بعد مخاضٍ طويل وأزمات عدة خلفتها نتائج الانتخابات العراقية الأخيرة وخسارة التيارات الموالية لإيران غالبية مقاعدها، صادقت المحكمة الاتحادية العليا على نتائج الانتخابات وردت الدعوى التي أقامها "تحالف الفتح" الذي يرأسه هادي العامري لإلغاء تلك النتائج.
وتتزايد التساؤلات بشأن المرحلة المقبلة وحراك تشكيل الحكومة بين القوى الفائزة وما إذا كانت ستفتح الباب مرة أخرى على تصعيد جديد من القوى الموالية لإيران. ويتمحور الحديث عن الخطوات المقبلة التي ستتخذها قوى "الإطار التنسيقي"، إذ على الرغم من رضوخها لقرار المحكمة الاتحادية، فإنها ربما تلجأ إلى التصعيد باتجاهات مختلفة في سياق محاولاتها تحسين شروط التفاوض داخل "البيت الشيعي" ومحاولات العودة إلى التوافق بشكله السابق مرة أخرى.
رد دعوى تحالف "الفتح"
وصادقت المحكمة الاتحادية العليا في 27 ديسمبر (كانون الأول)، على نتائج الانتخابات البرلمانية في العراق. وذكر إعلام القضاء في بيان مقتضب، أن "المحكمة الاتحادية العليا صادقت على نتائج انتخابات مجلس النواب". ويأتي هذا القرار بعد رد المحكمة الدعوى التي قدمها تحالف "الفتح" بشأن "إلغاء نتائج الانتخابات".
ويُعد قرار المحكمة الاتحادية ملزماً لكل الأطراف، فيما يجب على البرلمان الجديد الانعقاد خلال الأسبوعين المقبلين.
يأتي هذا التعقيد في المشهد العراقي نتيجة خسارة التيارات الموالية لإيران في الانتخابات الأخيرة، حيث حصل "تحالف الفتح"، الممثل الرئيس للميليشيات الموالية لإيران على 17 مقعداً بعدما كان يشغل 48 مقعداً في البرلمان السابق.
"الإطار التنسيقي" أسف والصدر رحب
منذ إعلان النتائج الأولية قبل أكثر من شهر، تقود القوى الموالية لإيران حراكاً محموماً لإلغاء نتائج الانتخابات والطعن في بنزاهتها، حيث قادت احتجاجات واعتصامات في بغداد، قرب المنطقة الخضراء، للمطالبة بفرز النتائج يدوياً.
وبعد ساعات على المصادقة على النتائج، جدد زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر، دعوته إلى تشكيل "حكومة أغلبية، لا شرقية ولا غربية"، داعياً إلى "الحفاظ على السلم الأهلي".
وشكر الصدر في بيان، صدر بتاريخ 27 ديسمبر الحالي، "كل مَن أسهم في هذا العرس الديمقراطي الوطني، لا سيما القضاء الأعلى وأخص بالذكر الأخ فائق زيدان والمحكمة الاتحادية ومفوضية الانتخابات والممثِلة الخاصة للأمين العام للأمم المتحدة جنين بلاسخارت وجميع الشركاء". وأضاف "بل الشكر موصول للشعب العراقي الذي صبر وظفر. وشكراً للمرجعية الراعية الداعية لهذا الكرنفال الانتخابي الذي يستحق منا الحمد والشكر والاحتفال".
في المقابل، وعلى الرغم من إعلان أطراف "الإطار التنسيقي" التزامها قرار المحكمة الاتحادية، فإنها أشارت إلى "تعرض المحكمة لضغوطات داخلية وخارجية".
وعلى إثر تطورات ما بعد المصادقة على نتائج الانتخابات، دعا "الإطار التنسيقي" في 28 ديسمبر، المتظاهرين المعتصمين في محيط المنطقة الخضراء والمطالبين بإلغاء نتائج الانتخابات للعودة لمنازلهم.
وقال العامري في بيان، "من باب حرصنا الشديد على الالتزام بالدستور والقانون، وخوفنا على استقرار العراق أمنياً وسياسياً، وإيماناً منا بالعملية السياسية ومسارها الديمقراطي من خلال التبادل السلمي للسلطة عبر صناديق الانتخابات، نلتزم بقرار المحكمة الاتحادية، على الرغم من إيماننا العميق واعتقادنا الراسخ بأن العملية الانتخابية شابها كثير من التزوير والتلاعب". وأضاف العامري، أن "الطعون التي قدمناها إلى المحكمة الاتحادية كانت مُحكمة ومنطقية ومقبولة، ولو قُدمت لأي محكمة دستورية في أي بلد يحترم الديمقراطية لكان ذلك كافياً لإلغاء نتائج الانتخابات، ومع كل هذا نؤكد التزامنا بقرار المحكمة الاتحادية التي تعرضت لضغوط خارجية وداخلية كبيرة جداً".
كذلك، عبرت ميليشيات "عصائب أهل الحق" الموالية لإيران، عن أسفها "لصدور قرار المحكمة الاتحادية القاضي برد الدعوى المطالبة بإلغاء نتائج الانتخابات على الرغم من كثرة الأدلة القانونية والفنية المقدَمة بحجة عدم الاختصاص".
وتابعت في بيان أن "تصرف المحكمة الاتحادية بدا متناقضاً، إذ إنها قبلت الدعوى شكلاً وهذا دليل اختصاصها، ولكنها وبعد ثلاث جلسات ردت الدعوى بحجة عدم اختصاصها، ومع تأكيدنا على أن المحكمة الاتحادية تعرضت لضغوطات داخلية وخارجية، إلا أن هذا القرار أشار وبشكل واضح إلى حقيقة وجود الخروقات التي رافقت العملية الانتخابية من خلال توصية المحكمة الاتحادية باعتماد آلية العد والفرز اليدوي في الانتخابات المقبلة وعدم الاعتماد على العد والفرز الإلكتروني لإمكانية التلاعب فيه".
شخصية رئيس الوزراء المقبل
وعلى الرغم من تراجع قوى "الإطار التنسيقي" وإعلانها الرضوخ لقرار المحكمة، فإن مراقبين كثراً يرجحون أن تستمر تلك القوى بإثارة التصعيد، خصوصاً إذا لم يتم إشراكها في حوارات تشكيل الحكومة المقبلة.
ورأى الباحث في الشأن السياسي، بسام القزويني، أن شكل التصعيد المقبل الذي قد تتخذه قوى "الإطار التنسيقي"، يتوقف على عوامل عدة أبرزها، "شخصية رئيس الوزراء المقبل وحجم المغريات التي تُمكن هذه القوى من الدفاع عن نفسها أو طمأنتها على أقل تقدير".
ورجح القزويني أن يكرر زعيم "تحالف الفتح" هادي العامري مسار عام 2018 من خلال الاشتراك مع الصدر لكن بمعزل عن بقية الأطراف الموالية لإيران. وأضاف أن "العديد من قوى الإطار التنسيقي تعلم أن أي تصعيد مخالف لقرار المحكمة الاتحادية قد يعرضها لعقوبات أممية، وفي المقابل لن تستطيع إيران الدفاع عن أخطاء بعض قوى الإطار وإبعاد العقوبات عنها كونها تعاني من عقوبات اقتصادية منذ سنوات وتحاور في فيينا من أجل التخفيف منها".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وبشأن مسارات التسوية المحتملة، أشار القزويني إلى أن "القوى الحاصلة على عدد مقاعد أكبر في البرلمان الحالي، والتي تطمح لإنجاح تجربتها قد تطمئن بعض الجماعات الخارجة عن القانون، خشية من محاولات زعزعة الاستقرار وإفشال مساعي الحكومة الجديدة"، مبيناً أن "التسوية ربما تكون من خلال إعطاء تلك القوى مناصب مرحلية".
نقل الصراع إلى مساره الحقيقي
وكانت التيارات الخاسرة في الانتخابات الأخيرة طرحت مبادرات عدة، إلا أن غالبية تلك المبادرات كانت تتمحور حول العودة إلى التوافق والمحاصصة التقليدية مرة أخرى. ويعتقد مراقبون أن الغاية الرئيسة مما جرى سواء في التصعيد الذي أثارته القوى الموالية لإيران أو الدعوى القضائية التي تطعن بنزاهة الانتخابات هي محاولة "كسب الوقت" لتسليط ضغوط ربما تؤدي إلى إعادة ترميم "البيت الشيعي" مرة أخرى والعودة إلى سياق التوافق السابق.
في المقابل، يعتقد الكاتب هشام الموزاني، أن رد المحكمة الاتحادية لدعوى "الإطار" نقل الصراع إلى "مساره الحقيقي والمتعلق بتوزيع الأدوار في الحكومة المقبلة". وأضاف أن "قوى الإطار استخدمت الدعوى القضائية كورقة ضغط وهي تدرك أن إلغاء النتائج أمر مستحيل، ولذلك حاولت كسب الوقت لإعادة الحوارات حول المحاصصة مرة أخرى".
وأشار إلى أن "الغاية الرئيسة من كل التصعيد الذي أثارته القوى الموالية لإيران ليس تغيير أو إلغاء النتائج، بل محاولات ضغط للعودة إلى الأوزان الاعتبارية للقوى الشيعية وليس الأوزان الانتخابية لإعادة تفعيل البيت الشيعي مرة أخرى كمرتكَز لاختيار رئيس الوزراء بالتوافق".
ولفت الموزاني إلى أن "الرضوخ لقرار المحكمة الاتحادية لا يعني انتهاء التصعيد"، مرجحاً أن تكون السنوات الأربعة المقبلة "حافلة بالتصعيد".
ويبدو أن طهران "تحاول التكيف مع التغيرات في قواعد اللعب في العراق" والتي من بينها إضعاف أذرعها، بحسب الموزاني الذي يوضح أن المرحلة المقبلة "لن تتوقف على تقديم التنازلات وقد تلجأ إيران إلى التضحية ببعض أذرعها". وختم قائلاً، إن "الاستراتيجية الأولى بالنسبة للتيار الصدري خلال المرحلة المقبلة ستكون احتواء الميليشيات لإنجاح تجربته، إلا أن هذا لا يعني عدم حصول صدامات متفرقة".
مسارات سياسية
وبعد المصادقة على نتائج الانتخابات من قبل المحكمة الاتحادية العليا، تتجه البلاد نحو المسار الدستوري المتعلق بدعوة البرلمان الجديد للانعقاد خلال 15 يوماً، ما يمثل الخطوة الأولى نحو حوارات تشكيل الرئاسات الثلاث.
وفي مقابل المسار الدستوري، يتحدث رئيس مركز "التفكير السياسي"، إحسان الشمري، عن مسارات سياسية عدة أمام المرحلة المقبلة، مشيراً إلى أنها ستكون "أصعب وأكثر تعقيداً من أزمة النتائج".
وعلى الرغم من إعلان قوى "الإطار التنسيقي" رضوخها لقرار المحكمة الاتحادية، يرى الشمري أن تلك القوى "ستلجأ إلى التصعيد لتحسين شروط التفاوض خلال المرحلة المقبلة". واعتبر الشمري أن تراجع قوى الإطار التنسيقي عن التصعيد "جاء نتيجة ضغط إيراني، خصوصاً مع زيارات (قائد فيلق القدس إسماعيل) قاآني المتكررة وتأثير السفير الإيراني في بغداد على تلك القوى".
ولعل ما دفع طهران إلى الضغط على التيارات الموالية لها للتراجع عن التصعيد هي "محاولات الخروج بأقل الخسائر"، وفق الشمري الذي زاد أن "إيران تعرضت لخسائر في العراق نتيجة ثورة تشرين وخسارة حلفائها في الانتخابات الأخيرة. ويبدو أنها ما زالت تراهن على إعادة إحياء البيت الشيعي مرة أخرى أو جزء منه، إلا أن هذا الأمر لن يتم إلا من خلال تنازل حلفائها عن التصعيد".
وختم الشمري بالقول، إن "الأولوية القصوى بالنسبة للقوى الولائية لا تتعلق بمشاركتها بشكل كامل في الحكومة المقبلة بقدر محاولاتها الحصول على ضمانات خلال المرحلة المقبلة بعدم الاستهداف".