Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

مصر الواقعة تحت سلطة "الترند" تبحث عن مخرج

رقمنة الرأي العام أدت إلى تمكن "الترند" من مصائر البلاد وأقدار العباد

مواقع التواصل الاجتماعي تهيمن على حياة المصريين (غيتي)

الوضع الحالي يطرح تساؤلات حول إذا ما كانت هذه الظاهرة تؤدي إلى حالات من جنون الاعتناق والتتبع؟

الجميع واقع تحت سطوته. لم ينجُ أحد. والمرجح ألا يتمكن أحد من الإفلات لحين إشعار آخر. الفاعل والمفعول تحت إمرته. وأفعاله التي يتسبب فيها تصنع التاريخ وتوثق لتاريخ البشرية في هذه السنوات التابعة لعصر الثورة الرقمية.

رقمنة الرأي العام والآراء الشخصية والميول والتوجهات والاختيارات والاختبارات والمعارك وردود الفعل والقرارات والأفكار والهوايات والحاضر والفرص والمستقبل، أدت إلى تمكن "الترند" من مصائر البلاد وأقدار العباد.

سلطة "الترند"

مصر الواقعة تحت سلطة ما يصنعه "الترند" لا تدرك أنها في قبضته. أحدث ما توصل إليه الترند في مصر هو تهييج الرأي العام أو إخماده بسلسلة "ترندات" أقرب ما تكون إلى عقاقير العلاج النفسي، حيث نشاط زائد أو خمول مفرط أو حتى لو دعت الحاجة لتنظيم وعقلنة المزاج العام.

مصر المبالِغة المفرطة في صناعة "الترند" وتلقيه من دون مقاومة، تذكر أو وصلت بها الحال إلى درجة مواجهة "الترند" الزاعق بآخر أكثر فجاجة أو أعتى غلظة. وحتى في حالات "الترند" اللطيف أو المضحك، فإن الصراع لا يهدأ وأثر "الترند" لا يفتر. وتطور الوضع لتصارع "الترندات" بعضها بعضاً من دون النظر لضحاياها من ملايين المصريين.

وعلى مدار أشهر عدة والمصريون يعانون الأمرّين من قبضة "الترند" القاتل. وهو قد يكون فرقعة إعلامية مقصودة أو غير مقصودة، أو "هاشتاغ" على "تويتر" ناجم عن حدث يستحق أو غير جدير بالإشارة أصلاً، أو مقطع على "يوتيوب" مقصود به جذب المشاهدة واستنفار الرأي العام، أو صورة مسربة لفلان المشهور أو علانة المعروفة ليبدو وكأنه مسرب من دون علم صاحبها، وغيرها من أحداث وحوادث تتأرجح بين ما وقع منها فعلاً وما تم دفعه للوقوع لغرض ما في نفس يعقوب وصاحب "الترند".

أصحاب "الترند"

أصحاب "الترند" أشخاص مبيتون النوايا لصناعته، وآخرون يفجرونه من دون وعي أو قصد أو نية مسبقة. وهم كذلك مؤسسات وهيئات وجيوش إلكترونية وأنظمة ودول وشتى أنواع الكيانات. أما المتلقون فهم ملايين المستخدمين لمنصات التواصل الاجتماعي مباشرة أو عبر آخرين يستخدمونها وينقلون ما يرد فيها إليهم ما يوسع قاعدة أثر "الترند".

عامل الطلاء الخمسيني البسيط ركب سيارة أجرة مع المهندس الذي يعمل معه لشراء مستلزمات العمل. دار حديث مع سائق الأجرة الذي أخبر الركاب بأنه علم من مصادر مؤكدة أن هناك أزمة سيولة كبرى، وأن الدولة ستفرض قيوداً على سحب المبالغ المالية من البنوك. وقال إنه ينصحهم بسحب أية مبالغ مالية لهم في البنوك ووضعها في البيت. سأله المهندس عن "المصادر المؤكدة"، فقال إنها أشخاص يعرفهم على "فيسبوك". وبمزيد من الضغط الاستفساري، أقر بأن هؤلاء الأشخاص أطلقوا تحذيرات نقص السيولة عبر "بوست منقول" من شخص ما لا يعرفونه. أما عامل الطلاء، فقد أخرج هاتفه المحمول وأرسل رسالة نصية قصيرة إلى أشقائه الأربعة، يحذرهم من "أزمة السيولة" وينصحهم بسحب مدخراتهم قبل فوات الأوان.

نمو متناه السرعة

النمو متناهي السرعة لمنصات التواصل الاجتماعي وتشعب آثارها لتصل إلى الجميع، إن لم يكن عبر المستخدمين أنفسهم، فعبر تناقل محتواها شفاهة بين الأصدقاء والمعارف، وتداخل هذه المنصات مع الإعلام التقليدي، ليتماهى كلاهما في بوتقة واحدة تنفجر في وجوه المصريين.

تشير دراسة منشورة في "دورية الاتصال عبر الكمبيوتر" الصينية عنوانها "من يخلق التوجهات (ترند) على الإنترنت؟ الجماهير أم قادة الرأي العام؟" (2016)، إلى أن المحتوى المتغير على مدار الدقيقة لمنصات التواصل الاجتماعي حوّل كل مستخدم إلى إسفنجة تمتص قدراً هائلاً من "الأخبار" و"المعلومات"، وأقرب إلى أداة استشعار اجتماعي تنتقي وتعيش خبرة صناعة الأخبار وتشاركها، وتنتقيها، إضافة إلى سبغها بصفات وألوان شخصية. وإذا كانت مليارات البشر تتبادل الأخبار والحالات الشخصية والمشاعر من دون سابق معرفة، فإن الملايين في داخل الدولة الواحدة ذات الثقافة والمشكلات والأوضاع ذاتها، تقوم بهذا التبادل بشكل أكثر تكثيفاً. وتشير الورقة إلى أن خدمات مثل "تويتر" تجعل المستخدمين على دراية بما يدور حولهم. كما تسمح لهم بالتعبير عن آرائهم بشكل عفوي. وتقوم الـ "لايك" والمشاركة وإعادة المشاركة والردود والردود عليها والبحث عن أخبار تحوي كلمات بعينها وتشاركها، بمهمة مزيد من نشر المعلومات (أو المعلومات الكاذبة أو غير الدقيقة) والأفكار وخلق اهتمام جماهيري بأحداث دون غيرها، وهو ما يؤدي إلى اتجاهات بعينها بين الجماهير، وهو ما يسمى بـ "الترند". هذا "الترند" يحل محل بوابات الأخبار التقليدية وأدوات تشكيل وتوجيه الرأي العام. وأصبحت توجهات أو "ترندات" منصات التواصل الاجتماعي موجهة ومتحكمة وصانعة للرأي العام، أو بالأحرى الآراء العامة. ولم يعد صانعو الرأي العام جهات أو أفراد معروفين، بل أصبح الجميع صناعاً والجميع متلقياً.

الجميع قادر

ومنذ اكتسب الجميع القدرة على صناعة وتلقي الـ"ترند" تغيرت المجتمعات، كل بحسب ظروف "الترند" فيها وأوضاعه وسبل استخدامه على خلفيات ثقافية وسياسية واجتماعية مختلفة.

في مصر، بلغ جنون "الترند" مداه، وربما يكون "ترند" الجنون وليس العكس. ويمكن تأريخ أثر منصات التواصل الاجتماعي الكبير والممتد والمتشعب، وربطه بالسنوات القليلة السابقة لتفجر أحداث يناير (كانون الثاني) 2011. ووصل الأثر مداه أثناء الأحداث وبعدها وحتى اليوم. لكن اليوم جنون "الترند" يتحدث عن نفسه يومياً.

يومياً يخرج عديد من "الترندات". قد يكون "هاشتاغ" مثيراً على "تويتر" بغرض المعارضة السياسية، أو الفتنة الدينية أو السخرية الاجتماعية أو الانتقادات الفنية أو الفرحة الكروية أو الأحزان المرضية والقوس مفتوح إلى ما لا نهاية.

ولأن "الترند" لا نهاية له، ولأن الأحداث أيضاً لا تتوقف، وتحقيق غرض الإثارة يخلق مزيداً من الشهوة والرغبة فيها، ولأن تعداد مصر كسر حاجز المئة مليون شخص، ولأن ما يزيد على 52 مليون مصري متصلون بشبكة الإنترنت عبر هواتفهم المحمولة، فإن قوة أثر "الترند" تتحدث عن نفسها.

"ترند" من كل حدب

قدرة طيار مصري على الهبوط بطائرة ركاب بحرفية شديدة، على الرغم من العاصفة الرهيبة في مطار هيثرو في لندن، وعلقة ساخنة تلقتها عروس في فستان الزفاف على يد عريسها بمساعدة شقيقته، ثم أكملت حفل الزفاف وكأن شيئاً لم يكن، ووفاة الإعلامي وائل الإبراشي بعد صراع طويل مع فيروس كورونا، وفرحة أنصار جماعة الإخوان وحزن قطاع عريض من المصريين، المطربة شيرين حلقت شعرها بالكامل عقب طلاقها من زوجها الفنان حسام حبيب، الإعلامي إبراهيم عيسى يتساءل إن كان الإسراء والمعراج حدثا بالفعل، بلاغ للنائب العام ضد إبراهيم عيسى لأنه يشكك في الدين، الفنان عمرو واكد يتضامن مع إبراهيم عيسى، المطالبة بالتحقيق مع عمرو واكد لتضامنه مع إبراهيم عيسى، إثيوبيا تعلن قرب بدء توليد الكهرباء من سد النهضة، الإعلامي تامر أمين يقول إنه يتمنى أن تكون مصر دولة علمانية، وعلى الرغم من ذلك فهو ليس ضد الدين، هزيمة "توتنهام" أمام "مانشستر سيتي"، طبيب الكركمين في قبضة الشرطة، التحرش بفتاة نهاراً والمارة لا يتدخلون... و"الترند" لا يتوقف.

جنون الاستمرار الذي لا يكاد يهدأ عبر تفجر حادثة أو ابتداع حدث أو انتشار مقطع فيديو مثير أو هزيمة منتخب أو فوز رئيس نادٍ، وغيرها كثير لا يضاهيه سوى جنون ظاهرة "الترند" نفسه.

عناوين غريبة ومحتوى أغرب

عناوين غريبة ومحتوى أغرب تطالع كل من يحمل هاتفاً محمولاً متصلاً بشبكة الإنترنت على مدار الساعة. وحتى لو لم يصدق الشخص كل ما يقرأ، فإنه على الأقل يتأثر بها وينقل جانباً منها ولو على سبيل التفكّه.

خبير تكنولوجيا المعلومات معتز عمران يشير في دراسة عن ظاهرة "الترند" المسيطر على المجتمع المصري، إلى أن جنون سير الجماهير وراء كل ما ينشر على منصات التواصل الاجتماعي مذهل. ويقول إن البعض قد يستهجنها، لكن البعض الآخر ينجذب ويتأثر ويتفاعل معها. هذا البعض الآخر وأعداد تقدر بالملايين تمضي ساعات يومية في الانتقال من عنوان إلى آخر، ومن فيديو إلى آخر، ومن تطبيق إلى غيره، ومن "ترند" واحد إلى عشرات الترندات. ويضيف أن جانباً كبيراً من المحتوى يحمل أخباراً كاذبة أو مفبركة عن مشاهير أو أماكن، أو يحوي تدليساً لحقائق يصعب على الجميع التحقق منها.

وعلى الرغم من أن عمران يركز بشكل أكبر على مغبة "الترند" الذي يحمل محتوى منافياً للآداب العامة، إلا أن "الترند" وأثره لا يتوقفان عند حدود الآداب العامة. كما أنه يحذر بشكل واضح من أثر هذه الأجواء على الأطفال وخطورة تركهم نهباً لأهواء "الترند". والحقيقة أن أهواء "الترند" تعصف بالجميع ولا تفرق بين كبير وصغير.

"الترند" والحياة

المتابع لأحوال المصريين في الأشهر القليلة الماضية يتعجب من أثر "الترند" في حياتهم، وأثر حياتهم في الترند. فكلاهما يغذي الآخر ويتغذى عليه.

مجريات الأمور تشي بأن أثر "الترند" زاعق. حلقت المطربة شيرين شعرها عقب طلاقها، فتحولت وطليقها وشعرها وتصرفاتها وموقف المجتمع من المرأة المطلقة ورأي الناس في زيجات الفنانين إلى شغل الجميع الشاغل لأيام عدة. انتشرت مقاطع "تيك توك" لفتيات يرتدين الحجاب بطريقة معينة، ويضعن مساحيق على وجوههن بأساليب محددة، فانتقلت الطريقة والأساليب من الإسكندرية شمالاً إلى أسوان جنوباً. كتب أحدهم أن مصر ستعطش وأن المصريين سيموتون ظمأً عقب تشغيل سد النهضة الإثيوبي، فظل السد حديث الملايين وأصبحت المياه حديث القاصي والداني لمدة 24 ساعة. ضرب عريس عروسه ليلة الزفاف في الشارع، وصور أحدهم العلقة فتم تداول الفيديو ملايين المرات، وانقسم الشعب المصري إلى فريق مناهض لضرب الزوجات وآخر مطالب بالستر على الأزواج. وخرج الزوج منتصراً ليحدد تسعيرة مئة ألف جنيه نظير الظهور في أي برنامج تلفزيوني ليتحدث عن ليلة زفافه التي أوسع فيها عروسه ضرباً.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

علقة الإسماعيلية

وفي حالة ترند ضرب العريس لزوجته وهي العلقة التي دارت رحاها في الإسماعيلية ظهراً، كانت جمهورية مصر العربية والدول المجاورة وغير المجاورة تشاهد العلقة بعد دقائق قليلة، وكان الجميع يدلي بدلوه معارضاً ومطالباً بالستر ومنقباً عن شرعية الضرب ومجاهراً بضرورة عدم الإسهام في المشاهدة، وذلك بعد انتهائه من المشاهدة.

ما الذي جعل من العلقة شغل الجميع الشاغل؟ وكيف تحولت إلى "ترند" "علقة الإسماعيلية"؟ ورقة "من يخلق التوجهات على منصات التواصل الاجتماعي" تشير إلى أن "الترند" يحدث بفعل تناقل وتشارك "الهاشتاغات" أو الموضوعات التي تثير المتابعين والتي تختلف من ثقافة إلى أخرى. الاهتمام الجماعي بقضية ما، يعني حدوث تشارك جماهيري ضخم في الوقت نفسه أثناء عملية بث الخبر أو الفيديو أو الصورة أو ما شابه.

قوة "الترند"

ما الذي يجعل قضية أو صورة جاذبة للاهتمام الجماهيري الطاغي في الوقت نفسه؟ تقول الباحثة في عالم المنصات الرقمية مها حامد، إن ذلك يتحقق في ظل حدث مثير، أو حادث يدق على وتر اجتماعي أو شعبي حساس، أو موقف يتم تقديمه بشكل مثير أو جاذب. كما يمكن أن يتحول حدث ما إلى "ترند" رهيب إذا كانت قطاعات ما في المجتمع تعاني مللاً حياتياً أو مشبعاً بالإحباط أو فقدان الأمل، فيجد متنفساً في خبر مثير سواء كان حقيقياً أو مفبركاً أو متأرجحاً بين هذا وذاك.

وتضيف أن "الترند في حد ذاته ظاهرة حديثة نسبياً، إضافة لكونه مثيراً، والناس بوجه عام تُقبل بإفراط على كل ما هو جديد وبالطبع مثير. كما أن عدم الضلوع في الترند المسلط عليه الضوء وحديث القاصي والداني حالياً يجعل الشخص يشعر بأنه منبوذ أو مهمل أو لا ينتمي إلى المجموعة الكبيرة. من جهة أخرى، فإن الترند المتصدر عادة تنشطر منه ترندات عدة بين مؤيد ومعارض وساخر".

والنتيجة هي غرق المجتمع في مجتمع افتراضي موازٍ يصنعه "الترند" الأصلي وتطيل الترندات المنشطرة دورة حياته. وحين تنتهي تعمل على خلق "ترند" جديد وهلمّ جرا.

الوضع الحالي يطرح تساؤلات حول إذا ما كان المسيطر على المصريين جنون "الترند"؟ أم أن "الترند" يؤدي إلى حالات من جنون الاعتناق والتتبع؟!

المزيد من تحقيقات ومطولات