كانت جميلة بوباشا في الثانية والعشرين من عمرها في عام 1960 حين اعتقلتها السلطات الفرنسية وسجنتها بتهمة زرع قنبلة في مقهى يرتاده جنود الاحتلال الفرنسيون. ولما كان ذلك الزمن زمن النضالات الكبرى التي كان يخوضها مثقفون من فرنسيين وغير فرنسيين، لم تلبث السلطات الفرنسية أن وجدت نفسها مرغمة بعد نحو سنتين على إطلاق سراح المناضلة الجزائرية الشابة. وكان الفضل في ذلك لـ...كتاب. كتاب حمل عنواناً بسيطاً هو "جميلة بو باشا"، لكنه حمل أكثر من ذلك كثيراً: حكل من ناحية على غلافه بورتريه رسمها بيكاسو لتلك الفتاة التي ملأت الدنيا يومها وشغلت الناس في فرنسا وخارجها وربما من أجلها صيغت تلك العبارة ذات الدلالة: "الشخص الذي قد تعتبره أنت إرهابياً، قد يكون بطلاً في نظر آخرين"؛ أما في داخل الكتاب فكانت هناك رسوم أخرى تحمل تحية للمعتقلة من أبرزها تلك التي رسمها الشيلي روبرتو ماتا والفرنسي لا بوجاد. وكأن هذا لا يكفي، حملت نصوص الكتاب تواقيع تبدأ بسيمون دي بوفوار وجيزيل حليمي ولا تنتهي بهنري آليغ (صاحب كتاب "المسألة" الذي أوصله إلى السجون الفرنسية) والجنرال دي بولارديير وفرانسواز ماليه- جوريس وجان فرانسوا ريفيل وصولاً إلى... فرانسواز ساغان.
زخم ضاغط وفعال
أمام مثل ذلك الزخم الضاغط لم تجد سلطات فرنسا، عشية نيل الجزائر استقلالها، مناصاً من الإقدام على خطوة أنقذت سمعتها وحررت الفتاة. ونعرف اليوم أن المبادرة أتت من سيمون دي بوفوار نفسها وشاركتها بها المحامية المناضلة جيزيل حليمي بشجاعة وحماسة كبيرتين. والحقيقة أن الكتاب نفسه لم يكن لا دراسة معمقة ولا تحقيقاً مسهباً حول "الإرهاب" ودوافعه، ولا حتى سيرة لحياة جميلة بو باشا نفسها، بل مجرد كلام عاطفي وسياسي يحاول أن يجند الرأي العام المثقف إلى جانب مناضلة رأت أن خير ما تقدمه لوطنها أن تساعده على تلك الطريقة غير آبهة بالعواقب، في محاولة منها للرد على أساليب المحتل نفسه التي كان انكشاف أساليبه في تعذيب المقاتلين حين يعتقلهم قد شكل فضيحة مدوية أمام الرأي العام العالمي، لا سيما في كتاب آليغ الذي أشرنا إليه. أما النضال المقابل الذي جابه به نمط معين من مثقفين فرنسيين سلطات بلادهم فكان طريقتهم الوحيدة الممكنة يومها، لتخليص المناضلين الجزائريين من براثن سلطات الاحتلال، في وقت لم يكن ثمة متسع من الوقت للغوص أعمق من ذلك. كان مجرد نوع من نضال يوصل صرخة بشكل عملي تاركاً التفاصيل والأحكام العقلانية والتحليلية لأزمنة مقبلة.
المثقفون يجندون سمعتهم ومكانتهم
والحقيقة أن ذلك النوع من النضال الذي يستفيد من مكانة "المناضلين" في الحياة الثقافية في بلدهم وفي العالم فيشكل قوى ضاغطة تتوجه إلى الرأي العام العالمي مؤلبة إياه ضد الممارسات الظالمة، كان مستحباً وفعالاً في ذلك الزمن وكان جان بول سارتر رفيق سيمون دي بوفوار رائداً في ممارسته بصورة علنية أحياناً وبشكل أقل علنية في أحيان أخرى. ومن هنا تحضرنا حكاية أخرى تتعلق به وببوفوار تحديداً تعود إلى سنوات الستين نفسها، أي إلى نفس تلك السنوات التي تمكنت فيها بوفوار وحليمي ورفاقهما من "إرغام" السلطات الفرنسية على إطلاق سراح جميلة بو باشا، ولكن كذلك عشرات غيرها أيضاً من المناضلات والمناضلين الجزائريين. وهذه الحكاية تبتعد عن الجزائر لتصل إلى فيتنام وواشنطن هذه المرة. وقد يكون من الأفضل أن نبدأ حكايتها من عهد الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب وتحديداً من يوم 26 أكتوبر (تشرين الأول) 2017، ففي ذلك اليوم واستجابة للقوانين المعمول بها في الولايات المتحدة، أمر الرئيس ترمب بأن ترفع السرية المطلقة عن 2891 وثيقة مصنفة سرية في محفوظات "سي آي إيه" تتعلق بجريمة اغتيال الرئيس جون كنيدي.
مفعول فيلم سينمائي
وكان ذلك القانون الخاص قد صدر عام 1992 إثر ظهور فيلم أوليفر ستون "جي أف كي" المتحدث عن اغتيال كنيدي، وكنوع من الرد على الاتهامات التي كالها ستون في الفيلم للوكالة الاستخباراتية نفسها. لكن سرعان ما تبين أن الإفراج عن ذلك العدد من الوثائق لم يكن كافياً. وذلك بالتحديد لأن العدد الحقيقي للوثائق المحفوظة كان 3100 وثيقة. فأين هي الوثائق الباقية، ولماذا بقيت محفوظة لا يكشف عنها ولا يسمح لأحد بالاطلاع عليها؟ ببساطة لأن "سي آي إيه" و"أف بي آي" معاً "نصحتا" الرئيس ترمب بالحفاظ على سرية الوثائق الباقية... ففعل ولكن مكتفياً بتأجيل تحري تلك الوثائق الباقية ستة أشهر لا غير. وفي الانتظار أثارت الحكاية فضول الصحافة التي سرعان ما التقطت الحكاية وراحت تبحث عن السر الكامن وراء ذلك كله. وهكذا في خضم الحكاية كلها والارتباكات والارتيابات التي ثارت من حولها، برزت فوراً ثلاثة أسماء فرنسية لم يعرف أحد ما إذا كانت لها علاقة بالوثائق "المؤجلة" أم لا: سيمون دي بوفوار، جان بول سارتر و... كاترين دونوف!
تقرير قد يكون مريباً
والذي جمع هذه الأسماء معاً هو المدعو بول ك. شاملسكي الذي كان يشغل أواخر سنوات الستين منصب رئيس منصة "سي آي إيه" في باريس، وكتب حين ذلك في تقرير بعث به إلى رؤسائه من العاصمة الفرنسية يذكر فيه أسماء هؤلاء النجوم الفرنسيين الثلاثة لكونهم "شكلوا مجموعة دعم تضم آخرين" لم يسمهم اتخذوا مقراً "سرياً" لهم في عنوان 3 شارع غابريال جوسران بمدينة بانتان غير البعيدة عن باريس. ولكن دعم من؟ بالتحديد الجنود الأميركيين الفارين من حرب فيتنام، والذين كانت السلطات العسكرية الأميركية تطاردهم وتريد محاكمتهم. ويشير تقرير شاملسكي إلى أن المجموعة كانت تجمع مبالغ متنوعة من المال لإيواء الجنود الأميركيين الفارين وتأمين كل أنواع الدعم لهم. ولئن كان التقرير لا يحدد ما تبرعت به سيمون دي بوفوار فإنه يشير إلى أن واحداً من المبالغ التي قدمها سارتر كان 100 دولار بيما تبرعت كاترين دونوف في دفعة واحدة بـ1500 فرنك فرنسي (ما كان يساوي 2000 يورو حينها). ويضيف التقرير أنه اعتمد في معلوماته على ما زوده به شخص يسميه "بيتوليا" واصفاً إياه بأنه عميل أميركي تمكن من التسلل داخل أوساط مجموعات الجنود الفارين الذين كانوا يلتجئون إلى فرنسا. وكان "بيتوليا" هذا بحسب التقرير يستقي معلوماته من جندي فار يدعى لاري كوكس تمكن ثلاث مرات من أن يحبط محاولات تجنيده وتوجه إلى باريس حيث أصبح حلقة أساسية في مشروع دعم الفارين.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وجه آخر للميدالية
حكاية جميلة بالطبع وقد تصلح موضوعاً لفيلم تشويقي يمكن للأسماء الفرنسية أن تشكل نقطة جذب فيه. ولكن مهلاً! فللحكاية وجه آخر ستكشف عنه بعد حين من ذلك صحيفة "الباريزيان" الفرنسية التي سارعت ما إن كشف عن ذلك التقرير إلى العثور على لاري كوكس نفسه، وقد صار بعد نصف قرن من تلك الأحداث رئيساً لجمعية تدافع عن حقوق الإنسان، فإذا به ينسف الحكاية كلها تقريباً، أو على الأقل يشكك في صدقيتها من خلال تشكيكه في صدقية ما يذكر على لسان "بيتوليا" في التقرير بحسب ما أدلى به إلى الصحيفة الفرنسية قائلاً: صحيح أنني قابلت كاترين دونوف بضع دقائق ولكني لا أذكر أي تبرع قدمته لقضيتنا. وصحيح أيضاً أنني التقيت سارتر خلال تجمع لدعم الجنود الفارين في باريس لكننا لم نتحدث عن أي تبرع. أما السيدة دي بوفوار، فإنني لم ألتق بها على الإطلاق. في المقابل كنا نتلقى بعض التبرعات التي أسهمت في سد إيجارات المخابئ التي كنا نؤوي فيها الجنود الفارين، لا سيما في مدينة بانتان، لكننا لم نكن نستعلم أبداً عن مصادر تلك التبرعات ولا أذكر في الحقيقة أن ثمة مبالغ وصلتنا من مثل هؤلاء النجوم الكبار. وفي المقابل يمكنني أن أتحدث عن تعاطف كبير معنا لاقيناه في فرنسا... لكن هذا كله كان من زمان ولم يعد له وجود تفصيلي في الذاكرة...".