Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

عندما ثأر فلوبير في روايته الأخيرة من حياة ثقافية بائسة

"بوفار وبيكوشيه" رواية موسوعية خاتمتها قاموس لم يكتمل للأفكار المسبقة

رسم يمثل بطلي فلوبير (منشورات فلاماريون)

في واحدة من آخر تلك الرسائل الكثيرة التي اعتاد الكاتب الفرنسي غوستاف فلوبير أن يكتبها إلى صديقته الكاتبة جورج صاند، أخبرها أن الكاتب الروسي الذي كان مقيماً في باريس حينها إيفان تورغنيف قد "استحلفني أن أبذل كل جهدي وبأسرع ما يمكن لكي أنجز كتابي الضخم حول أحمقيّ الظريفين اللذين قال إنهما أثرا به كثيراً، غير أن الصعوبات التي أواجهها في هذا العمل ترعبني. لكني لا أريد بأي حال أن أموت قبل أن أنجزه فهو بعد كل شيء بمثابة وصيتي...". و"الأحمقان الظريفان" اللذان يشير فلوبير إليهما هنا إنما هما الناسخان بوفار وبيكوشيه بطلا روايته الأخيرة التي تحمل اسميهما معاً في عنوانها. ونقول الأخيرة بالنظر إلى أنها كانت آخر ما كتبه صاحب "مدام بوفاري" و"سالامبو" وغيرهما من الروايات الفرنسية الكبرى. وهذا ينطبق على أية حال على الجزء الأول من الرواية حيث أن الكاتب فارق الحياة بعد إنجازه من دون أن يشتغل كما كان يتمنى على الجزء الثاني مخلفاً كنزاً من الأفكار والتخطيطات الخاصة بهذا الجزء ومن ضمنها ذلك النص البديع والذي يصل فيه الكاتب، وهو على فراش الموت، إلى قمة اللؤم والتهكم: "قاموس الأفكار المسبقة". وعلى ذلك النحو بقيت رواية فلوبير الأخيرة "بوفار وبيكوشيه" رواية غير مكتملة، علماً بأن عدم اكتمالها لا ينقص من قيمتها بالتأكيد.

كتاب الثأر

منذ صدور الجزء الأول من هذه الرواية، إذاً، عرفت كيف تحتل مكانتها في مقدمة الآداب الروائية الفرنسية في القرن التاسع عشر. ولكن كذلك في مقدمة الأدب الساخر هي التي أطلق عليها فلوبير نفسه توصيفاً يجعل منها "كتاب ثأري" من تلك الحياة الأدبية بل حتى الاجتماعية التي أراد دائماً أن يفضح "ضحالتها وصغر أهلها" بحسب ما حدد هو نفسه منذ شرع في كتابة أولى صفحاتها جاعلاً منها خامسة رواياته الكبيرة وآخرها كما أشرنا خلال ربع قرن بين 1857 تاريخ صدور "مدام بوفاري" وصدورها هي نفسها مباشرة بعد رحيله في ربيع العام 1880 عن تسعة وخمسين عاماً. ولئن كان تورغنيف كما ذكر فلوبير في رسالته إلى صاند واحداً من أول المعجبين بـ"بوفار وبيكوشيه" وستكون جورج صاند التالية فإن الكاتب غي دي موباسان سوف يكون المدافع الأول عنها هو الذي كان يقر بتلمذته على سلفه الكبير، ويعتبر هذه الرواية بالتحديد مدرسة في الكتابة والأسلوب وفي لغة عرفت كيف تنال من سخف مجتمع بأسره، هو بالتحديد، المجتمع الباريسي على رغم أن الرواية لا تدور في العاصمة بل في ريف تخيله فلوبير مكاناً للارتباط بين ناسخين فرنسيين ارتبطا من فورهما بصداقة عبرا عنها في اتخاذهما قراراً بالعمل معاً على مشروع مشترك غايته، جمع كل المعارف والمعلومات والأفكار كما كانت حال موسوعيي القرن السابق، الذين يخطرون في البال عند التعمق في قراءة الرواية. غير أن ما يخطر في البال أكثر إنما هو شذرات المفكر الفرنسي لا روشفوكو التي أوصلت التعامل مع اللغة ومعانيها إلى ذروة التهكم اللئيم، ناهيك بشخصيات رواية الإنجليزي تشارلز ديكنز "أوراق مستر بيكويك". غير أن الإنصاف يحدونا هنا إلى القول مع أول الذين تحدثوا عن "بوفار وبيكوشيه" أنها تجاوزت في مراميها ولغتها كل تلك الأعمال السابقة عليها.

مئات الصفحات من جهد مشترك

إذاً ما لدينا هنا هو ذلك الجهد المشترك الذي يقوم به المدعوان بوفار وبيكوشيه في كتابتهما ذلك النص الذي يشغل مئات الصفحات وبخاصة إذ يرث بوفار بشكل غير متوقع ثروة طائلة تأتيهما في الوقت المناسب ليخوضا مشروعهما وبالهما مطمئن من الناحية المادية، ما يسهل عليهما إنفاق كل ما يملكان من وقت ومال وجهد وطاقة لإنجازه هما اللذان نعرف منذ البداية أن كلاهما يعيش وحيدا من دون مسؤوليات أو ارتباطات وحتى من دون آفاق مستقبلية عدا تلك التي تحتم عليهما إنجاز هذا العمل الذي يأملان منه بأن يصلح أحوال الإنسانية جمعاء وأن يوحد المعارف والمعلومات في بوتقة واحدة ولكن من دون أن يدرك كل واحد منهما عمق وفداحة التناقض بين كل فكرة وتاليتها ومعلومة وأخرى حيث يمكن لأي ذي عقل راجح أن يكتشف أن كل مجموعة تلي مجموعة سابقة من الأفكار إنما تأتي لتلغيها وتفقدها معناها تماماً. ولكن مبدعينا لا يتنبهان إلى هذا الواقع بل إنهما لا ينتبها حتى إلى تلك الدهشة بل ذلك العجب الذي يصيب الناس لمرآهما معاً في المتاحف والاجتماعات الأدبية والجامعات مروراً بصرح الفكر الحر في فرنسا "الكوليج دي فرانس" و"الأكاديمية" و"المكتبات الوطنية والإقليمية" وحتى مستودعات الكنائس، وهما يتحركان كفئران المكتبات "يكتشفان" كلمة من هنا وتعبيراً من هناك فيبدوان في غمرة السعادة كل مرة غير منتبهين إلى أن كل "اكتشاف" يحققانه سيكون من شأنه أن يقضي على كل ما كانا اكتشفاه من قبل.

أمل غريب بمستقبل مشع

ومع ذلك لا يكف صاحبانا على تهنئة بعضهما البعض عند كل اكتشاف وعن تذكير كل منهما الآخر بكم أنهما سعيدان لتخلصهما عبر هذا العمل المجيد من ربقة الوظيفية المكتبية التي لا يزال زملاؤهما "يرزحون تحت وطأتها فيبقون على جهلهم وكآبتهم راضين صاغرين بحياتهم المملة"، على عكس بوفار وبيكوشيه فارسي العلم وبحري المعرفة اللذين تتفتح في وجههما يومياً آفاق لا حدود لها. ومهما يكن من أمر فإن صاحبينا ليسا على اضطرار للقاء أولئك الناس والاختلاط بهم بعد أن مكنهما ميراث بوفار من أن يشتريا دارة ريفية ضخمة راحا انطلاقاً منها يخوضان عملاً زراعياً كان يشكل حلم كل منهما منذ البداية ويجعلهما في غنى عن الحاجة إلى "الخارج" بعدما جمعا على رفوف مكتبتهما الخاصة كل ما وجداه من كتب تتعلق بالزراعة ومنها بالصناعات اليدوية ومن ثم بالصناعات المتنوعة. ولسوف تزداد حماستهما بالتدريج في كل مرة يتبين لهما فيها أن فشلاً ما قد أوقف واحدة من مسيراتهما المتعددة، فهما يدركان هنا أن الفشل لم يكن قدراً حتمياً بل هو يعود إلى جهل ما أصابهما جهل لا بد من التعويض عليه. وهكذا، مثلاً، بعد أن كانا انصرفا لفترة عن فنون الكيمياء، يعودان إليها مشترين كل ما على الأرض من كتب الكيمياء جامعين أدوات المختبرات والمواد الكيماوية مهما بهظت تكاليفها. ومن الكيمياء ينطلقان إلى الطب وعلومه بطبيعة الحال ومنه إلى الجغرافيا وعلم طبقات الأرض وهكذا.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

إيمان أعمى بالتجريب

من الواضح هنا أن بوفار وبيكوشيه لا يدركان أن الفشل المتكرر هو النتيجة المنطقية لجهودهما السائرة في دروب فوضوية متعرجة، فهما في نهاية الأمر يؤمنان بالعلم التجريبي وبخوض التجارب من دون أية مبالاة بما قد تؤدي إليه واثقين من أنهما سوف يصلان في نهاية المطاف إلى ذلك "الخير العام" الذي يتطلعان إليه. ثم من ذا الذي سوف يكون من حقه أن يحاسبهما في النهاية طالما أن كل ما يفعلانه إنما ينجزانه من أجل العلم وفي سبيل التقدم ورفعة الإنسانية؟ بيد أن الأهم من هذا هو معرفتهما، منذ الجزء الأول المنجز من الرواية بأن ثمة في انتظارهما تلك المرحلة اللاحقة التي سيمكنهما فيها من "اختصار كل ما توصلا إليه حتى الآن" في ذلك القاموس الذي تمكن مبدعهما، فلوبير، من إنجاز جزء كبير منها خلال الفترة القصيرة التي تبعت إنجازه الجزء الأول وفي وقت كان قد أنجز فيه وضع المخطط الأساسي للجزء الثاني الذي كان من شأنه أن يخبرنا عما آلت إليه جهود باحثينا الجهبذين، لكن رحيله حرمنا من ذلك للأسف. لكنه أبقى لنا ذخراً تاريخياً هو تلك الصفحات الرائعة التي تضم ما اصطلح على تسميته "أول رواية موسوعية في تاريخ الأدب الحديث" حيث وحتى من خلال خطل بوفار وبيكوشيه عرف فلوبير كيف يستعرض أحوال العلوم والمعارف في زمنه، كما أخلاق المجتمع وسلوكيات مثقفيه بشكل يدفعنا دائماً إلى التساؤل: إلى أي مستوى كان من شأن هذا الكاتب الكبير أن يوصل نصه الرائع و"بطليه" الأشوسين الطيبين لو كان قد قيّض له أن يعيش سنوات أخرى؟!

المزيد من ثقافة