Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

هل سيرفانتيس كاتب جزائري؟

تجربة الأسر التي عاشها جعلته يتحرر من منطق المغامر في الحياة إلى مقدام في الكتابة

نزل سيرفانتيس أسيراً في مدينة الجزائر ليمكث فيها خمس سنوات أسر كاملة ستمثل انقلاباً جدياً في حياته (أ ف ب)

"الجزائر تشبه سفينة نوح" هكذا عبر سيرفانتيس واصفاً مدينة الجزائر العاصمة التي عرفها وخبرها، امتحنها، وامتحنته، وكتبها وكتبته.

هل سيرفانتيس كاتب جزائري؟ أي الكاتب الذي عبر عن أهالي مدينة الجزائر بدقة وعمق وفن؟ يبدو السؤال غريباً، لكن العودة إلى كتابات هذا الكاتب العالمي، الذي لا تزال روايته الشهيرة "دون كيشوت" تُباع بمئات آلاف النسخ سنوياً وفي كل اللغات، وتُدرّس في جامعات العالم كلها تقريباً، وتنشر عنها عشرات بل مئات المقالات باستمرار في كبريات المجلات والمنابر العالمية، ويستمر اقتباسها أو الاقتباس منها للموسيقى والسينما والمسرح والرقص من دون توقف وفي جهات العالم الأربع.

هل سيرفانتيس كاتب جزائري؟

لسيرفانتيس (1547-1616) حكاية مفصلية مع الجزائر، وبالأساس مع مدينة الجزائر العاصمة، حكاية تشبه "الحكة"Démangeaison ، كلما تم حكها تهيّجت فازدادت الرغبة في الحك أكثر. هذه الحكاية هي التي مثلت مركز الكتابة ومركز العبقرية الإبداعية وجعلت منه كاتباً عالمياً متفرداً، هي التي حركت فيه شيطان الكتابة الذي كان نائماً فيه وهو يقطع البحار مغامراً يشارك في الحروب البحرية من شواطئ اليونان حتى مضيق البوغاز جبل طارق.

ربما كان بالإمكان أن يظل سيرفانتيس محارباً أو قرصاناً أو تاجراً أو سمساراً أو مغامراً أو مهرباً لولا تلك التجربة التراجيدية التي عاشها مع وفي مدينة الجزائر، التي أيقظت فيه فتنة الكتابة وشيطانها.

عائداً من معركة ليبونتيه Lépante التي وقعت غير بعيد من شواطئ اليونان بين بحرية إسبانيا والتحالف المسيحي ضد بحرية سليم الثاني العثمانية، كان ذلك في العام 1571، وقد فقد يده اليسرى في تلك الحرب. وهو في عرض البحر في طريقه إلى إسبانيا بلده المنتصر، تعرضت السفينة التي كان على متنها إلى هجوم من البحرية الجزائرية، وعلى إثر ذلك أسر سيرفانتيس واقتيد إلى مدينة الجزائر. كان ذلك في 26 سبتمبر (أيلول) 1575.

في ذلك الخريف، نزل سيرفانتيس أسيراً بمدينة الجزائر، ليمكث فيها خمس سنوات أسر كاملة ستمثل انقلاباً جدياً في حياته، من سبتمبر 1575 حتى سبتمبر 1580.

تميزت سنوات الأسر بأربع محاولات للهروب قام بها سيرفانتيس تارة رغبة في الوصول إلى مدينة وهران (500 كلم غرب الجزائر) التي كانت تحت السلطة الإسبانية، مستعمرة إسبانية منذ 1509، وتارة نحو البحر لعل سفينة مقلعة تنقذه، ولقد باءت المحاولات الأربع بالفشل.

وفي محاولة الهروب الثانية عام 1577، التجأ سيرفانتيس إلى إحدى المغارات الموجودة إلى ربوة مطلة على ميناء الجزائر العاصمة، ومنها كان يراقب حركة السفن المبحرة والراسية في ميناء الجزائر. والجميل أن هذه المغارة لا تزال حتى اليوم قائمة تسمى باسمه: "مغارة سيرفانتيس"، وهي موجودة بحي بلويزداد (بلكور سابقاً) في العاصمة. تعد المغارة واحدة من الكنوز التراثية الثمينة التي ارتبط اسمها باسم واحد من أكبر كتاب الإنسانية، بل هي المكان الذي بدأ فيه التفكير في مشروع عمله الروائي الضخم "دون كيشوت"، الذي سينشره ما بين 1605 و1615 بعد أن تم تحريره عام 1580 بعد شرائه من قبل رجلين دينيين مسيحيين، سيخلدهما في كثير من كتاباته الإبداعية ومراسلاته. لكن للأسف فالمغارة مهملة والمكان غير مُعتنى به، وكان بالإمكان العمل على تصنيفه على قائمة التراث الإنساني العالمي.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

بالعودة إلى كتابات سرفانتيس وبالأساس ("مراسلاته" التي استثمر جزءاً كبيراً منها في القسم الأول من روايته دون كيشوت، وأيضاً في مؤلفه "معتقلات مدينة الجزائر" وفي "معاملات مدينة الجزائر" وفي قصة "سلطانة" وفي "قصة أسير" التي سنعثر عليها أيضاً في دون كيشوت) سنجد في هذه الكتابة صورة دقيقة ومفصلية ليوميات أهالي مدينة الجزائر نهاية القرن السادس عشر وبداية السابع عشر، يكتبها سيرفانتيس من الداخل، وكأنه واحد من الأهالي الأصليين. ونشعر في تصويره هذا بأنه غير غريب عن تقاليد هذا المجتمع الجزائري ذي الغالبية المسلمة، والمتعايشة مع المسيحيين الذين كانت غالبيتهم من الأسرى، ولكنهم كانوا يمارسون دينهم يوم الأحد كما كان يُسمح لليهود بعدم العمل يوم السبت الذي هو يوم مقدس لديهم، وهي الحالة التي تشبه ما كانت عليه إسبانيا تحت الحكم الإسلامي. فهذا الخليط العقائدي واللغوي والعرقي ليس بغريب عن سيرفانتيس ابن تاريخ إسباني متعدد.

مرات ومن باب الاحتياط كأسير، لا يسمي سيرفانتيس المدينة التي يصفها، لكن بالعودة إلى كرونولوجيا سنوات أسره، سنكتشف بأن المدينة المقصودة في هذا النص أو ذاك ما هي إلا مدينة الجزائر العاصمة.

وحين يحدثنا سرفانتيس عن الواقع اللساني الذي كانت عليه مدينة الجزائر العاصمة في تلك المرحلة (نهاية القرن السادس عشر)، التي عاش فيها أسيراً، ندرك كيف كان مندمجاً داخل المجتمع، يصف المدينة بأنها كانت متعددة الألسن من العربية والبربرية والفرانش Franche والعبرية والعثمانية، وكأنه يتحدث عن قرطبة أو غرناطة في تعدد لغات ساكنيها أيام الحكم الإسلامي. يكتب سيرفانتيس واصفاً حال اللسان في مدينة الجزائر قائلاً: "نتكلم لغة عبارة عن خليط لا نعرف ما هي ولكننا نفهمها ونتفاهم بها".

وفي حياته الجزائرية، يظهر ذلك من خلال نصوصه، اكتشف سرفانتيس بأن الحب أوسع من العقيدة، حين تعرض إلى علاقات الحب التي كانت تجمع ما بين مسيحيين ومسلمين من الجنسين، وأن العاشق قادر على تجاوز عقيدته من أجل معشوقته والعكس صحيح.

وعلى الرغم من ثقل الأسر والتقييد على الحرية بالاستناد إلى بعض المرجعيات الإسلامية، نذكر هنا، مثلاً، حين حكم عليه بألفي جلدة بعد أن اكتشف أمره في محاولة الهروب عام 1578، إثر اكتشاف أمر الرسالة التي كان ينوي بعثها إلى حاكم وهران الإسباني، إلا أن سيرفانتيس كان يفرق ما بين الإسلام كعقيدة وممارسي هذه العقيدة باسم السياسة والسلطة.

وتبدو المرأة الجزائرية (من خلال شخصية زريدة أو زبيدة وغيرها من الشخصيات النسوية الأهلية الأخرى) واضحة الملامح في كتابات سيرفانتيس، فهو يرسم لها لوحة متكاملة متتبعاً تحركاتها اليومية وفضاءاتها الاجتماعية وأيضاً وصف ألبستها وحليها بدقة متناهية وعلاقتها بالرجل المسلم وغير المسلم.

بالعودة أيضاً إلى روايته الشهيرة "دون كيشوت"، فإن كثيراً من الأماكن المتخيلة التي يعرض تفاصيلها، هي أماكن تحيل حين التدقيق فيها على مرجعيات عمرانية وجغرافية جزائرية دون الإفصاح عن ذلك.

إننا نعتقد بأن مدينة الجزائر كانت مصدر الإلهام الأول والمركزي لتجربة سيرفانتيس الإبداعية، فمن خلال هذه العلاقة المتوترة والتراجيدية، علاقة الأسر، التي عاشها في الجزائر تشكل لديه هوس الكتابة الباحثة عن الحرية والمدافعة عن القيم الإنسانية ومفهوم الاختلاف والتعدد.

إن تجربة الأسر التي عاشها سيرفانتيس في مدينة الجزائر جعلته يتحرر من منطق المغامر في الحياة إلى المغامر في الكتابة. فكان كاتباً صنعته مدينة الجزائر بكل ما كانت عليه في نهاية القرن السادس عشر، كاتباً جزائرياً ومتوسطياً وموريسكياً وإسبانياً.

لكننا نتساءل اليوم: ماذا فعلت الجزائر لكاتبها الأول ميغيل دي سيرفانتيس؟ للأسف الشديد المغارة سيرفانتيس التي كان يمكنها أن تتحول إلى "مكة" يحج إليها عشرات الملايين من عشاق رواية "دون كيشوت" والآلاف من الدارسين والنقاد والمتخصصين في أدب سيرفانتيس، لكنها ظلت خربة تتهاوى بالنسيان وفي النسيان. لكن، فلمن تقرأ مزاميرك يا داوود؟ 

 

  

اقرأ المزيد

المزيد من آراء