Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الرعب لا توازن له

"الاتحاد السوفياتي ما لم تُدفن جثته ظل شبحه يهدد العالم في لبوس صراع المصائر وصراع الأيديولوجيا"

قوات روسية مشاركة في المعارك في أوكرانيا (رويترز)

أول الكلام رعب، هكذا تكلم برتولت بريخت، في قصيدته، "رسالة إلى الأجيال القادمة"، "حقاً إنني أعيشُ في زمنٍ أسود، الكلمة الطيبة لا تجدُ مَن يسمعها، والجبهة الصافية تفضح الخيانة، والذي ما زال يضحك، لم يسمعْ بعدُ بالنبأ الرهيب، أي زمنٍ هذا؟ ..."، وقد عاش بريخت الحرب الكبرى الثانية. الحرب التي يعلّق على دوافعها المفكر ألدوس هكسلي بالقول إن "أغلب الظن أن نشأة الحروب، مرتبطةٌ بظهور زعماءَ، يُحسون بالعظمة وتمتلئ روؤسهم بفكرة السيادة الشخصية، والشهرة وخلود الاسم بعد الموت. ولا تزال فكرة المجد والشهرة الخالدة، تختمر في روؤس الديكتاتوريين وقادة الحروب، وتلعب دوراً مهماً في إثارة الحروب، حتى في عصرنا هذا، الذي تُعدّ فيه الاعتبارات الاقتصادية ذات أهمية قصوى".
كنت أفكر في ذلك، وفي حالة رعب، تذكرت تشيرنوبل، الحادثة النووية الإشعاعية الكارثية التي وقعت في المفاعل رقم 4، من محطة تشيرنوبل للطاقة النووية، السبت 26 أبريل (نيسان) من عام 1986، قرب مدينة بريبيات في شمال أوكرانيا السوفياتية، وتُعدّ أكبر كارثة نووية شهدها العالم. "الموت هو أكثر الأمور العادلة، في ذلك العالم، ليس هناك مَن ينجو منه. ينتهي المطاف بالجميع تحت الأرض، الطيبون والقساة والمذنبون، وبجانب كل ذلك، ليست هناك عدالة على هذه الأرض". هذا ما كتبت في روايتها، "صلاة تشرنوبل"، الكاتبة البيلاروسية سفيتلانا أليكسييفيتش، الحائزة على جائزة نوبل لعام 2015.

الكاتبة البيلاروسية سفيتلانا تعلل شغلها الأدبي، عما تسمّيه بالتاريخ المُغْفَل، المرتكز على كارثة تشيرنوبل، "إنني شاهدة على تشيرنوبل كارثة الزمن، وأسأل نفسي عن ماذا تشهد، على الماضي أم المستقبل؟ تشيرنوبل كبداية للتاريخ الجديد، الذي أعتقد أنه ليس معرفة فحسب، بل مقدمة المعرفة، لأن الإنسان دخل في جدال، مع التصورات القديمة عن نفسه وعن العالم". وهذه الكارثة، كما جريمة ناغازاكي وهيروشيما، تعود اليوم فتخيّم على أجواء الكرة الأرضية.
وتلك المصيبة الكبرى، أسهمت في تقديري بالتعجيل في سقوط الإمبراطورية السوفياتية، ونهاية مرحلة من التاريخ البشري. وإن لم تكُن نهاية التاريخ، ولا كانت بداية مرحلة أخرى منه، فإنها نهاية لم تنتهِ بعد، فالاتحاد السوفياتي ما لم تُدفن جثته، ظل شبحه يهدد العالم، في لبوس صراع المصائر وصراع الأيديولوجيا. والمعضلة أن الاتحاد السوفياتي برز كقوة عظمى في عالم القطبين بعد الحرب الكبرى الثانية، التي ختمها القطب الأول الولايات المتحدة بسلاح الرعب النووي في هيروشيما وناغازاكي.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وإذا كانت تشيرنوبل حادثة نووية، وهيروشيما وناغازاكي جريمة حربية، فإنهما يجتمعان معاً، في غزو الاتحاد الروسي لأوكرانيا، حيث استُبقت الحرب في مناورة عسكرية نووية أجراها الجيش الروسي، ثم هدد بوتين بالسلاح النووي. وعقب بدء الحرب، استولى الجيش الروسي على مفاعل تشيرنوبل والمدينة الخالية التي يقع فيها، وإن كان عقب احتلاله هذا، بدأ يدير المفاعل بمشاركة أوكرانية.

روسيا مصابة بفداحة القياصرة، الحكم المطلق، وحتى الثورة الروسية عام 1917، جاءت بقياصرة السوفيات كستالين. وتم توريث هذا المصاب للطبقة الحاكمة عقب انهيار الإمبراطورية السوفياتية، فالدبّ بوتين يريد خلاص روسيا، من الذبابة أوكرانيا بقتلها! وكي يحقق هذا المراد الفادح، يرفع شوكته النووية. وهكذا العالم الغائص في حرب أوكرانيا، يعيش لحظات استثنائية تحت طائلة التهديد. بمعنى أن روسيا، مهددة بالزوال كما العالم، كي تحقق أمنها، والسيد بوتين، ممثل اليمين الروسي القومي الشعبوي، يزعم أنه يريد خلاص العالم من النازيين الجدد، ويلبس لأجل ذلك قناع شمشون: عليّ وعلى أعدائي.

هذه المقاربة الخطيرة تجعل مفهوم توازن الرعب مرعباً، وتبيّن أن لا توازن تحت طائلة الرعب، حيث إن بوتين في حربه المبررة بأمن بلاده، يذهب إلى توكيد أنه كما ورث الرعب عن الإمبراطورية الروسية/السوفياتية، من حقه أن يستردّ ما كان قد حققه هذا الرعب، وهو الهيمنة على الدول التي كانت تتبع روسيا، وقد كان بدأ ذلك منذ سنوات. وما فعله اليوم بجرأة ووقاحة الديكتاتور، يمكن أن يفعله غيره بإرادة الصندوق، أو بأي مبرر، طالما أن الرعب يحقق الأهداف والمراد. فإسرائيل التي لا يعرف أحد ما تملك في ميزان الرعب، يمكنها التهديد بمنطق بوتين الشمشوني، لأن بوتين الساعة في أوكرانيا، يبيّن أن الأمن أهم من التوازن وأنه الوسيلة المبررة لكل غاية.
ما يحدث الآن في القارة الأوروبية يبيّن أن نتائج الحرب الكبرى الثانية استُنفدت، وأن العالم في مرحلة اللاتوازن، وأن الرعب أو التهديد به، مؤشر إلى أننا نخوض الحرب العالمية الثالثة، أي ما بعد الثانية، التي تضع السلاح النووي على الطاولة. وعليه، فإن اتخاذ الحرب الاقتصادية لقاحاً لدحر التهديد النووي، مجرد مسكّن لصداع مزمن متحول: أن الرعب لا توازن له، والبشرية لا تعيش بالقمح وحده...

المزيد من آراء