Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الشاعرة التونسية فاطمة كرومة تواجه أخطاء الآخرين

إيقاع الذات يترسخ في القصيدة التونسية النسائية

عمل للرسام التونسي علي الزنايدي (صفحة الرسام على فيسبوك)

لا بد أن يتساءل القارئ بعد أن يفرغ من قراءة ديوان "أخطاء فادحة" (دار ميارة 2020) للشاعرة التونسية فاطمة كرومة: إلى أي تيار شعري تنتمي قصائده؟ هل هي أقرب إلى الشعر الغنائي ذي النبرة الوجدانية كما هو الحال في قصيدة "أنساني عندك" التي جاء فيها: "غداً أيها الغريب عندما تشرق الشمس/ إذا ما وجدتني مثل دوري مبلل/ أضاع الطريق إلى عشه/ ضعني بحنو بين أغصان يديك الوارفتين/ لئلا تتكسر نجمة حظي/ لئلا يذبل جسدي الغض/ ويجف ماء قلبي". أم إن قصائد الديوان أقرب إلى الشعر السوريالي حيث تأتلف الأشياء على تباعدها، وتتقارب على تنافرها، كما هو الحال في قصيدة "امرأة بسيطة" حيث تقول: "أنا امرأة بسيطة/ أطبخ السم بمهارة وأتذوقه/ كأي ربة بيت مطيعة/ أعد رماد عجينة الأخشاب والجثث/ أضعها في قوالب بخار".

أم إن قصائد الديوان تجنح إلى شعرية التفاصيل حيث تنعتق اللغة من كل نزعة بيانية وتقترب من حرارة الواقع وعناصره كما في قصيدة "الأغنية لم تكن يوماً لي" حيث نقرأ: "كل شيء كان جاهزاً: جواز السفر العملة الأجنبية/ أوراقي الخضراء/ خوفي من أشخاص لا أعرفهم حزني اللدود/ صورة طفلي كي لا أختنق/ الحذاء الرياضي للسير معاً في ريف ما/ كنت جاهزة ونضرة كشجرة سرو في مقبرة". أم إن قصائد الديوان تعمد إلى أسطرة العالم وإيقاظ الأرواح النائمة فيه كما في قصيدة "لا رسائل عن المحبة": "أصل الإنسان نجم ذوى/ ثم مع الأيام/ يصير مسخاً مكسواً بالشعر والكلمات/ محشواً بالغبارجائعاً للحم/ متعطشاً للدماء".

أسئلة شعرية

ليس من اليسير الإجابة على الأسئلة التي أثرناها، فالشاعرة في هذا الديوان أرادت أن تستفيد من كل منجزات القصيدة الحديثة، توظفها، بنباهة فائقة، لتقول تجربتها. لهذا نسمع في قصائدها أصداء وهواتف مقبلة من نصوص سابقة، وخصوصاً من قصائد النثر العربية كما استتبت مقوماتها لدى أدونيس وأنسي الحاج.

لكن هذه الأصداء والهواتف لا تطمس صوت الشاعرة أو تلغيه، بل ربما تبرزه وتزكيه. الشاعرة هنا تتهجى أبجدية الحياة، تحاول أن تستوعب معانيها، تقترب منها حذرة، تريد أن تحيط بها، لكن سرعان ما ترتد عنها خائفة. فالأخطاء كانت كثيرة، فادحة، إذ واكبت طرائق تدربها على الحياة، والتعامل مع الناس والآخرين. لهذا يمكن القول إنها أخطاء "بريئة" بل "ناصعة البياض" غير متعمدة، فهي من مقتضيات التعلم، بسبب من هذا لم تتنكر لها الشاعرة بل ربما احتفت بها. "ارتكبنا أخطاء فادحة بالجملة/ وانتظرنا يداً خفية تصلحها/ مشينا بخطوات طائر الفالمينغو خطواته الوئيدة والملاحقة/ وقفنا تحت الشمس/ على ساق واحدة كي نرتاح".

لكن مع ذلك استمرت فتنة الشاعرة بالحياة، وتوسلت بالحب حتى تحول غربتها إلى أنس ووحدتها إلى حفل كبير. لكن من جديد تكتشف خدعة الحب وخداع المحبوب فتنكفئ على نفسها مكسورة. وعلى طريقة الشعر الفارسي تصف قلب الحبيب بالطائر فيما تصف قلبها بالغصن: "الطائر المنهك الذي بلغ أرضي قلبك/ هز آخر غصن حي في صدري واختفى". وبنبرة فيها كثير من الشجن تقف الشاعرة أمام وطأة الزمن، وكأن قصائد المجموعة هي استعادة لزمن مضى أو انتظار لزمن قادم، أما الحاضر فهو غائب أو يكاد. فقدر الشاعر أن يتشوق أو يحن، أن يتلفت أو أن يشرئب.

التجربة الروحية

على امتداد التاريخ عمل الشعراء على استبقاء بعض الخيوط التي تشد القصيدة إلى العالم الخارجي، فيتاح للقارئ، عندئذ، أن يعقد علائق بين النص والمرجع. لكن شعر الحداثة أقدم على قطع تلك الخيوط، فبات الشعر لا يتحدر من موضوعات يستلهمها الشاعر من العالم الخارجي، وإنما يتحدر من التجربة الروحية، من إمكانات النظم بين الكلمات. وينعقد الإجماع بين النقاد على أن كل قصائد الحداثة هي في حقيقتها قصائد تحتفي بتجربة الشاعر الذاتية وبالطاقات غير المتناهية للغة. فهذه القصائد لا تفتأ تذكر أن الشعر تجديد مستمر لفعل الكتابة، بحيث يكون القول على الدوام هو قول ما لا يقال، لكن هذا التجديد لن يكون ممكناً إلا إذا حرر الشاعر اللغة الشعرية من كل هدف ومنفعة كما يقول الرمزيون. وبسبب من هذا باتت القصيدة الحديثة تلتفت إلى حضورها، وتتأمل ذاتها، وأصبح الشعر فيها محور الشعر، وإن بدا، للقارئ المتعجل، مختلف المضامين متنوع المواضيع.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

لا شك في أن هذه الآراء قد تركت أثرها في قصيدة الشاعرة فاطمة كرومة، حيث توارى الواقع الموضوعي مواراة كاملة ليترك المجال لواقع آخر أكثر لطافة وخفاء هو الواقع النفسي والروحي. لهذا لم يترك تاريخ تونس القريب رغم أحداثه الجسام أي أثر في قصيدة كرومة. الشعر لدى هذه الشاعرة هو تعبير عن "وطن الروح" وكشف عن دهاليزها العميقة.. لقد اختفت النزعة الأورفية التي واكبت الشعر النسائي التونسي في بداية الاستقلال وقامت بدلاً منها في السنوات الأخيرة نزعة انكسار وتبرم.

إذا قارنا، على سبيل المثال، بين ديوان "حنين" لإحدى شاعرات الستينيات وهي زبيدة بشير، وديوان "أخطاء جسيمة" لفاطمة كرومة، وجدنا النص الأول نصاً احتفالياً، تتغنى زبيدة بشير من خلاله بنفسها، برغباتها، بعواطفها. فالشاعرة لم تعد تتضرج خجلاً من نفسها، وإنما أصبحت، على العكس من ذلك، تزهو بأنوثتها، وتتباهى، على وجه الخصوص، بامتلاكها سلطان اللغة، هذا السلطان الذي كان حكراً على الرجال، يتداولونه منذ أقدم العصور. وبامتلاك المرأة الأسماء باتت قادرة على السيطرة على الأشياء، أي باتت قادرة على كسر السلاسل التي رسفت فيها على امتداد عصور كثيرة والمضي قدماً نحو أفق جديد، مستدلة بحدسها، بوجدانها وبانفعالها المتوقد المتوهج.

وإنه لأمر ذو دلالة أن تكتب الشاعرة ديوانها في زمن كان مفهوم الالتزام يهيمن على المدونة الشعرية الحديثة ويحد من شحنتها الوجدانية. وإنه لأمر ذو دلالة أيضاً أن تختار العدول عنه لتصل علائق قوية بين الشعر ووطن الذات، بين الشعر وإيقاع الجسد، بين الشعر واختلاجات الروح... فالشعر ظل، لدى زبيدة بشير، ارتداداً إلى وطن الروح الذي يشترك فيه أكثر الناس انفراداً مع كل من يحس ويشعر على حد عبارة أحدهم. أما ديوان كرومة فهو ديوان مفعم بالشجن والانكسارات تتوالى. لقد اختفت النزعة الاحتفالية وحل محلها شعور ممض بالوحدة. هذا الديوان الجميل، على جرأته واندفاعه، له تباريحه وأشجانه وجروحه الغائرة. فيه هشاشة وتوجس، وفيه تردد وخوف. يريد أن يعلن عن نفسه لكن سرعان ما تحاصره نواميس الجماعة وقوانينها، فيلوذ بالصمت. لهذا لا تكمن قيمته في ما أعلن عنه وأفشاه، وإنما في ما أراد أن يعلن عنه ويفشيه.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة