ودعت الكويت يوم الاثنين الماضي القامة الوطنية الباسقة الدكتور أحمد الخطيب عن عمر ناهز الخامسة والتسعين، وبرحيله تطوى صفحة أرشيفية خالدة في تاريخ الكويت، فقد ارتبط اسمه بتاريخ الكويت السياسي منذ خمسينيات القرن الماضي وحتى قبيل رحيله بشهور ارتباطاً وثيقاً.
هو أحد واضعي دستور البلاد عام 1962 ونائب رئيس المجلس التأسيسي وعضو منتخب بمجالسها البرلمانية كلها عدا مجلس عام 1981 الذي قيل إن صناديقه الانتخابية كان بها "لحمة ضب".
صبيحة ظهور نتائج تلك الانتخابات، كتب الكاتب المعروف محمد مساعد الصالح مقالاً بزاويته الشهيرة "الله بالخير" عنونه "المجلس بلا خطيب"، ومن ذلك العنوان أكتب هنا أن "الكويت بلا خطيب".
كانت لديه كاريزما خطابية جماهيرية تلقائية، ويعتمد على صدقه مع الناس بلغة مفهومة وبسيطة لدى الإنسان العادي، كثيرون كانوا يصرفون مبالغ طائلة بحملاتهم الانتخابية، وهو لم يكن يصرف سوى تدفق الصدق بندوة أو اثنتين تصبح حديث البلاد برمتها.
في آخر انتخابات برلمانية خاضها قبل اعتزاله العمل البرلماني عام 1992 واجه حملة شعواء من قوى مختلفة لإسقاطه، لكن فاز بأعجوبة. حينها علق صديق "فاز بصدقه".
كثيرون خارج الكويت لا يعرفون إلا نضال الخطيب القومي ومشاركته في تأسيس حركة القوميين العرب مع جورج حبش ووديع حداد وحامد الجبوري وهاني الهندي وآخرين، لكنهم لا يعرفون أنه كان أول طبيب كويتي تخرج في الجامعة الأميركية في بيروت عام 1952، كان معروفاً بعلاج البسطاء برمزية أقرب إلى المجانية، وكان ذا حنو طبي نادر لدى كبار السن الذين إذا أصابتهم حمى شديدة طلبوا "إبرة الخطيب".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
عرفت الدكتور الخطيب في سبعينيات القرن الماضي، وبقيت على تواصل معه للرأي والمشورة والتعلم من التجربة حتى وفاته. كان ممن شاورتهم بقبول المنصب الوزاري من عدمه حين عرض عليَّ، ووافق -بل شجع- حيث أذكر كلماته "إحنا كنا نرفض الوزارة للإصلاح من خلال البرلمان، فلا أصلحنا بالبرلمان ولا توزرنا للإصلاح بالوزارة". استقلت من الوزارة بعد سنة من قبولها.
بعد الغزو العراقي للكويت عام 1990، انكفأ الخطيب القومي الطموح والعروبي الأحلام وركز على الشأن الداخلي الكويتي كثيراً، كان قد أصيب بصدمة ومرارة نتيجة مواقف بعض العرب -وبالذات القيادات الفلسطينية، وتحديداً رفيق دربه النضالي الدكتور جورج حبش- زعيم الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، كانت الحركة الوطنية الكويتية بجناحها اليساري أكثر قرباً وتنسيقاً مع الجبهة الشعبية من بين الفصائل الفلسطينية الأخرى، كنت أجمع الاشتراكات بمجلتها "الهدف" بمنطقتي -الجهراء!
سألته أثناء الاحتلال حين التقيته بلندن عن موقف حبش المؤيد للغزو، فقال لي "اتصلت به بعد فاجعة الغزو العراقي بساعات شارحاً له الوضع، وأرسلت له بياناً بالإدانة والتصدي للعدوان"، فقال لي انتظر ردنا قريباً بالتضامن معكم وإدانة الاجتياح، وفي اليوم التالي تصدرت نشرات الأخبار العراقية صورته محتضناً صدام حسين ببغداد، ومعلناً تضامنه معه في التصدي للإمبريالية، وما زلت أنتظر بيانه.
لا أظن أحداً من أبناء جيلي بالكويت ممن ينتمون إلى التيار المدني بكل أشكاله لم يتأثروا بالدكتور الخطيب، ولا أعتقد أن أحداً من خصومه السياسيين بكل أطيافهم لا يكنون الاحترام لشخصه ومواقفه الصلبة بالدفاع عن الإنسان والحريات ودولة القانون والدستور.
وعلى الرغم من شراسته معارضاً فإنه لم يستخدم أداة الاستجواب ضد أي وزير قط، ولم يستخدم شائن القول أو بذيئه أبداً ضد خصومه، فقد كان بحق فارساً في خصومته غير فاجر بها.
برحيل أحمد الخطيب، تطوى صفحة لجيل - بل أجيال تعثرت بأحلامها الكبار، ويغلق أرشيف مثقل بالطموحات الرومانسية، رسم ذلك الجيل صوراً وردية لكنها نقية بصدقها وإخلاصها، خط ذلك الجيل رسوماً أفقية، لكنها لم تحسب حساباً لعوائق الواقع وتطوراته على الأرض، بقيت تلك الأجيال مخلصة بجمود الجلمود لمبادئها التي آمنت بها وأهدافها الكبار التي تشبثت بها وإن لم تحقق منها سوى النزر اليسير.
إنه جيل نموذج الثبات ومثال الالتزام بالوعود التي تقطعها على ضمائرها، والعهود التي تتخذها مع جماهيرها.
برحيل الخطيب، أصبحت الكويت بلا خطيب.