قالت الرسامة والشاعرة واللبنانية إيتيل عدنان ذات يوم إن "الرسم ليس مجرد مهارة، بل هو لحظة تواصل مع كل ما ترسمه، فسوف يكون عملك صادقاً إذا ما كان لديك تلك القدرة والقناعة العميقة، وإلا فكل ما ترسمه حينها سيكون مجرد أشكال فقط". تتجلى قناعة الفنانة هذه في طريقتها التي صورت بها الأشياء من حولها، من طبيعة وأشكال جامدة، إلى تعاملها المرهف والمختزل معها كأنما كانت تسعى للوصول إلى جوهر العناصر.
امتدت مسيرة إيتيل عدنان لأكثر من ستة عقود وشملت مجموعة واسعة من الوسائط المختلفة بما فيها الرسم والتصوير والطباعة والفيديو والخزف. عرفت عدنان كشاعرة، ضمنت أعمالها الشعرية الكثير من الرؤى الميتافيزيقية والمواقف الملتزمة إنسانياً والرافضة الحروب والمخاطر التي تهدد العالم. في رسوم عدنان وكتاباتها اختلطت المشاهد الآنية بالذاكرة، وطالما عبرت في أعمالها عن مشاعر الاغتراب والنزوح، فهي ولدت وترعرعت في لبنان قبل أن تنتقل للعيش والدراسة في فرنسا والولايات المتحدة لاحقاً.
قبيل رحيل إيتيل عدنان في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي وبعده أقيمت لأعمالها معارض وعقدت ندوات حول فنها، وتم الاحتفال بمسيرتها الغنية والفريدة. وكان لافتاً تزامن هذه الأنشطة في أماكن مختلفة حول العالم من باريس وإسبانيا إلى الولايات المتحدة. بين هذه الأنشطة المهمة يأتي معرضها في غاليري ليلونج للفنون المعاصرة، الذي يطالعنا بمجموعة فريدة من أعمالها التي لم تعرض من قبل. ترجع أهمية هذه الأعمال إلى كونها من الإنجازات الأخيرة التي حققتها قبل رحيلها. المعرض الذي يستضيفه الغاليري يتوزع على مَقَريه في نيويورك وباريس، ويستمر حتى 12 من مارس (آذار) المقبل تحت عنوان "اكتشاف آني". في هذه الأعمال تبدو تجريدات عدنان أكثر اختزالاً، فهي استغنت خلالها عن اللون الصريح الذي ميز أعمالها، واقتصرت على اللونين الأسود والأبيض كلونين أساسيين، مع بعض إشارات لونية متقشفة هنا أو هناك.
اللحظة العابرة
رسمت الفنانة هذه المجموعة من وحي إقامتها في بلدة بريتاني شمال غربي فرنسا خلال الصيف الماضي، حيث كانت تقيم بصحبة رفيقة دربها الفنانة اللبنانية سيمون فتال. يشير عنوان المعرض (اكتشاف آني) إلى اللحظة الآنية في الرسم وكذلك في الحياة. تبدو الفنانة هنا كمن يسارع الزمن، فلا وقت لديها للغوص داخل اللون المشبع. واختارت عدنان أن ترسم أعمالها تلك بخطوط سريعة ومتوترة معبرة عن جميع ما تراه وكل ما تشعر به قبل أن ترحل. كأنها تريد توثيق هذه اللحظة التي نكون فيها حاضرين تماماً قبل أن نختفي. يرافق المعرض إصدار كتاب باللغتين الإنجليزية والفرنسية يحوي صوراً للأعمال المعروضة مع مقدمة للكاتب والفيلسوف الفرنسي إيف ميشود.
وتزامناً مع هذا المعرض يستضيف مركز الإبداع الأندلسي في مدينة قرطبة الإسبانية معرضاً فردياً آخر لا يقل أهمية عن المعرض السابق. يقام المعرض تحت عنوان "خلف خط الأفق" ويستمر حتى 28 فبراير (شباط). يلقي هذا المعرض الضوء على تجربة عدنان الإبداعية عبر أكثر من ستين عملاً مختلفاً يعود بعضها إلى ستينيات القرن الماضي. تُظهر الأعمال تطور أسلوب الفنانة والشاعرة اللبنانية من التجريد الهندسي الخالص في تجاربها اللونية المبكرة إلى مقاربتها للمناظر الطبيعية في السبعينيات، وعدم تخليها عن الحس التجريدي عبر الانعطافات المختلفة التي مرت بها.
تقدم هذه المعارض عدداً كبيراً من لوحاتها الملونة التي كانت أنجزتها في الولايات المتحدة حيث كانت تعيش بالقرب من شاطئ البحر. في هذه الأعمال رسمت عدنان وأعادت تكرار خط الأفق الممتد على الشاطئ في عشرات اللوحات. اقتصرت تلك الأعمال على خط ممتد وشمس مستديرة في الأفق، وسماء صافية أو غائمة، وشاطئ بلا تفاصيل. رسمت عدنان هذه التوليفة بصيغ لونية مختلفة ومكررة كأنها تحاول الوصول إلى الشكل المثالي الأنسب للمشهد الذي تراه كل صباح.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وتحل أعمال الفنانة كذلك هذا الشهر وحتى 21 من فبراير ضيفاً على مركز بومبيدو- ميتز في فرنسا هي وأربعة فنانين آخرين في معرض بعنوان "الكتابة هي الرسم". فكرة المعرض مستوحاة من تجربة عدنان التي تراوح بين الكتابة والرسم، وهو ما تتشارك فيه مع العارضين الآخرين. يضم المعرض أعمالاً تعود إلى ثمانينيات القرن الماضي حين كانت تمزج الفنانة في أعمالها بين الكتابة والرسم في اشتباك "بدائي" وذي دلالة.
خلافاً لذلك تحل أعمال عدنان ضيفاً كذلك على متحف الفن المعاصر في نيس الفرنسية (كاري دي زار) حتى 13 مارس المقبل ضمن معرض جماعي. يقام المعرض تحت عنوان "معلق وثابت". وانتهى أيضاً قبل أيام معرضها الفردي في متحف غوغنهايم في نيويورك وعنوانه "معيار الضوء". ويبدو أن الاحتفاء بالفنانة والشاعرة اللبنانية الكبيرة سيستمر خلال العام، إذ يستعد متحف فان غوخ في هولندا لاستضافة معرض شامل لأعمالها في الفترة من 20 مايو (أيار) حتى 4 سبتمبر (أيلول) المقبل.
في هذه الأعمال جميعها يبدو واضحاً الأسلوب الذي تمتعت به إيتيل عدنان في معالجتها اللونية، فهي تضع الأصباغ مباشرة على مساحة اللوحة لتقدم تركيبات ذات طابع سريع. وهي لا تمل من تكرار الأشكال الهندسية، متمسكة بأسلوبها في اختزال العناصر وتجريدها.
تُعرض أعمال إيتيل عدنان حالياً في مجموعات متحفية عدة حول العالم، مثل المتحف البريطاني ومركز بومبيدو ومعهد العالم العربي ومتحف هونغ كونغ في الصين ومتحف الفن الحديث في نيويورك ومتحف الفن الحديث في تونس ومتحف ويتني للفن الأميركي.