Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

جمعهم الصيام وفرقت بينهم مائدة الإفطار... رمضان بين الأغنياء والفقراء في مصر

فروق طبقية وأزمات اقتصادية تظهر خلال الشهر... فهناك من يقضي يومه على البحر وآخرون في العمل بحثا عن الرزق

يحرص بعض الشباب على تدريب "كروس فيت" يومياً قبل الإفطار بعد إنهاء أعمالهم أو محاضراتهم (رويترز)

مصمصة شفاه، وتأتأة كلمات، وحسرة في العيون مع زغللة من فرط التركيز، وتتفاقم الأوضاع، وتتواتر الحسرات مع قرب سكب صوص الجوز المذاب في السمن البلدي، والقشدة على تل الأرز المخلوط بالصنوبر والكاجو ليخرج طبق الشركسية معداً للالتهام على مائدة إحدى القنوات الفضائية قبل الإفطار بدقائق.

دقائق ما قبل الإفطار تحمل أحلاماً وردية باحتوائها شيئاً مما جاء في تلك القناة أو قريناتها. الشاشات تتسابق على تقديم أطباق رمضان الملغمة بكل ما غلا ثمنه وعزّ اقتناؤه، وطارت رائحته، واشتُهي مذاقه من شرائح اللحم البتلو بصوص الفلفل (ثمن كيلو اللحم البتلو يتعدى الـ200 جنيه مصري "12 دولاراً أميركياً"، والأرز بالمكسرات (من مئة إلى 500 جنيه، "6 دولارات أميركية و30 دولاراً أميركياً" حسب نوع المكسرات)، والكوردون بلو المحشو بشرائح الجبن السويسري والحبش المدخن وغيرها.

 

أمَّا القابعون والقابعات أمام هذه الشاشات فينتمون إلى فئتين لا ثالث لهما، الأولى تبحث عن وصفة جديدة لأكلة غريبة أملاً في التنويع، أو طريقة فريدة لتمضية ساعات الصيام حتى يحين موعد الإفطار، وتكون الطاهية، ومعها "السفرجي"، قد أعدّا مائدة الطعام. والثانية تبحث عما يشبع حواسها التطلعية، باستثناء التذوق الفعلي.

فعلياً، يبرهن اليوم الرمضاني على أن تفاصيل رمضان "الناس اللي فوق" تقف على طرف نقيض من أقرانهم "اللي تحت"، وإن جمع بينهما الصيام ووحد بينهما روتين رمضاني يُبقي على سكان الطوابق العليا في الهرم الطبقي مكانهم، ويُبقي على جيرانهم بالطوابق الدنيا في مواقعهم، بينما منتصف الهرم يتأرجح بين هؤلاء وأولئك.

أولئك الراكضون والراكضات، والمهرولون والمهرولات، والماشون والماشيات في مضمار النادي الرياضي والاجتماعي الشهير في حي مصر الجديدة الراقي بالقاهرة في سويعات ما قبل الإفطار دأبوا على ممارسة قدر من الرياضة في الساعتين السابقتين لأذان المغرب.

رمضان في الساحل

جلال، رجل أعمال خمسيني، ينهي عمله في أيام رمضان في تمام الثالثة بعد الظهر، ثم يتوجه إلى النادي لممارسة بعض المشي، ولعب التنس لمدة نصف الساعة، إن لم يكن الطقس شديد الحرارة، وفي عطلة نهاية الأسبوع يتوجه وأسرته وعائلات صديقة إلى فيلاتهم في منتجع شاطئي في مدينة العين السخنة. 

تامر، 26 عاماً، وعلياء، 24 عاماً، ومهاب، 22 عاماً، وليلى، 19 عاماً، ومجموعة قوامها نحو 20 شاباً وشابة مشتركون في تدريب "كروس فيت" يومياً من الخامسة إلى السادسة.

ينهون أعمالهم أو محاضراتهم، ثم يأتون إلى النادي للاستفادة من الوقت قبل الإفطار.

 

العشرات غيرهم من أعمار مختلفة تتراوح بين عشرة وتصل إلى السبعين يمشون أو يهرولون أو يكرضون في مضمار الرياضة، كل حسب مقدرته حتى قبل موعد الإفطار بقليل.

ولأن شهر رمضان يتزامن وفصل الصيف، فإن كثيرين ممن ليسوا مرتبطين بأبناء وبنات في مراحل التعليم المختلفة، يمضون عطلات نهاية أسبوع مطولة في الساحل الشمالي، إذ يرفعون شعار "الصوم والبحر لا يتناقضان".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

تقول فاطيما الشنواني، 54 عاماً، إنها وزوجها دأبا على قضاء عطلات نهاية أسبوع طويلة في بيتهما في إحدى قرى الساحل الشمالي القريبة من محافظة مرسى مطروح في رمضان منذ بدأ يأتي في فصل الصيف.

وتضيف، إنهما "يسافران عقب انتهاء عملهما يوم الخميس، ويعودان صباح الاثنين، ويحظيان بإجازتهما السنوية في الأسبوع الأخير من رمضان ومعه العيد، وبضعة أيام أخرى في الساحل الشمالي".

تقول، "أصبح ذلك طقساً رمضانياً ليس فقط لنا، لكن للعديد من الأصدقاء والأقارب. أمَّا الأبناء فينضمون إلينا كل حسب ظروف عمله".

العمل مع الصوم

ظروف العمل في رمضان في مصر "مرحرحة" بعض الشيء، أو ربما كثير من الشيء، والمثير هو أن القابعين أعلى الهرم، والساكنين إلى قاعدته يجمعهما البعد عن الرحرحة والحرمان من القدرة على تخفيف قدر العمل أو تهدئة وتيرته.

علي خالد، 24 عاماً، يعمل في شركة استشارات لمشروعات تنموية كبرى. يقول إن "الاختلاف في مواعيد العمل الرمضانية هو تخفيف ساعات العمل ساعة واحدة مع إمكانية البدء في السابعة صباحاً بدلاً من الثامنة".

 

الغالبية العظمى من أماكن العمل الخاصة والشركات والمؤسسات الكبرى لا تملك رفاهية تخفيف حجم العمل أو وتيرته، لأن ذلك يعني خسارة مادية، ولا يمكن تبريرها حتى وإن كان التبرير يحمل نكهة رمضانية.

الوضع نفسه ينطبق على الطرف النقيض الآخر من الأعمال، قطاعات عدة من الأعمال غير الرسمية مثل قطاع البناء لا يعترف بمسألة تخفيف العمل في شهر رمضان. محمد عاطف وزملاؤه وجميعهم في أوائل العشرينيات من العمر يعملون في تشييد مدينة سكنية جديدة متاخمة لمدينة الشروق الواقعة على طريق القاهرة السويس، يؤكدون أنهم يعملون العدد نفسه من الساعات في رمضان، كما يفعلون في الأيام العادية، ونظراً إلى أن الغالبية المطلقة منهم قادمة من محافظات بعيدة، فإنهم يقيمون في أماكن العمل.

يقول عاطف، "إقامتنا في مجال العمل تيسر علينا تغيير مواعيد العمل. فمثلاً، أحياناً نبدأ العمل بعد صلاة العشاء وحتى أذان الفجر، وذلك لأن الجو يكون أفضل، ولا نتعرض للعطش الشديد. وننام بعد الفجر. وفي أثناء النهار، ننجز بعض الأعمال البسيطة، التي لا تحتاج إلى مجهود شاق، ولدينا جهاز تلفزيون صغير نجتمع حوله حين تسمح الظروف".

مائدة الإفطار... نقطة فاصلة

يشار إلى أن جهاز التلفزيون نجح في مقاومة أعاصير التغيير، وزعابيب التحديث بشكل واضح في رمضان، فعلى الرغم من الهجمة الرقمية الطاغية، التي أتاحت شاشة في يد كل مواطن، ورغم ما يثار حول التفسخات الأسرية، وإيقاعات الحياة الحديثة بالغة السرعة، ورغم التقلبات الاقتصادية، التي أحدثت هزة عنيفة في هرم مصر الطبقي، حيث توسعات في المناطق المحيطة بخط الفقر، وتقلبات في قمة الهرم، وتشنجات في منتصفه، فإن التلفزيون في رمضان ما زال قادراً على جمع أفراد الأسرة حوله، على الأقل في الدقائق المصاحبة لانطلاق مدفع الإفطار وتناول الطعام.

لكن يبقى الطعام نقطة فارقة بين سكان الهرم في رمضان، صحيح أن بشائر الترشيد وملامح تعديل ثقافة الإفراط والإسراف تلوح في الأفق الرمضاني بشكل واضح، إلا أن محتويات الموائد تقول الكثير عن الفروق الطبقية والمعاني الاقتصادية. فالمائدة الأنيقة المرصوصة في الطابق الأول من العمارة الأنيقة في التجمع الخامس تحوي أربع قطع "ستيك" من اللحوم المنتقاة، وسلاطة الأفوكادو الصحية، وقليلا من المعكرونة بالصوص الأبيض، تسبقها شوربة الكريمة مع الفطر، وتليها أربع قطع من الكنافة بالفستق لأربعة أشخاص، تتزامن معها مائدة أخرى مرصوصة في القبو لأربعة أشخاص أيضاً تحوي قدراً هائلاً من المعكرونة بالطماطم والباذنجان المقلي والأرز الأبيض وبضعة أرغفة من الخبز البلدي مع بقايا قطائف كاذبة (أي غير محشوة) لأربعة أشخاص أيضاً هم أسرة حارس العقار.

وبين مائدة "الناس اللي فوق" وتلك "اللي تحت" ملايين المصريين في فئات وذوي قدرات اقتصادية واجتماعية متفاوتة.

 

الطبقة المتوسطة المصابة بدوخة شديدة مصحوبة بتأرجحات عنيفة في قدراتها الشرائية وإمكاناتها الرمضانية الترفيهية تشمل من يمضي نهار رمضان في العمل، ثم يمارس بعضاً من رياضة اختيارية، حيث كرة قدم في الشارع، أو تمشية حول المباني السكنية أو كورنيش النيل أو الحدائق العامة، أو أخرى إجبارية، حيث ركض وهرولة خلف أتوبيس أبى أن يقف، أو ميكروباص رفض التحميل بالأجرة ذاتها، كما تحوي من قرر أن ينفق حوافز الشركة التي صرفت للموظفين على كيلوغرام لحم كي يُفرح العيال.

الأولاد من غير القادرين على ممارسة "الكروس فيت" ساعة في النادي، أو السفر إلى "العين السخنة" في نهاية الأسبوع، أو تمضية بعض الوقت على البحر في الساحل الشمالي يمضون الكثير من الوقت لعباً لكرة القدم في الشارع قبل الإفطار، وبعده حسب جدول الامتحانات، أو عند "البلاي ستيشن" في أول الشارع، أو أمام شاشة التلفزيون بحثاً عن مباراة هنا أو مسلسل هناك، أو تجمعاً في مدخل العمارة مع الأقران انتظاراً لمدفع ينطلق وأذان يؤذن يجمع من ركضوا خلف الباص أو هرولوا في مضمار النادي حول مائدة متراوحة المحتويات، لكنها في النهاية تؤدي غرضاً واحداً لا ثاني له.

اقرأ المزيد

المزيد من تحقيقات ومطولات