Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

المبادرتان الأفريقية والأممية أمام تحدي الانقسامات السودانية

تعاني البلاد رواسب تاريخية من النظام السابق وما قبله

بدا مبعوث الاتحاد الأفريقي والأمم المتحدة خلال المؤتمر الصحافي الذي عقداه في الخرطوم الأسبوع الماضي على قدر من الانسجام أمام انقسام الحكومة الانتقالية (اندبندنت عربية - حسن حامد)

منذ أن قاد الوساطة الأفريقية عام 2019 بين المكونين المدني والعسكري لتوقيع الوثيقة الدستورية، ركز محمد الحسن ولد لبات بصفته وسيطاً للاتحاد الأفريقي في الأزمة السودانية على التحديات التي تواجه الفترة الانتقالية، وأرجعها في كتابه "السودان على طريق المصالحة" إلى "طبيعة النظام السياسي الذي تم اختياره، وطبيعة القوى السياسية الموجودة وتراتبية أولويات المرحلة الانتقالية، وقضايا السلم والأمن في البلد، وأخيراً إلى تفاعل الحكم الانتقالي في محيطه الإقليمي والدولي". وبعد عام من مغادرته الوساطة ثم عودته مرة أخرى مبعوثاً خاصاً للاتحاد الأفريقي إلى السودان لم يحدث أي تغيير، بل زادت الأمور سوءاً بالتضارب في تفاعل الحكم الانتقالي في محيطه الإقليمي والدولي، فمعظم المواقف ظلت كما هي ناتجة من ميول خاصة لمكوني الحكم وليس عن تقدير وتعظيم لمصلحة الدولة.

أما المبعوث الخاص للأمين العام للأمم المتحدة، رئيس البعثة الأممية السياسية المتكاملة إلى السودان "يونيتامس" فولكر بيرتس، فقد ظلت مبادرته تتعرض لرفض بعض القوى الثورية وقبول آخرين، ولكن تظل هذه الانقسامات سيدة الموقف، إذ لم تستطع الحكومة حتى الآن الوصول إلى قرار تنفيذها.

ما جمع المبعوثين مؤتمر صحافي عقداه في الخرطوم الأسبوع الماضي، ظهرا فيه على قدر من الانسجام أمام انقسام الحكومة الانتقالية، وخلافاً لموقفهما القديم بما يعتقده كل طرف عن أولويته في قيادة الوساطة، ولحساسية الاتحاد الأفريقي من تدخل الأمم المتحدة في الشؤون والقضايا الأفريقية بما يتجاوز الدعم اللوجيستي وتعزيز القدرات الفنية. تجاوز الاتحاد الأفريقي رغبة العمل منفرداً بعد تعليق عضوية السودان عقب إجراءات الـ 25 من أكتوبر (تشرين الأول) 2021، وما تبعها من برود حكومي تجاه بعض القرارات والتهديدات الصادرة من الاتحاد.

رواسب تاريخية

ويعاني السودان رواسب تاريخية من النظام السابق وما قبله، وأخرى تتعلق بتبعية السودان لقوى غربية، وثالثة تتعلق بعوامل اقتصادية واجتماعية وسياسية. وأظهرت الفترة الانتقالية أخطار الديكتاتورية المتخفية خلف الديمقراطية والمتحدثة باسمها لتنفيذ أغراض من هم في السلطة، بينما يهتف بعض بأن ما يفعلونه هو من أجل الشعب، ويهتف الذين تتم هذه التجاوزات باسمهم بعدم رضاهم بما تم، باعتبار الثورة لم تكتمل ولم تصل إلى مبتغاها بعد.

ويشهد المجتمع السوداني توتراً اجتماعياً وسياسياً لم تستطع هذه المبادرات رأب الصدع بين أطرافه، إذ فقد مقومات رئيسة تقضي تأسيس سلام اجتماعي وسياسي. وما يحدث الآن من عنف من السلطة وما يقابله من عنف الشعب خلق حال فزع وعدم إحساس بالأمان وتلاشت معه الثقة، وراح يبحث عنها في هذه المبادرات.

وعلى الرغم من انفتاح السودان إعلامياً خصوصاً بعد الثورة، إلا أنه تسيطر على المجتمع السوداني في هذه المرحلة عقلية الرأي المتصلب، وهي ديكتاتورية يقوم عليها النظام السياسي، فقد عاد الحجر على حرية الصحافة والإعلام والتعبير عن الرأي، وأصبح الإعلام الوحيد هو الذي يخدم التوجه السياسي القائم، فعملت هذه السياسة في اتجاه مضاد وأصبح العقل الجمعي مبرمجاً على العدائية لكل شيء ولكل صوت مخالف مهما كان صوابه، ويسير هذا في خدمة سياسة تعطيل الوعي السياسي الذي من المفترض أن ينمو بعد الثورة بالحوار وتقبل الآراء.

وبحسب ما ذكر ولد لبات، فإن "الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي لا يضعان أي مضمون للحوار، بل يتركان الأمر للسودانيين لوضع برنامج انتقالي مستعجل للمرحلة الانتقالية، يتضمن الوضع الدستوري والتنفيذي والقضائي"، وهذا يعني أن دورهما سيكون إشرافياً وليس تدخلاً في التفاصيل، وربما نتج ذلك من الانتقادات الموجهة للبعثتين بالتدخل في الشؤون الداخلية للبلاد، والاحساس بأنها تتخذ بعض القرارات نيابة عن الحكومة.

ضوابط وضمانات

لم تضع المبادرتان الأفريقية والأممية ضوابط وضمانات منظمة لصنع واتخاذ القرارات السياسية، ولم يكن بمقدورها فعل ذلك لأن الحكومة الانتقالية نفسها ومجلس السيادة لم يحسم أمره، ويوضح هل هذه القرارات مستمدة منه أم من الشعب، إضافة إلى أن الدولة الآن لا تخضع للدستور وغير مفعلة القوانين. ومن ملامح ذلك القريبة من المجتمع حال الانفلات الأمني ونجاة مرتكبي الجرائم ابتداء من قتل المتظاهرين وتخريب الممتلكات العامة، وقتل ضابطين في حادثتين أثناء التظاهرات، وتهديد السلم الاجتماعي وظاهرة السرقات والنهب، وبهذا قد لا يعني تجديد دعوة المبعوثين الأطراف السودانية للتحرك العاجل لإيجاد حل والوصول إلى وثيقة دستورية تحكم الفترة الانتقالية شيئاً جديداً، بل هو مطلب الجميع منذ إجراءات الـ 25 من أكتوبر.

ربما يدل كثير مما أُثير في الحديث عن الوحدة السودانية يناسب بشكل أكبر حال الاتحاد كهيكل، وإطار عام لدولة مصنوعة وموزعة توزيعاً سياسياً، ولكنها ليست وحدة حقيقية كونها متجذرة في الاختلافات العرقية والدينية والاقتصادية والجغرافية والثقافية، وربما شكلياً تقاربت الرؤى ولكن عند ترجمتها على أرض الواقع نجد تنافر البرامج السياسية وزيادة الفجوة الاقتصادية والثقافية والاجتماعية.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وقد لا يعني التمسك بالوثيقة الدستورية أي شيء بالنسبة إلى الذين يطعنون فيها، فإثر كل خلاف تدعو "قوى إعلان الحرية والتغيير" إلى أن ما تقوم به يعود لمرجعيتها، ولكن عند النظر إلى بند ضرورة التوافق بين مكونات السلطة الانتقالية وهو عصب هذه الوثيقة، ومع عدم توافره أو ازدياد الفجوة من خلاله، فإن مناقشة كل المواقف والقضايا استناداً إليها يكون بلا جدوى.

سلطة موازية

تكمن المشكلة الحقيقية في أن السودان خرج من تجربة ديكتاتورية طويلة تشوهت فيها وسائل تحقيق طموحاته نحو الديمقراطية، ووجد نفسه محاطاً بقوى دولية وإقليمية، في حين تنقصه الخبرة والدراية اللازمتين لكيفية صنع أو اتخاذ قرار سياسي، فاعتلت السلطة في الحكومة الانتقالية قيادات لم تستطع التمييز بين سلطة الدولة وسلطاتها الشخصية كتنفيذيين، فظهر على إثر ذلك الفساد والتجاوزات في السياسة كما في الصلاحيات الممنوحة لهم بحكم مناصبهم.

يحمل فولكر وصفة غربية ربما لم تراع التراث الثقافي للسودان والذي تنطلق منه مقومات العملية السياسية وتداخل مشكلاته، أما ولد لبات فهو من البيئة السياسية نفسها، ولكن العجز المخيم على الاتحاد الأفريقي وشراكاته في النهوض بالتنمية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية وضرورة التعامل مع الظروف الملائمة لتحقيق ذلك، جعل أي فائدة مرجوة منه تكاد تكون منعدمة.

وفوق كل ذلك فإنه ليس هناك دور للأحزاب السياسية بسبب أنها لم تبلغ مرحلة النضج السياسي على الرغم من طول عمر ممارستها السياسية، وذلك بسبب التصدعات والانشقاقات الداخلية وتآكل بنية الأحزاب وعدم استقرارها، كما نجد أنه بعودة الأحزاب السياسية لنشاطها في ظل الحكومة الانتقالية، يبدو تقلص دورها السياسي الطليعي ليبرز دور بعضها الأيديولوجي والعقائدي، غير أن الجامع بينها هو المصالح والمنافع الخاصة مما أخرجها من الممارسة السياسية، فلا هي نجحت في السلطة ولا في المعارضة.

وحاولت بعض الأحزاب الاستعانة بجماعات نقابية ومنظمات المجتمع المدني، وعلى الرغم من تأثير هذه الجماعات في الرأي العام واستقطاب عدد من الشباب، إلا أنها بسبب رهن برنامجها السياسي إلى بعض الأحزاب العقائدية، فإنه أخرجها من دائرة الموضوعية وخلق لها طموحاً في السيطرة يتصادم مع طموح هذه الأحزاب، والمثال الواضح على ذلك هو مجموعات "قوى المقاومة" في الأحياء السكنية، وكيف نمت وربت حتى أصبحت سلطة موازية تعطي وتمنع وتقرر في تفاصيل دقيقة وترفع تقارير عن الموالين للحكومة الانتقالية والمعارضين لها.

انفصام بين السلطة والشعب

وجاء التركيز والأمل في المبادرات الخارجية نتيجة طبيعية للانفصام بين السلطة السياسية والشعب، فنجد أن قيمة السلطة توزعت بين العسكريين والمدنيين، فالعسكريون تكون ضدهم رأي سلبي بسبب تجربة حكم الإنقاذ، أما المدنيون فقد فشلت حكومتهم في ظل رئيس الوزراء عبدالله حمدوك، وما نتج من ذلك الوضع أن الشعب الآن لا يحترم السلطة السياسية حتى وإن جاءت بفعل صحيح، فعلى كل ما قامت به مع تواضعه، تكال لها الانتقادات، وكانت نتيجة بعض الجهود مثل توقيع اتفاق السلام ومحاولاتها إيقاف نزف العنف القبلي في أقاليم دارفور والشرق، والجهود نحو إصلاح الوضع الاقتصادي وإعفاء ديون السودان وجذب الاستثمارات الأجنبية، والتعاون مع المجتمع الدولي ودعمه، هي فقدان الثقة، تعتليها علامات عدم الرضا البائنة.

أما الخطوة الأخطر من ذلك فهي نمو نزعة تحدي السلطة القائمة أياً تكن، مما يمكن أن يجعل كل الجهود الداخلية والخارجية من أجل إصلاح الحكم هي فرص مهدرة ولا تؤدي إلى نتائج مثمرة، كما تنسف كل الآمال في بناء دولة تحكم بالدستور وتحترم فيها الحقوق والحريات وتتحقق فيها العدالة، وهذه ثمار غرس النخب السياسية المتصارعة التي تتصدر المشهد السياسي بعد الثورة.

مرحلة جديدة

من حيث المبدأ يمكن أن تكون المبادرتان الأفريقية والأممية تدشيناً لمرحلة جديدة تتألف من ترتيبات وأهداف مشتركة إلى جانب إبراز بعض العقبات، بيد أن إحراز تقدم يتطلب درجة من توافق الحكومة مع "قوى إعلان الحرية والتغيير" التي طالبت عند لقائها بالمبعوثين مشاركتهما في أهداف بدء عملية سياسية، ولكن بعد "إلغاء حال الطوارئ وإنهاء العنف وإطلاق جميع المعتقلين ووقف كل الانتهاكات لتهيئة المناخ للعملية السياسية".

ومع عزم منظمة "إيقاد" تعيين مبعوث للسودان في إطار الشراكة مع بعثة الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي، فيجدر بنا السؤال: هل يحتاج السودان إلى كل هذا العدد من المبعوثين في ظل الانقسام وعدم التوافق بين أبنائه؟

ربما يفترض على الدولة السودانية أن تكون قادرة على تنظيم ما يجري داخل أروقة الحكم وفرض سلطة سياسية نابعة من الشعب عبر برلمانه، حتى تتحقق لها حرية اتخاذ القرارات وتبني السياسات والتعاون مع هذه المنظمات الإقليمية والدولية وفق ما تقتضيه المصلحة العامة.

المزيد من تحلیل