يُعرّف النمو الاقتصادي بأنه ارتفاع حقيقي في قيمة ما يتم إنتاجه في البلد خلال عام عما أُنتج في العام الذي سبقه. إلا أن هناك نقداً شديداً لاستخدام هذا التعريف وطرق قياس النمو الاقتصادي من عدد كبير من الاقتصاديين وغير الاقتصاديين، خصوصاً عند المقارنة بين الدول، أو مقارنة بيانات بلد ما ببياناته في السنوات السابقة. ومن أهم هذه الانتقادات أن الحسابات الحالية لا تحسب الخسائر من الكوارث الطبيعية أو الحروب، ولكنها تحسب عملية إعادة البناء على أنها نمو اقتصادي!
وإذا كانت الدولة تعتمد بشكل كبير على تصدير مصدر طبيعي وارتفعت أسعار هذا المصدر، فإن الدولة تحقق نمواً اقتصادياً فحسب من ارتفاع الأسعار. لنأخذ جمهورية الكونغو الديمقراطية مثلاً، وهي صاحبة أكبر احتياطيات للكوبالت في العالم، الذي يستخدم في صناعة البطاريات للسيارات الكهربائية والهواتف والحواسيب وغيرها. نتيجة التطور التقني من جهة، والتحول إلى الاقتصاد الأخضر من جهة أخرى، زاد الطلب العالمي على الكوبالت، وارتفعت أسعاره، وزادت إيرادات الحكومة. كذلك ارتفعت الاستثمارات الأجنبية في المناجم. ما رفع من الأنشطة الاقتصادية في البلد. من الطبيعي أن ترتفع معدلات النمو الاقتصادي في البلد نتيجة ارتفاع أسعار الكوبالت والاستثمار في مناجمه... ولكن هذا لا يعني شيئاً للبلد إذا لم يواكب ذلك تغيرات هيكلية كبيرة. ومن ثم فإن زيادة النمو الاقتصادي قد لا تعني سوى مزيد من الأموال في أيدي فئة قليلة من الناس.
كما أن طرق الحساب هذه لا تعكس مستوى الرفاه والسعادة في البلد. فعمل الزوج والزوجة، وتوظيف مربية للأطفال، وعاملة في المنزل، وسائق للسيارة، أمور تسهم في رفع مستويات النمو الاقتصادي. فإذا تفرغ أحد الزوجين للاهتمام بالأطفال وتم التخلص من المربية والعاملة في المنزل والسائق فإن النمو الاقتصادي ينخفض، على الرغم من أن وضع الأسرة أفضل. وهناك تفاصيل كثيرة لهذه الانتقادات لا مجال لذكرها في هذا المقال.
التنمية الاقتصادية
التنمية الاقتصادية هي نمو مصحوب بتغيرات هيكلية في الاقتصاد تتضمن تغيرات في سلوك الأفراد سواء كانوا مستهلكين أم منتجين. من ضمن هذه التغيرات السلوكية تغير نظرة المجتمع لقيمة النقود، وقيمة الوقت، وقيمة الإنسان وقيمه. من هذا المنطلق، نجد تركيز الحكومات والمتخصصين على "المشاريع التنموية" لأنها لا ترفع معدلات النمو الاقتصادي فحسب، ولكنها تحدث تغيراً هيكلياً في الاقتصاد. ولكن، لا بد من التركيز على الشق الآخر، وهو التغير السلوكي الذي يأتي غالباً من طريق العلم ورفع مستويات الوعي العام.
من هنا، يرى البعض أنه يجب التفريق بين مظاهر المدنية كالبنى التحتية مثلاً، وبين مستوى التمدن المتمثل في سلوك الأفراد. وهناك تسميات مختلفة لكل منهما. ومن هذا المنطلق، فإنه من الواضح أن السياسات التنموية يجب أن تركز على التغيير الهيكلي في الاقتصاد، مع التركيز على تغيير سلوك الأفراد بطرق عدة، أهمها التعليم ورفع مستوى الوعي العام.
ويلعب الإعلام دوراً ضخماً في هذه المجالات. ما يتطلب أن يكون الإعلام في مستوى أعلى من المتوسط العام للمجتمع، ليقوم بدوره الإيجابي في التنمية الاقتصادية بحسب المفهوم أعلاه.
دور النفط
أسهم النفط في تحقيق النمو الاقتصادي في الدول النفطية، وفي تحقيق تنمية اقتصادية في بعضها. لهذا، يعتبر بعض المتخصصين أن النفط كان نقمة في بعض الدول التي تركز دوره فيها على النمو الاقتصادي، بينما كان نعمة في دول أخرى التي أسهم فيها في التنمية الاقتصادية.
وإذا نظرنا إلى الهدف النهائي من التنمية الاقتصادية، نصل إلى نتيجة حتمية، هي أن دور النفط كمصدر رئيس للدخل ينتهي مع انتهاء التنمية وتحول الدولة المنتجة للنفط إلى دول متقدمة. بعبارة أخرى، يتلاشى دور النفط في الاقتصاد ليصبح كدور أي نشاط اقتصادي في البلد.
العجيب هنا، أن مؤسسي "أوبك"، وخصوصاً الوزير الفنزويلي ألفونسو بيريز، والوزير السعودي الشيخ عبدالله الطريقي، حددوا دور المنظمة عندما كانت مجرد رؤية بـ"حماية حقوق الدول المنتجة وتحقيق سعر عادل للنفط من طريق مواءمة المعروض للطلب على النفط بشكل مستمر حتى تتخلص الدول النفطية من الاعتماد على النفط وتتحول إلى دول متقدمة". من هنا، نجد أن دور "أوبك+" منذ 2016 حتى الآن، واجتماعاتها الشهرية، ورؤية 2030 في السعودية، أمور أعادت "أوبك" إلى دورها الأصلي الذي أنشئت من أجله، وهو تحقيق تنمية اقتصادية تنهي دور النفط بتحقيقها.
ولكن السؤال المهم هو كيف يمكن أن يقوم النفط بتحويل الدول المنتجة إلى متقدمة؟
الإجابة عن هذا السؤال طويلة وخلافية أيضاً. إلا أن هناك اتفاقاً بين الخبراء والمفكرين على أن الأمر يتطلب تغيراً هيكلياً في الاقتصاد والمجتمع وسلوك الأفراد. ويتفقون أيضاً على أن المقصود بالتعليم هو التعليم "النوعي" الذي يؤهل الأفراد للإسهام في التغيرات الهيكلية وما بعدها. ومن ثم، فإن نوعية التعليم ومخرجات الجامعات تصبح المحور الأساس لهذا التحول. لهذا، فإن من أهم عوائق التنمية الاقتصادية هي السياسات التي تركز على الكم وتتجاهل النوع.
تاريخياً، أسهمت إيرادات النفط في بناء بنية تحتية ضخمة في عدد من الدول النفطية، خصوصاً في دول الخليج، كما مكنت من تحويل المجتمعات الخليجية إلى ما نراه الآن. وحولت قرى صغيرة إلى عواصم عالمية بكل ما تعنيه الكلمة من معنى. ومكنت دولاً مثل السعودية أن تكون ضمن مجموعة العشرين. هذا التحول وصفه والدي رحمه الله بقوله:
متى نهضوا، متى وصلوا، وأنّى/ لهم هذا التقدم؟ كيف ساروا؟
كأن القوم ما ساروا... ولكن/ إلى أعلى قباب المجد طاروا..!
ترى الإنجاز كالإعجاز يبدو/ وشاهده على الدنيا منار
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
إلا أن الطريق ما زالت طويلة وشاقة للتخلص من الاعتماد على النفط. وهنا بيت القصيد، والنقطة الأساسية في هذا المقال، يتردد كثيراً على ألسنة الناس في السهرات والمناسبات والمؤتمرات، وفي وسائل الاتصال الاجتماعي، أن الأمر يتطلب تنويع مصادر الدخل، وأن هذا التنويع يعني الدخول في مجالات مختلفة. هنا، تكمن مشكلات عدة، لأن تنويع مصادر الدخل لا يعني بالضرورة تنوع المجالات، ولا يعني أن الأمر سهلاً. فالطريق وعرة ومليئة بالمخاطرة، وتتطلب تغييراً في سلوك الأفراد. ويمكن للقارئ الكريم أن يستنتج أيها أصعبها!
والآن، لنتذكر الآتي، على الرغم من تربع الولايات المتحدة على عرش الاقتصاد العالمي، وكونها من الأكثر تقدماً في العالم، إلا أنها أكبرمنتج للنفط والغاز في العالم، ومن أكبر مصدري النفط في العالم. وحالياً أكبر مصدر للغاز المسال في العالم! الولايات المتحدة أكبر منتج للحنطة في العالم، ورابع أكبر منتج للقمح. وهي أكبر منتج للحوم البقر في العالم، ورابع أكبر بلد في العالم من حيث عدد الأبقار. وعلى الرغم من ذلك، فإن دور كل هذه القطاعات في الناتج المحلي صغير نسبياً.
والسؤال، ما أغلى وأثمن ما تصدره الولايات المتحدة؟ الجواب، الخبرات والمعرفة! الخبراء الأميركيون في أنحاء العالم في كل المجالات، وبرواتب ومزايا لا يحققونها حتى داخل بلدهم. ويكفي هنا أن أذكر أن الخبير الأميركي يحقق من لقاء واحد أو محاضرة واحدة ما يساوي متوسط دخل الفرد لمدة ثلاث سنوات في بعض البلاد العربية!
تصدير المعرفة يتم من طريق قبول الجامعات للطلاب الأجانب الذين يدرسون ويتدربون داخل الولايات المتحدة، ثم يعود جزء كبير منهم إلى بلادهم. الجامعات الأميركية تحقق إيرادات عالية من الرسوم التي يدفعها هؤلاء الطلاب أو حكوماتهم ثمناً لهذه المعرفة. هذه الرسوم لا تتحول إلى رواتب وأجور لهيئة التدريس وأنشطة الجامعات، ولكنها تستثمر في العقول والبحوث، التي تعزز قوة صادرات "الخبرات" لبقية العالم.
المنافع المالية هي جزء من المعادلة... فتصدير الخبرات والمعرفة يحقق منافع استراتيجية وأمنية للولايات المتحدة لا تقدر بثمن! فالأستاذ الجامعي خبير اللغات واللهجات المحلية أو أستاذ علم الاجتماع ليس أستاذاً جامعياً فحسب، ولكن بحوثه وتجاربه تستخدمان من جانب الجهات الأمنية أيضاً.
وبما أن لدى دول الخليج ميزة نسبية في النفط، فإن أي تغيير هيكلي في الاقتصاد يبدأ منه، وليس بالابتعاد عنه! بعبارة أخرى، العودة إلى الرؤية الأصلية لمؤسسي "أوبك". وهذا يعني التحول إلى تصدير الخبرات والتقنية النفطية إلى دول العالم من جهة، وجعل الجامعات الخليجية قبلة للطلاب من مختلف العالم ليتحولوا إلى خبراء في بلادهم من جهة أخرى. وقبل التحول إلى قطاعات أخرى، الأولى أن تتوقف هذه الدول عن استيراد الخبرات والتقنية الأجنبية.
ما دعاني إلى كتابة المقال هذا هو الحرب الغربية ضد النفط والغاز، التي وقعت ضحيتها الجامعات الغربية التي تحتوي على أقسام الجيولوجيا والعلوم الجيوفيزيائية وهندسة النفط. بعض هذه الأقسام أغلق، وبعضها تم دمجه مع أقسام أخرى، وما تبقى منها تم تصغيره وتحجيمه بعد عزوف الطلاب عن دراسة هذه المواد، وانخفاض الدعم المالي من الشركات، ليس بسبب انخفاض أسعار النفط فحسب، ولكن بسبب المواقف العدائية للجامعات بشكل عام للوقود الأحفوري. هذا الوضع، مع اليقين التام بأن النفط سيبقى مصدر الطاقة الأساس في العالم لعقود طويلة، يخلق فرصة للدول النفطية لتنويع دخلها من خلال النفط، وتصدير الخبراء والتقنية، بينما يخلق فرصة ذهبية لبعض الجامعات الخليجية لتحول بعض أقسامها المرتبطة بالنفط إلى مركز عالمي لبناء الخبرات.