطورة التشهير برجال أعمال، وانعكاساته السيئة على الاقتصاد التونسي. بينما وجب النظر جيداً في مدى مردودية المبادرة والصلح على الاستثمار في الجهات. وبالنظر إلى الترتيبات الموضوعة فإنها لن تكون خطوة فعالة، ومن المرجح أن تصطدم بالعديد من العراقيل.

ثغرات قانونية

من جانبه، أشار المحلل الاقتصادي، أنيس وهابي، إلى العديد من الثغرات القانونية التي احتواها المرسوم، فالتسوية الجزائية التي يطرحها تستوجب إجراءات سابقة، وعملية تدقيق قانونية تسهر عليها المؤسسات القضائية المختصة، وتشمل قائمة المنتفعين بالصلح، وهو ما لم يوفره الرئيس قبل تحرير المرسوم. علماً أن القوائم التي أُعلن عنها سابقاً تسببت في جدل كبير، ولم تتم مراجعتها بعد أن طرأت عليها تغييرات بسبب تسوية بعض الملفات لدى القضاء ووفاة بعض المتقاضين. والسؤال المطروح هو: عن أي قائمة يتحدث المرسوم الذي لم يحدد أيضاً السقف الزمني للجرائم، فالإشارة إلى ما قبل 2011 يجعل المجال مفتوحاً على تجاوزات عقود من الزمن. كما يحتوي نص المرسوم على تأثيرات على "الأمان القانوني أمام القضاء"، وهو المبدأ القضائي الذي يحتم استباق نص القانون للجريمة. والمرسوم الحالي يعارض هذا المبدأ. علاوة على نقاط الاستفهام التي تطرح حول اللجنة المكلفة بالنظر في ملفات الصلح وأهليتها في ذلك، والمقاييس المعتمدة بالنظر إلى طريقة اختيار أعضائها، فهي ستتشكل عن طريق آلية التعيين من قبل رئيس الجمهورية.