يقول الناقد الفرنسي جان - بيار ريشار، في معرض تحليله شعر بودلير، معرفاً الشعر الأعظم بأنه "النبل في فعل التضحية، وفي المسرى السحري لما يروى، وفي الانسجام الوشيك الولادة، وفي الوحدة قيد التكون، والتي لا يمكن تحققها إلا وقد صيغت القصيدة، في أتم السكون...".
الشاعر والقاص التونسي محمد الغزي في مجموعته الشعرية الجديدة "استجب إن دعتك الجبال"، الصادرة حديثاً عن دار كونتراديكسيون التونسية، يواصل تجربته الشعرية الخاصة، ويضيف إلى سجل أسلوبه وموتيفاته وأغراضه الشعرية ما يستكمل به لغته وعالمه الشعريين الواقعين بين التراث والحداثة والمعاصرة.
في مستهل الكتاب تقديم أو دعوة القارئ المقبل على مطالعة الشعر، ومصاحبته في رحلة الشعر التي تكتنفها الظلمات، أن يرافقه ويشد من أزره، فيقول: "إني أوحشني سيري منفرداً/ فأمسكني من يمناي ولا تتركني/ أقطع هذا الدرب الموحش وحدي". وهذا ما يعادل دعوة الصاحبين في الشعر العربي القديم استئناساً وطلباً للمتلقي المفترض، في "قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل" لامرئ القيس، وما يثبت الصلة بين هذا القارئ والشعر الناجم عن تجربة الشاعر، قيد التكون، ما دامت رحلة الشعر سارية، وما دام العمل الشعري لم يُنجز بعد. وبالطبع، يمكن تسجيل فهم الشاعر الغزي لتحول متلقي الشعر من الشفاهة وسمع الخطاب الشعري في الزمن الغابر، إلى الكتابة، في الزمن الحاضر، وقراءة النص الشعري.
حرية الشعر
أيا يكن أمر التلقي، فإن الشاعر محمد الغزي يقدم لشعره بمقطعة شعرية، من ثمانية أسطر، منظومة من خليط تفعيلات الهزج والرمل والطويل، مع قصد في تقطيع الأسطر الشعرية على نحو يظهر فيه التدوير وإسقاط القوافي، إلا قافية يتيمة (الغياب/ بالخطاب)، ربما للدلالة على أن الشعر الذي يصاغ ههنا، هو حر، بل أكثر حرية من ذاك الذي وصفته نازك الملائكة، في أوائل الستينيات من القرن الماضي، ونبهت من أخطائه، على حد وصفها. إذاً، في القصيدة الافتتاحية، بعنوان "بهجة العين"، يعود الشاعر إلى مخاطبة القارئ الذي سبق له أن دعاه إلى صحبته أن يثمن عالياً الهدايا، أي القصائد التي يزمع عرضها للحال، وأن يمد له يداً ويشافهه: "منتظراً بعد هذا الغياب/ أن تمد لي يداً/ وتشافهني مثلما كنت شافهتهم بالخطاب".
ويبلغ القارئ القصيدة الأولى، مفتتح الديوان، وهي بعنوان "المعتمد بن عباد"، وهو أحد ملوك الطوائف في أشبيلية، إبان حكم العرب لها، والخاسر مملكته أسيراً ممتهناً على أيدي بني حمود، والشاعر المنشد غربته ومأساته، في هذه القصيدة الغنائية الطويلة (9 صفحات) يخاطب الشاعر محمد الغزي شخصيته النموذجية "المعتمد بن عباد"، مستعيراً مأساة الأخير، ونظرته الكسيرة إلى الوطن، فيستخلص منهما شعوراً عارماً بالغربة عن الوطن، والأهل، وإدراكاً راسخاً بهزيمة لا عودة منها، يزكيها نكران الخلان والخلص وحتى البلاد. ولعمري أن الشاعر، في لعبة المواربة أو الاستعارة الكبرى، إنما شاء أن يسقط رؤيته العبثية وحمالة الأسى على وطنه هو، وأرضه، وأن يمضي في مذهب الأرض اليباب، إلى حد الوقوف على لغة الطير والحيوان، لاستلهام المصير منهما. يقول: "يا ابن ماء السماء/ سدى يتلفت قلبك قبل الرحيل، سدى تتفلت عينك،/ أنت الغريب هنا،/ والذي كنت تحسبه وطناً قد غداً كفناً/ فعلام إذن تتلفت؟/ لا شيء غير قوافل غرثى تخوض في ظلمات القرى/ غير رايات أهلك تحت الحوافر/ غير المقابر في كل أرض". ويضيف: "وحده كان شيخي الغراب يعلمني درسه/ ويعيد الوصية: يا ابن ماء السماء/ استجب إن دعتك الجبال، فثمة ينعقد البرق/ ثمة تولد كل الغيوم".
أمداء الزمن
لا تخفت نبرة الشاعر الغزي، ولا تغيب ذاته، إذ تنهضان على عاتق شخصية المعتمد بن عباد، وإنما يكتسب صوته أمداءً عابرة للزمن، وينغرس صداه أعمق في وجدان القارى، وتتحول الغنائية عن مجراها المألوف، الضنين بالأنا ومشاعر الأسى الشفيف والمغلف بأجواء رمادية خانقة، على سمت الرومنطيقيين، إلى بسط الأنا غيريتها وألوانها ومتحوراتها على مسميات مستعارة من التاريخ، وتحميلها رؤية العبث والخراب العميم، ورؤيا الأبعاد المنسية التي تتواتر لدى الشاعر في أغلب قصائده، ومفادها أن في إصغاء المرء إلى كائنات الطبيعة خلاصاً له، وتسليطاً للضوء على منافذ ممكنة للخروج من الاستعصاء الظاهر والموصوف.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وإذ يتتبع القارئ ثيمة إصغاء المرء إلى كائنات الطبيعة، وتجويد بصره وبصيرته حيالها، يقع على قصيدة "الليل" التي يدعو فيها القارئ إلى أن يجود بصره وبصيرته ليرى "أبعد مما يرى النسر"، إذ يقول: "تعلم إذن أن تشم الينابيع قبل الوصول إليها/ وأن تسمع العشب، فالليل قد حل قبل الأوان/ فاحتشد للطريق إذن/ ولتكن بصراً من حديد".
مثلما يلمح القارئ الثيمة نفسها في قصيدة "الصوت"، وهي قصيدة حوارية، تجري بين الشاعر وأبيه، والتي يكون فحواها لزوم إصغاء المرء (الشاعر) إلى أصوات الطبيعة، وعنى بها أصوات النهر والتراب، ونبض الأرض، في ما يشبه دعوة أحد فروع الرومنطيقية إلى محاكاة الطبيعة، والإصغاء إليها، يقول: "هكذا أصبحت أدنو من تراب الأرض/ أصغي لارتفاع العشب/ أصغي لانفلاق الحب/ أصغي لانعقاد التين/ أصغي لاندفاع الجذر تحت الأرض".
الطبيعة الأخرى
كذلك الأمر، يواصل الشاعر في قصيدة "التكوين" تركيزه على الثيمة نفسها، عنيت إرهاف السمع إلى عناصر الطبيعة المختلفة: "أرهف سمعك للبحر الليلة:/ ثمة قارات تنبثق الآن من الماء/ وغابات وأوابد.../ أرهف سمعك للموجة/ وطيور ومجرات وبراكين".
وحتى لا يظن أن ليس في القصيدة إلا ما سلفت الإشارة إليه، أقول إن الشاعر جهد في إبلاغ القراء طائفة من همومه وثيماته وأغراضه من مثل الرؤية الأبعد، والتي تحمل في طياتها نظرة إلى الشعر أقرب ما تكون استدعاءً للبصيرة النفاذة، إذ يقول في قصيدة عنوانها "أن تمضي أبعد": "أن تمضي أبعد: أبعد مما تبصر/ أبعد مما تسمع/ أبعد مما تهجس". ومن القصائد أيضاً ما يندرج في باب ما وراء الشعر (أو الميتا شعري)، وهي كناية عن آراء الشاعر في ما ينبغي أن يكون عليه الشعر، وموقفه المتهيب من نظم الشعر، في قصائد ثلاث، هي: "السطر الأخير"، و"القصيدة"، و"كلمات". وفيها كذلك رؤيته الأسلوبية الانتقائية إلى المعجم النادر والمحمل بالدلالات والإيحاءات الغريبة: "كلمات لم تروضها قصائد الشعراء/ ولدت في أماكن نجهلها/ من سلالة الذئاب/ على أنها كلمات القصائد المقبلة".
ليس هذا فحسب، إذ يعاين القارئ لدى الشاعر نماذج لغنائية وجدانية، وإن أقل من مثيلاتها، تخرج فيها ذاتيته الانفعالية بأجلى صورتها، بالتعارض مع شعور الخيبة من الوطن ومن ناسه، ولا سيما قصيدته "الاستثناء"، وفيها يعد محبوبته "رجاء" بأنه "سوف ينسى كل مكائد هذا الوطن"، عندما يحين وقت الرحيل، إلا ذكرى حبيبته: "ولن أتذكر من هذا العالم/ وأنا أشيح بروحي عنه/ إلا وجهك/ وهو يرف مثل النجم في ليل شديد الظلمة/ إلا عينيك وهما تنشران كل هذا الضوء/ وتتدلى الأقمار كالمصابيح".وقد يكون ثمة كلام كثير على رمزية الكائنات الطبيعية لدى الشاعر محمد الغزي - وهي شأن الدراسات المعمقة - أشير فيها إلى النهر ("النهر")، والجبال، والطيور ومنها الغراب، والذئاب، وغيرها، مما يرد ذكره في قصائد المجموعة، وينم عن تكون عالم شعري أو شبه عالم بلغة الفلاسفة (هوسرل) مكتمل وجدير بالكشف عنه.
وفي إشارة ختامية إلى أسلوب الشاعر، ولغته الشعرية تالياً، يمكن القول إنه في ما صاغه من قصائد موزونة، بالقسم الأوفى من المجموعة، بدا شديد الحرص على جمالية عالية، وليدة التراث وسائرة بموازاته، وبانية على ضفافه، من دون إسفاف أو تنازل عن إيحاء أو طيف استسهال. وإن مشى الشاعر في ركب الشعر الحر، والقصيدة التي تكاد تكون مقفاة، على ما ذكرت، فإنه شاء أن يقفل المجموعة على قصائد نثرية، يعارض في إحداها ("الأمطار") نظرة وديع سعادة إلى الإطار المكاني المديني الصناعي، فيقول: "لماذا تنهمر يا وديع كل هذه الأمطار على المدينة؟/ أليس العشب أولى من الأسفلت؟/ والأشجار من المنازل؟/ والطيور من المزاريب؟".
للشاعر محمد الغزي مجموعات شعرية، مثل: "كتاب الماء، كتاب الجمر"، و"ما أكثر ما أعطى، ما أقل ما أخذت"، و"كثير هذا القليل الذي أخذت"، و"كالليل أستضيء بنجومي"، و"ثمة ضوء آخر". وله الكثير من قصص للأطفال، منها: "صوت القصبة الحزين"، و"مملكة الجمر"، و"الطفل والطائر وشموع الميلاد"، و"حكاية بحر"، وغيرها.