لم يعُد سراً تمسك الإدارة الأميركية الحالية بالعودة إلى الاتفاق النووي مع إيران. فقد كانت هذه العودة جزءاً من وعود الرئيس جو بايدن الانتخابية وهو سعى ويسعى إلى تحقيقها من دون اعتبار للمتغيرات الطارئة منذ خروج الرئيس السابق دونالد ترمب من الاتفاق عام 2018.
في المقابل، بدا أن ايران هي التي تتريث ولا تستعجل العودة إلى "خطة العمل المشتركة" المتفق عليها في عهد الرئيس باراك أوباما، تارة بسبب الانتقال الرئاسي فيها وطوراً بسبب شروط مسبقة تضعها، وهي لم تُضِع الفرصة المتاحة، فاغتنمت الأشهر الماضية في تعزيز برنامجها وقدراتها النووية والصاروخية وزادت من مستوى تدريباتها العسكرية وتدخلاتها في العواصم العربية الأربع التي ادّعت يوماً أنها صارت جزءاً من مدى هيمنتها.
وقد تم ذلك كله تحت أنظار إدارة بايدن وما قدّمته من "تسهيل" لمهمة إيران عبر انكفائها حيناً وعبر تغاضيها المقصود أحياناً أخرى عن تنفيذ العقوبات المفروضة على طهران ومنظماتها في المنطقة، الأمر الذي يوجب نظرة جديدة إلى احتمالات العودة للتوافق الإيراني الأميركي وما سيعنيه بالنسبة إلى البلدان العربية ومنطقة الخليج، خصوصاً، ونوعية الصلات اللاحقة بين هذه البلدان مع إيران من جهة والولايات المتحدة الأميركية من جهة أخرى.
تحت ضجيج التصريحات والتهديدات بخيارات عدة تشاركتها أميركا وإسرائيل ودول غربية بارزة، تمكّنت إيران من زيادة نسبة التخصيب في منشآتها وصدّرت نفطها إلى دول أخرى بما في ذلك سوريا المشمولة بعقوبات أميركية، وصولاً إلى "حزب الله" اللبناني الذي صار مستورداً وموزعاً للنفط الإيراني .
وحصل ذلك خصوصاً منذ وصول بايدن إلى الرئاسة واتّباعه نهجاً مهادناً تجاه طهران انعكس حتى في طريقة تناول القناة التلفزيونية الأميركية الرسمية الناطقة بالعربية (الحرّة) للحدث الإيراني، إذ لوحظ أن تلك القناة تتجنب الخوض في التفاصيل الإيرانية وتعتمد لغة مهادنة، خصوصاً منذ تغيير رئيسها الدبلوماسي السابق ألبرتو فرنانديز الذي يُعتبر من المناهضين لسياسات النظام الإيراني النووية والداخلية والإقليمية .
على أن ذلك السلوك الإعلامي الرسمي من قناة يموّلها الكونغرس قد لا يُعتبر دليلاً كافياً.
دليلٌ آخر على سياسات بايدن الممالئة لنظام الملالي يظهر في تساهله مع نظام العقوبات الذي فرضته الإدارات الأميركية المتلاحقة على إيران. فمنذ العودة إلى المباحثات في فيينا، زادت صادرات النفط الإيراني بنسبة 40 في المئة ووصلت إلى 123 مليون برميل، ذهب أكثرها إلى الصين وسوريا.
وبحسب أرقام أوردها موقع "واشنطن فري بيكون" المحافظ، استوردت بكين 310 ملايين برميل من إيران في الفترة من يناير (كانون الثاني) إلى سبتمبر (أيلول) 2021، وكانت الإمارات وسوريا وفنزويلا وروسيا المستوردين الرئيسيين الآخرين للنفط الإيراني، وبلغت صادرات البلاد الإجمالية أكثر من 417 مليون برميل عام 2021، العام الأول من ولاية بايدن!
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
الباحثان الأميركيان أندرو تايلر وهو دبلوماسي كبير سابقاً وماريو زورغ اتهما إدارة بايدن "بالإهمال المتعمد" في موضوع تطبيق العقوبات، ويتخذان من تجربة إيران مع النظام السوري نموذجاً.
وفي مقال نشره "معهد واشنطن"، كتبا أن "إيران تزوّد علناً نظام الأسد وحزب الله… بكميات نفط تُقدّر قيمتها بملايين الدولارات. واختارت إدارة بايدن تجاهل الأمر على الرغم من أن شحنات طهران تمثّل انتهاكاً صارخاً للعقوبات الأميركية التي أعلنتها الإدارة الأميركية بهدف إيجاد حل (في سوريا) يتماشى مع قرار مجلس الأمن الدولي 2254".
في هذه النقطة، يشير الكاتبان إلى تساهل أميركي مزدوج بل مثلث: مع إيران ومع النظام السوري ومع "حزب الله" الذي تصنّفه الولايات المتحدة تنظيماً إرهابياً، ما يقود إلى التساؤل حول حقيقة سياسة واشنطن تجاه تلك الأطراف وتجاه المنطقة عموماً.
طُرح التساؤل ذاته لدى إلغاء إدارة بايدن مشروعاً أعدّته الإدارة السابقة بتصنيف الحوثيين منظمة إرهابية، ولدى الصمت الأميركي تجاه عدد من الاستفزازات الإيرانية في منطقة الجزيرة العربية، ويُطرح مع تمدد أزمات الإقليم الفرعية، حيث لإيران نفوذ وميليشيا، كما في لبنان واليمن خصوصاً، وهو ما يفرض تنبهاً عربياً لمرحلة مقبلة قد تكون شديدة الخطورة، تستوجب إعادة التدقيق في العلاقات الإقليمية، خصوصاً في العلاقات العربية الأميركية، بما يحفظ المصالح الوطنية الاستراتيجية .
لقد كانت إسرائيل الدولة الأكثر نشاطاً في التحذير من اتفاق مع إيران، لكنها كما يبدو، قررت التراجع إلى خطين دفاعيين في المرحلة الراهنة، الأول القبول بما ستقبل به أميركا راعيتها وحليفتها الاستراتيجية، والثاني الحصول على تعويضات مجزية من واشنطن .
وينطلق الإسرائيليون من قناعة توصلوا إليها مفادها بأن "الأميركيين يريدون تجاوز القضية الإيرانية كلها" وهم يفضلون "التعامل مع الصين وفيروس كورونا"، و"بما أننا لا نستطيع منع هذا الاتفاق، كل ما يمكننا فعله هو تقليل الضرر وتحقيق أكبر قدر من الفوائد والتعويضات …"!
بهذه الطريقة، تخطط إسرائيل لما بعد العودة الى الاتفاق، على قول مسؤول إسرائيلي كبير لموقع "ذا مونيتور" الأميركي، لكن من يحتاج حقيقة إلى تعويضات هم تلك الشعوب العربية التي عانت كثيراً من تدخلات إيران ومشاريعها النووية والمذهبية على وقع خصام وتفاوض لا ينتهيان، كانت نتيجتهما الملموسة حتى الآن إضراراً لا حدود له بالمجتمعات العربية وتدعيماً لا يُقدّر بثمن لنظام القرون الوسطى في بلاد فارس .