Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

أصوليو إيران... صلابة أيديولوجية وهشاشة بنيوية

قد يواجه المحافظون تحدياً حقيقياً أمام قواعدهم في تسويغ التحولات التي سيكون عليهم اللجوء إليها في ما يتعلق بالتسوية مع الولايات المتحدة

إن ما يحرك التيار المحافظ في إيران وقوى النظام ودولته العميقة هو الصراع على السلطة والإمساك بها (أ ف ب)

بداية لا بد من توضيح المقصود بالأيديولوجية، التي لا تعني هنا الجانب الديني أو العقائدي المجرد، بل بما هي منظومة سلطة تتخذ من الدين وسيلة لها، وبالتالي فإن الصلابة تعود إلى القوة التي تمسك بالسلطة وتبدي استعدادها للدفاع عنها حتى لو على حساب الجانب الديني. أما الهشاشة البنوية، فتعود إلى صعوبة عملية إعادة إنتاج الكوادر التي تخرج عنه وعليه، فضلاً عن عجزه عن تسويغ الالتفافات والتراجعات في المواقف ذات الطابع الأيديولوجي أو التي سعى إلى إعطائها هذه الصبغة في معركته مع القوى المنافسة له في التيارَين الإصلاحي والمعتدل.
لا أحد يناقش في قوة التيار المحافظ والمتشدد الإيراني وقدرته على الإمساك بالنظام ومؤسسات الدولة وإدارة البلاد، بغض النظر عن الأسلوب والآليات التي يتبعها في تحقيق ذلك. إذ يمتلك عوامل قوة تسمح له بالتصدي لكل محاولات التغيير أو الإصلاح أو التعديل، ما لم تكن منسجمة مع رؤيته ومشروعه وتصب في مصلحته، حتى ولو جاءت من داخل صفوفه.

عوامل القوة

وتتبلور عوامل القوة من خلال سيطرة المحافظين على المواقع والمؤسسات الدستورية والقانونية التي تشكل ركائز النظام والسلطة، ويمكن التوقف عند أهمهما:
- موقع المرشد الأعلى للنظام وقائد الثورة، الذي يأخذ صفة "ولي الفقيه" في الدستور الذي منحه في مادته 110، صلاحيات "مطلقة" تسمح له بممارسة سلطة "ما فوق الدستور" تمكنه من تعطيل النصوص الدستورية والقانونية وتعطيل مؤسسات الدولة وتركيبها كيفما أراد وشاء من دون أن يكون خاضعاً للمساءلة.

- السيطرة التامة على المؤسسة العسكرية بتشكيلاتها المختلفة من جيش و"حرس ثوري" وقوى أمن داخلي وقوى أمن عام وحرس حدود وشرطة، من خلال منصب القائد العام للقوات المسلحة الممسك بقرار الحرب والسلم، الذي يتولاه المرشد.

- الاعتماد على الذراع الدستورية المتمثلة في مجلس صيانة الدستور وتحديداً دائرة دراسة صلاحية وأهلية المرشحين للانتخابات الرئاسية والبرلمانية ومجلس خبراء القيادة. وتتوسع صلاحيته لتشمل بشكل غير مباشر، الانتخابات البلدية عبر وزارتَي الداخلية والأمن وأجهزة الاستخبارات الرسمية والرديفة في "الحرس الثوري" التي هي الذراع التي يعتمد عليها في تكوين موقفه من المرشحين بناء على التقارير التي ترفعها له هذه الأجهزة، فيوافق المجلس على من يريد ويعتقد أنه ينسجم مع توجهات التيار المحافظ، ويرفض أي شخصية يرى فيها بُعداً معارضاً أو مؤشراً إلى إمكانية المعارضة في المستقبل.

الصراع على السلطة

من هنا يمكن القول، إن ما يحرك التيار المحافظ وقوى النظام ودولته العميقة، هو الصراع على السلطة والإمساك بها والتحكم في مصيرها واتجاهاتها، حتى وإن أدى ذلك إلى ضرب مفاهيم الثورة والأسس والمبادئ التي قام عليها النظام. وهي دوافع متفلتة وغير مقيدة بضوابط أخلاقية أو ذاكرة تاريخية أو شراكة سياسية وسلطوية وثورية ونضالية. فعلى مدى أربعة عقود ونيف من عمر الثورة الإيرانية والنظام الذي أسسته، انحصر الصراع السياسي بين "ثابت" هو معسكر اليمين المحافظ، و"محتول أو متحرك"، مثّله في البدايات الليبراليون بمختلف مستوياتهم (بارزكان وحركة تحرير إيران، ولاحقاً التيار الديني القومي) أو العلمانيون في الحركة الوطنية، ثم انتقل إلى صراع مع تيار اليسار الديني أو التوليفة التي خرجت بها منظمة "مجاهدي خلق"، بين الالتزام الديني والفكر الشيوعي. وفي الطريق، تم استبعاد كل الشخصيات الدينية التي أعلنت موقفاً مغايراً عن الممارسات التي تقوم بها السلطة أو تمت محاصرتهم، مثل آية الله كاظم شريعتمداري، وصولاً إلى عزل كل من آية الله محمود طالقاني، وآية الله حسين علي منتظري. وتمكن "المعسكر الثابت" من التخلص من كل مراكز الحراك في المجتمع والحياة السياسية الإيرانية، ليفرض نفسه لاعباً ومتحكماً وحيداً ومتفرداً بتفسير مفاهيم ومبادئ الثورة والنظام والدولة والسلطة.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

إثر رحيل مؤسس النظام روح الله الخميني، بعد عام 1988، واجه المعسكر المحافظ– الثابت تحدياً من داخله، أنتجته مرحلة ما بعد انتهاء الحرب العراقية– الإيرانية، وانتقال البلاد إلى إعادة البناء وترميم المؤسسات والخروج من اقتصاد الحرب. وعلى الرغم من أن قائد هذه المرحلة هاشمي رفسنجاني، كان من صلب القوى المؤسسة للسلطة والمعسكر المحافظ، ووصل إلى رئاسة الجمهورية في إطار تسوية أوصلت الرئيس السابق علي خامنئي إلى موقع "الولي الفقيه" المطلق وقائد الثورة ومرشد النظام، وهي تسوية بدأت معالمها تتبلور خلال حياة المؤسس، عبر أول وآخر استفتاء لتعديل الدستور.
وترافقت مرحلة إعادة البناء مع حركة ناهضة لإعادة البناء السياسي والاجتماعي، تارة تحت عنوان "حزب كوادر البناء"، الذراع المساندة لرفسنجاني، الذي شكّل الإرهاصات الأولى لليسار الديني، وساعد في تسهيل آلية إنتاج تيار إصلاحي واسع قام على سواعد كوادر كانت تشكل القوة الشبابية الضاربة للثورة، وأسهمت في تكريس حركة تجاوزت في تطلعاتها وخطابها الخطاب المعتدل لرفسجاني الذي وجد صعوبة في الانفصال عن إرثه في التيار المحافظ والانتقال إلى موقع جديد، فكان أن تحول رئيس الجمهورية محمد خاتمي في عام 1987 إلى عنوان لمشروع متعارض مع مشروع المعسكر المحافظ الثابت.
ودفع "المتحول الإصلاحي" المعسكر المحافظ إلى استنفار كل طاقاته لمنع اتساع الرتق عليه، والحد من خسائره، فرفع من وتيرة التصدي للقوى الإصلاحية واتهامها بالخيانة والعمل على تقويض الثورة والنظام، متناسياً أن هذه القوى كانت الرافعة الحقيقية للثورة والنظام في البدايات ثم أجرت مراجعات فكرية وسياسية أوصلتها إلى ضرورة التطوير والتغيير تحت سقف الدستور ومبادئ الثورة وتعاليم المؤسس.
وإذا تمكن معسكر النظام من محاصرة القوى الإصلاحية وإخراجها من مؤسسات الدولة ومحاصرة زعيمها خاتمي، إلا أن هذه القوى وجدت مدخلاً آخر للتعبير عن رؤيتها ومشروعها، مستفيدة من اقتراب رفنسجاني من دائرة الاعتدال والابتعاد عن دائرة المعسكر المحافظ خصوصاً بعد أحداث "الثورة الخضراء" وانتخابات الرئاسة في عام 2009 والأحداث التي رافقتها وانتهت إلى وضع رئيس الوزراء الأسبق مير حسين موسوي وزوجته إضافة إلى شخصية عقائدية ملتزمة بولاية الفقيه، ومن مؤسسي النظام، رئيس البرلمان الأسبق، مهدي كروبي، في الإقامة الجبرية المستمرة حتى اليوم. وساعدت هاتان الشخصيتان في بلورة حراك جديد على الساحة السياسية ضمن إطار مفهوم الاعتدال، لعب دوراً في إيصال حسن روحاني إلى رئاسة الجمهورية بعد مرحلة محمود أحمدي نجاد.

تحول مقلق

هذا المتحول الذي اقترن بانطلاق المفاوضات النووية والحوار مع الولايات المتحدة، رفع منسوب القلق لدى المحافظين الذين رأوا في نجاح روحاني في ترجمة الاتفاق النووي والانفتاح على المجتمع الدولي خطراً على سلطتهم، وإنذاراً بخروج الأمور من قبضتهم وسيطرتهم، فكان القرار بإفراغ الاتفاق من مفاعيله بانتظار إعادة ترتيب الصفوف والإمساك بهذه الورقة لتساعد على تعزيز قبضتهم على السلطة والنظام من دون شريك أو منافس. الأمر الذي دفع هذا التيار إلى استكمال المشهد باستبعاد وإخراج كل الشخصيات التي قد تشكل تهديداً محتملاً، مثل رئيسي البرلمان السابقين، علي أكبر ناطق نوري وعلي لاريجاني. وقُطعت الطريق على أي دور محتمل لحفيد المؤسس، حسن الخميني، فضلاً عن السعي إلى إسقاط روحاني من خلال محاكمته وتحميله مسؤولية سوء إدارة الأزمة الاقتصادية والعقوبات.
هذه التطورات كلها التي مثلت المعسكر المتحرك أو المتحول، لم تأت من خارج قوى النظام، فجميع هذه القيادات والشخصيات التي لعبت دوراً محورياً في إنتاج التحولات جاءت من داخل ومن جسد التيار المحافظ، وكان بعضها في مرحلة من المراحل من أشد المحافظين والمتشددين في وجه أي رؤية إصلاحية أو تغييرية.
هذا الخروج المتكرر لشخصيات قيادية ومفصلية لعبت أدواراً مهمة واحتلت مواقع متقدمة في السلطة والنظام في مراحل مختلفة من حياة الثورة في العقود الأربعة الماضية، يكشف عمق الأزمة الأيديولوجية والبنيوية التي يعيشها معسكر النظام، الذي تحول الثبات الذي يتمسك به إلى عائق أمام إنتاج البدائل القيادية والفكرية لتعويض وترميم النقص الناتج عن النزف في الشخصيات القيادية التي تنتقل إلى المعسكر الإصلاحي والمعتدل. وقد يواجه تحدياً حقيقياً أمام قواعده في تسويغ التحولات التي سيكون عليه اللجوء إليها في ما يتعلق بالتسوية مع الولايات المتحدة، والتي قد تعيد طرح الأسئلة داخل هذه القواعد حول الأسس العقائدية التي شكلت أداة النظام في التعبئة الأيديولوجية ضد الآخرين من بوابة اتهامهم بـ"التغريب" أو بأنهم عملاء الغرب في الداخل.

المزيد من تحلیل