السمعة في غالب الأحيان هي مجرد نوع من الوهم. لو أخذنا في الاعتبار أمثلة عدة ما خلا واحداً، يتخيل البريطانيون أنفسهم ومن بين كل الشعوب على الأرض أنهم الوحيدون الذين لديهم ولع بمناقشة حالة الأرصاد الجوية.
لكنهم اختاروا هذه السمعة لأنفسهم، بغض النظر عن الحقائق الواقعية التي يمكن ملاحظتها. فهم لو توقفوا لحظة للتفكير بالأمر، لتساءلوا عما إذا كان المليارات من البشر الآخرين في أماكن أخرى من العالم سيتركون ببساطة الرياح الموسمية والأعاصير والصيف الحار القاتل أن تحل كلها عليهم وترحل من دون أن يأتوا على ذكرها في أحاديثهم.
فلدى أعضاء حزب المحافظين البريطاني "التوريز" Tories سمعة معروفة عن قسوتهم، بمعنى أن ذلك النوع من القسوة اختاروه لأنفسهم بأنفسهم حتى عندما يكون الواقع الذي تتم ملاحظته عكس ذلك.
انظر، إن هذا ليس خطأهم بعدما اضطروا إلى الانتظار كل هذا الزمن ليقال لهم ما يعرفه الجميع مسبقاً وبشكل قاطع، قبل أن يستجمعوا جرأتهم ليقوموا بالمهمة الآثمة التي ربما لن يقوموا بها في كل الأحوال.
في تلك الأثناء، لقد منحونا متعة متابعة المسرحية الإيمائية القاسية، التي يمكن تلخيصها بوصلة ديفيد ديفيس David Davis، وهو يتقمص دور (رئيس الوزراء التاريخي) كرومويل الصغير في مجلس العموم البريطاني. فبعد وقوفه وتصديه لجونسون قائلاً "باسم الآلهة، ارحل"، اضطر [ديفيس] في اليوم التالي إلى الاعتراف بأنه لم يقدم رسالة حجب الثقة عنه بعد، لأن ذلك قد يكون عملاً قاسياً إلى حد ما؟
وذلك من حظ جونسون! وربما هو محظوظ أكثر -في الواقع- من الشخص المخادع الذي نصب كميناً لرئيسة الوزراء تيريزا ماي، من دون أن يقدم لها كعكة عيد ميلادها (في إشارة هنا إلى أن الموظفين في مقر رئاسة الحكومة لم يكونوا يحتفلون ويخالفون تدابير الحظر لدى احتفالهم بعيد ميلاد رئيس الوزراء جونسون أخيراً)، بل قدم لها وثيقة "بي 45" P45 [التي تعطى للموظفين بعد فصلهم من وظيفتهم]، خلال إلقائها كلمتها في مؤتمر الحزب السنوي. وكان ديفيس "محظوظاً"، كما قال في حينه، بأنه لم يقترب من ذلك الشخص أبداً، لأنه لو فعل، كان ليلقى عقابه و"يبقى طريح الأرض لفترة طويلة".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لكن يمكننا أن نقول هنا إن ديفيس أيضاً لم يكن محظوظاً تماماً، لأن هناك ثواني طويلة وربما دقائق من تسجيل لنقل تلفزيوني مباشر، يظهر "المحظوظ" سايمون برودكين وهو يجلس القرفصاء قرب أقدام ديفيس مباشرة، من دون أن يبدر عن ديفيس أي حركة تبشر بتحريكه ذراعيه أو قدميه [لإبعاده كما ادعى].
إلى جانب الانتظار الأبدي لتقرير غراي، يبدو أن المحافظين قد كشفوا عن لعبتهم. فالعصابة [الزمرة] من مؤيدي عملية الخروج القاسي [الانسحاب في آن من الاتحاد الأوروبي والاتحاد الجمركي والسوق الموحدة] من أوروبا تبدو وكأنها توصلت إلى نتيجة مفادها أن بإمكانهم ابتزاز ضعف جونسون. اللورد فروست كان استقال من الحكومة بعد شغله منصب فيها دام أقل من سنة (ولكن ما زالت لديه وظيفة تدوم مدى الحياة عبر تعيينه في مجلس اللوردات، وهو ما يضحك)، فروست يعكف اليوم على كتابة مقالات رأي تنطوي على تهديدات في صحيفة صن The Sun الشعبية (اليمينية).
فهو يقول لجونسون إنه لن يمكنه تحويل بريطانيا إلى مجتمع تفرض فيه ضرائب مرتفعة (على الرساميل)، وتنظم [حياته اليومية] إجراءات كثيفة (تضر بقطاع الأعمال) وتفرض الحكومة فيه سيطرة عالية. فروست، ومن حيث أهميته، وهي ليست كبيرة، انضم إلى الحكومة في مارس (آذار) 2021، في منتصف فترة الإغلاق الخاص بمحاربة كورونا، وفيما كانت مئات المليارات من الجنيهات الاسترلينية تُقترض من أجل دفع مرتبات المواطنين مباشرة. وهو اليوم استقال من الحكومة متذرعاً بــ"خلافات حول السياسات" مع الحكومة، وهي كلها كانت ماثلة بوضوح (أمامه) عند انضمامه إليها.
لقد أثنى فروست على مقال كتبه في صحيفة "صنداي تيليغراف" أليستر هيث Allister Heath، يشير فيها على جونسون بالتخلص من "الاشتراكيين الجدد، ومن المتطرفين الخضر، ومؤيدي ثقافة ووك woke" (من المعارضين أشكال التمييز والتهميش).
هذا النوع من الأمور بدأ يزيد من غليانه منذ فترة. صحيفة "تيليغراف"The Telegraph كانت قد وصفت موازنة وزير الخزانة ريشي سوناك الأخيرة خصوصاً منها الالتزام الذي قطعه بزيادة ضريبة الضمان الاجتماعي national insurance، لتوفير الأموال لدفع فاتورة الرعاية الاجتماعية (للشيوخ) بـ"إعلان عن موت المحافظين".
وما يجاهد هؤلاء من أجل تقبله هو أن أيديولوجية المحافظين التي نشأوا عليها وأحبوها قد اندثرت ومنذ عدة عقود. لكنهم أقنعوا أنفسهم، وليس من دون سبب وجيه، أن النصر الذي حققوه من خلال الاستفتاء، وفوزهم في انتخابات 2019 كان انتصاراً لأيديولوجيتهم. لكن ذلك منافٍ للواقع.
فإن الصادقين من بينهم لا يخفون سراً أنهم كانوا يحتاجون إلى جونسون كي ينجحوا في مساعيهم، وهم كانوا يتخيلون أن جونسون هو شخص تتركز فيه صفات آلة حاصدة لأصوات الناخبين. لكنهم غير قادرين على الاعتراف ولأنفسهم بأن استفتاء بريكست عام 2016 كتب لهم الفوز به تحديداً، لأن (مستشار جونسون السابق) دومينيك كامينغز كان قد تخلص وبحكمة من كل الثرثرة الجنونية التي يؤمنون بها مثل بريطانيا العالمية Global Britain، ومبدأ الإبقاء على نسبة الضرائب المنخفضة، والإجراءات التنظيمية المخففة، وإقامة سنغافورة جديدة على نهر التايمز وأكثر، من أجل أكاذيب بسيطة أكثر شعبية.
وهو قد عمل على إبقاء أكبر عدد منهم أبعد ما يكون عن شاشات التلفزة قدر الإمكان، لأنه يعرف عن حق أن أيديولوجيتهم تثير تقزز الناس العاديين ولكن أيضاً لأنهم مكروهون بشكل شخصي. ولأنهم أيضاً عاجزون عن ملاحظة ما قاله جونسون قبل خمسة أشهر من انتخابات 2019 -وهو كان قد أصبح رئيساً للوزراء في تلك المرحلة- عندما وقف أمام مقر "10 داونينغ ستريت" وأعلن أن في جعبته خطة لإصلاح قطاع الرعاية الاجتماعية "جاهزة للتنفيذ". ربما لم يقل الحقيقة كاملة [على ما هي]، وخصوصاً "مدى جهوزية" خطته، لكن مسار التغيير العام [في الوطن] قد أصبح واضحاً للعيان.
ولكن وإن لم يكونوا (أي أعضاء حزب المحافظين) على دراية، ليس جميعهم كذلك بكل الأحوال، فهم قد اقتصر دورهم على إطلاق التهديدات، بدلاً من الإقدام واتخاذ الإجراءات، لأنهم ومن دونه (جونسون) عليهم فجأة مواجهة واقعهم الذي لا يمت إلى معظم القضايا المطروحة بصلة، وأثرهم الانتخابي السام، الذي عكس ومنذ فترة طويلة واقعهم وهذا الحال لا يزال قائماً.
ربما سيلاحظون ذلك فجأة، فكل المرح الذي اعتقدوا أنهم قد حصلوا عليه منذ 2016، فهم لم يفوزوا يوماً بأي شيء إطلاقاً بنتيجته، وهم لن يفوزوا بكل الأحوال.
© The Independent