Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

عندما تؤدي اللغة العربية دور الجسر بين الحضارات

ندوة أكاديمية نظمتها الملحقية الثقافية السعودية والمعهد الوطني للغات في باريس

أحد شعارات اليونسكو في اليوم العالمي للغة العربية (اليونيسكو)

يتواصل الاحتفال باليوم العالمي للغة العربية الذي حددته منظمة "يونيسكو" العالمية في الـ 18 من شهر ديسمبر (كانون الأول) من كل سنة. وكانت بعض العواصم العربية باشرت الاحتفال بهذا اليوم قبل أيام من موعده، وخصصت له أسبوعاً كاملاً، ولعل الندوة التي عقدتها الملحقية الثقافية السعودية في فرنسا بالتعاون مع المعهد الوطني للغات والحضارات الشرقية (إينالكو) في باريس تحت عنوان "اللغة العربية جسر بين الحضارات"، تعد من أهم الندوات التي تناولت قضية اللغة العربية ومشكلاتها وحضورها في فرنسا على أكثر من مستوى. وقد قدم الندوة الملحق الثقافي السعودي الدكتور سعيد السبيعي، ورسم صورة شاملة لبرنامجها وأبعادها الثقافية والتربوية، وكانت كلمة الافتتاح لوزير الثقافة الفرنسية السابق جاك لانغ، رئيس معهد العالم العربي، وهو من كبار المتحمسين للغة العربية وتدريسها ونشرها فرنسياً، وقد ألف كتاباً مهماً في هذا الصدد.

جاك لانغ وشهادة العربية

تحدث لانغ عن ضرورة تدريس "العربية" في فرنسا وكيفية تحقيق هذا المشروع والأسس التي يجب اعتمادها لترسيخه، وأعلن أن معهد العالم العربي سيباشر من خلال تدريسه اللغة العربية في منح شهادات دولية لدارسي العربية الذين ينجزون فصول دراستهم.

اكتسبت الندوة طابعاً أكاديمياً من خلال المداخلات التي تعاقب على تقديمها باحثون لأكاديميون فرنسيون وعرب، هم صوفي تادري، جان بروفو، ريما سليمان، فؤاد العروسي، جورجين أيوب ورانيا سمارة. وتعددت محاور المداخلات وتراوحت بين منهجية تدريس العربية وبعدها الحضاري والتاريخي وحضورها في فرنسا وعلاقتها بالترجمة.

 وقد تحدثت الدكتورة ريما سليمان، وهي أستاذة في مجال الأدب الحديث ومديرة قسم الدراسات العربية في المعهد الوطني للغات والحضارات الشرقية في باريس، عن "بناء القيمة الأدبية في السياق العربي"، متناولة المشهد الأدبي المعاصر الذي تسود فيه الرواية كجنس أدبي مسيطر تسهم الجوائز الأدبية في تكريس سطوته على غيره من الفنون الأدبية،

وعرضت قائمة مفصلة بأسماء الجوائز الأدبية وتاريخ إنشائها والبلدان أو الجهات المشرفة عليها وشروطها وقيمتها المالية. وذكرت أن الزخم الخليجي الراهن في هذا المجال يجب ألا يحجب تاريخ الجوائز الأدبية الوطنية التي كان يخص بها كل بلد عربي كُتابه في ما سبق، وناقشت هذا التطور من حيز أدبي وطني أو قُطري إلى نطاق عربي وعالمي أشمل.

واستعانت ريما سليمان بأعمال الناقدة الفرنسية باسكال كازانوفا التي عرفت بأبحاثها في علم اجتماع الأدب، لا سيما في كتابها "الجمهورية العالمية للآداب" الذي حللت فيه عدم تكافؤ الفرص الثقافية بين الشعوب وتحكم عدد من العواصم الأوروبية بحياة النصوص، عبر ما تمنحه لها أو تمنعه عنها من فرص الترجمة والانتشار. ودرست ريما سليمان انطلاقاً من هذه الزاوية تأثير السياسات الأديبة السخية في دول الخليج العربي في بناء القيمة الأدبية التي لا تنتج من جمالية النص وحسب، بل تكون محصلة لعملية متشعبة تتداخل فيها عوامل متنوعة، ولا يخفى طبعاً الأثر الإيجابي لهذه الجوائز من تعزيز المناخ الإبداعي العام ودعم الكتاب العرب وتشجيع حركتي النشر والترجمة. لكن هذا الوجه المشرق لا يمنع من التساؤل عن تبعات آليات الحكم والتحكيم على ماهية الأدب العربي المعاصر.

أفق التلقي

وتطرقت الباحثة إلى مسألة إعادة رسم أفق التلقي الفني وتماهي الكتاب الواعي وغير الواعي منه، مع هذا الأفق الجديد لملاءمته والانسجام معه، وتحدثت عن تدرج هذه الضغوط من الرقابة الذاتية حتى حظر بعض النصوص التي لا تحظى باستحسان الجهات المقيّمة لها، وتساءلت عن إمكان تحجيم الدور الريادي للأدب في كسر المحظورات وحرية التعبير من خلال إسقاط معايير تتحول من دورها التقييمي إلى معايير إملائية، وقد ينطبق ذلك أيضاً على معيار اختيار النص المؤهل للترجمة والانطلاق إلى العالمية الذي لن ينحصر في البعد الجمالي والفني الصرف، بل قد يستند أيضاً إلى معطيات أخلاقية أو سياسية.

وفسرت أيضاً أشكال العلاقة بين الأطراف والمركز وعملية الترجمة باتجاهيها المعاكسين، من المركز (الدول الأوروبية) إلى الأطراف أولاً ومن الأطراف إلى المركز ثانياً، بهدف "استيراد" أو نقل آثار أدبية تغني الرصيد الأدبي، ولكن هذه المقاربة، تضيف ريما سليمان، لا تنطبق حرفياً على المشهد العربي الذي عرف خلطاً كبيراً للأوراق.

وأضافت سليمان أن آليات التكريس الأدبي ومنح النصوص "مباركة" أو تزكية معينة لا تقتصر على الترجمة والجوائز الأدبية، فللمناهج المدرسية والكتب التي تدرس الأدب دور مهم في هذه العملية.

وأشارت إلى الانتقائية البالغة في وضع هذه الكتب التي تغيب كتاباً كباراً ككتاب المغرب العربي في دول المشرق وغيرهم من الأعلام الأدبية العربية، انتصاراً لبعض الوجوه الوطنية، وذكّرت بالدور الحاسم الذي يلعبه التعليم المدرسي في البلدان العربية التي لا تُقبل شعوبها على القراءة من تلقاء ذاتها، واستشهدت بمقالة يشير فيها الكاتب الإماراتي سلطان العميمي إلى ضرورة الخروج من الكتب المدرسية نحو الكتاب الكامل، "علينا ربط عملية اكتساب العلم بنشاط القراءة لدى النشء منذ المراحل المبكرة، وتفعيل ثقافة البحث عن المعلومة خارج إطار الكتب المعدة سلفاً".

الكاتب ونصه

وقالت سليمان إن هذا الاجتزاء ليس بالأمر الجديد وقد ينجم أحياناً عن رقابة ذاتية يمارسها الكاتب في حق نصه حتى يدخل به ساحة التكريس الأكاديمي والتعليمي، مذكرة بأن المويلحي كان حذف من روايته "حديث عيسى ابن هشام" (1907) مقاطع ينتقد فيها رجال الدين عندما أدرجت الرواية ضمن المقررات التعليمية في مصر، ثم أعادت المترجمة رندا صبري هذه المقاطع في ما بعد عندما نقلت النص إلى النسخة الفرنسية، ويتمثل هنا تشابك عملية خلق النص الأدبي الذي تحول في كل مرحلة مر بها، بآلية من آليات التكريس، فرضخ لإملاء البتر أولاً بحثاً عن التزكية الأكاديمية ثم استعاد قوامه بالترجمة في عملية تكريس مضادة.

وأشارت ريما سليمان إلى منحى آخر يدل على انتقائية الكتب المدرسية، وهو تغييب الأدب العامي فيها واعتبار أن اللغة العربية تنقسم إلى قسمين منفصلين، الفصحى وهي الجديرة بالاستحسان والتعريف، والعامية المحكية غير المؤهلة لدخول المناهج المدرسية، بينما يمنحنا الأدب دليلاً قاطعاً على انصهار هاتين اللغتين في سلسة متصلة يتخاطب أطرافها ويتجاذبون، فالقطيعة اللغوية وهمٌ يتناقله الكتاب المدرسي، وهو لا ينم عن واقع الإبداع الأدبي في العالم العربي.

وأنهت ريما سليمان مداخلتها في اليوم العالمي للاحتفاء باللغة العربية والذي حمل في دورته هذه عنوان "اللغة العربية كجسر بين الحضارات"، مؤكدة أن الأدب بشكل خاص جسر يصل الشعوب، بخاصة حين يظفر بالترجمة أو بجائزة أدبية تسهل وصوله إلى العالمية، وبأنه جسر بين البلدان العربية نفسها حين تتضافر الطاقات الإنسانية والمادية العربية المتنوعة لإعادة رسم خريطة أدبية ينصهر فيها كل من المركز والأطراف مع مفهومهما التقليدي، وهي أيضاً جسر للعبور نحو نمط معرفي مغاير لا يسعى إلى نيل المشروعية أو الاعتراف وحسب، بل إلى إنتاج خطاب مختلف عن الخطاب السياسي أو الإعلامي الرائج، يقود إلى معرفة حميمية للشعوب والأزمات العربية المعاصرة، معرفة أشد صدقاً ورهافة.

منعطفات ثلاثة

وتطرقت الباحثة الأكاديمية والكاتبة جورجين أيوب في مداخلتها "اللغة العربية في صلصال الزمن" إلى المنعطفات الثلاثة الحاسمة في تاريخ اللغة العربية. الأول بعد الفتوحات الكبرى في القرن السابع وقد شهد تقعيد اللغة وولادة النثر وإدماج مفردات جديدة في المعجم للتعبير عن حاجات الدين الجديد، كما شهد بخاصة ظهور اللهجات العربية العامية نتيجة التغيرات الاجتماعية. أما المنعطف الثاني فأثارته حركة الترجمات الكبيرة التي امتدت من القرن التاسع إلى القرن الـ 11، وقد جعل من لسان البدو لغة قادرة على نقل العلوم والفلسفة. أما المنعطف الثالث فقد نتج من تواصل المجتمعات الناطقة بالعربية مع الغرب، وهو منعطف أحدثه كُتاب النهضة الكبار في القرن الـ 19، وهو حاسم بالنسبة إلينا إذ سمح للغة العربية بدخول الحداثة.

ويعيش العالم العربي في بداية هذه الألفية الثالثة ، أي بعد 150 عاماً من النهضة، وضعاً لغوياً معقداً، فالمجتمعات العربية لا تستخدم لغة واحدة في تواصلاتها الشفوية والمكتوبة، ولكنها تلجأ إلى نظامين مختلفين للغة العربية، أحدهما مكتوب بشكل رئيس، مكتسب في المدرسة، يسمى العربية الفصحى، والآخر شفهي بشكل رئيس ينتقل في الأسرة، ويسمى العامية أو الدارجة أو اللهجة أو أخيراً اللغة المحكية. والنظام الشفهي يختلف بين بلد وآخر، وهذان النظامان، المكتوب والمحكي، لا ينفصلان بل يتوزعان الوظائف التواصلية في المجتمع، وغالباً ما يكونان مصحوبين بلغة هندوأوروبية ، وهي لغة المستعمر السابق، الفرنسية وبخاصة الإنجليزية،

وما ينبغي أن يحفظ من مفهوم الازدواجية هذا هو تفاعل القوى الذي يشير إليه، فالنظامان اللغويان لا يتوزعان الوظائف الاجتماعية التواصلية وحسب، بل يُنظر إليهما بشكل مختلف في المخيلة الجماعية، فأحدهما يُنظر إليه على أنه نوع "منخفض" ولا يحظى باحترام كبير، وهو لغة التبادلات اليومية، البيتية بشكل أساس، أما الآخر وهو النوع "العالي" فيعتبر مرموقاً، فهو لغة الثقافة والدين والتراث الأدبي.

الفصحى والعامية

والتحليل الموجز ​​للأسماء العربية للنظامين يؤكد هذا التباين، فمصطلح "فُصحى" يربط الصواب اللغوي بالقيمة الأدبية، وقد رافقت العبارة الحضارة العربية واختلفت مدلولاتها عبر القرون. الجذر قديم جداً وموجود في اللغات السامية الأخرى، في لغة القرن السابع، ويشير إلى ما هو واضح نقي وإلى ما لا يعاني من أي خلل أو خليط، و"لغة" في كلام القرن الثامن تعني لهجة، لا "لسان". وفصحى اسم تفضيل لفصيح، واللغة الفصحى تعني في لغة القرن السابع أوضح اللهجات.

وفي حوالى القرن الثامن ومع فقدان الشعور اللغوي والتقعيد، بدأ مصطلح "فصيح" يدل على الاستعمال الأكثر شيوعاً للقبائل البدوية التي أُخذت لغتها أساساً للعربية، وبما أن هذا الاستعمال أصبح مثالياً فقد غدا يدل على لغة نقية واضحة بليغة ومتناغمة الحروف، أما المصطلح الأكثر شيوعاً للإشارة إلى اللهجات، وهو "العامية"، فهو نسبة إلى كلمة "العامة"، وقد تغير أيضاً مدلولها عبر القرون، إذ يستعملها سيبويه بمعنى مجموع المتكلمين حين يقول مثلاً "عامة العرب"، لكن سرعان ما تغير هذا المفهوم ببروز الثنائي العامة - الخاصة، حيث كلمة العامة أصبحت ذات دلالة سلبية تعني ما ينتمي إلى المبتذل. ويؤسس الثنائي توزيعاً اجتماعياً بين عامة الناس ونخبة أرستقراطية إحدى شاراتها هي اللغة.

 وانتقتلت الباحثة أيوب الى منحى آخر في بحثها قائلة إن تاريخ اللغة يرتبط بتاريخ المؤسسات الاجتماعية الأخرى في العالم العربي، وبشكل أعم بتاريخ المجتمعات العربية، وأن ثمة ثلاثة عوامل حاسمة حددت ظهور حال لغوية غير مسبوقة، الأول العلاقة المعقدة مع الغرب، والثاني الديموغرافيا المتسارعة والهجرات الداخلية الكبرى، وتشكل مدن كبرى اختلط فيها بشر كانوا يعيشون في عزلة، أما الثالثة فالأهمية الأساسية للإعلام والثورة الرقمية خلال العقدين الماضيين.

اللغة والنهضة

لقد شهد القرن الماضي في المجتمعات العربية نشوء الحركات القومية، وشهدت نهايته أفولها وظهور التيارات الإسلامية، وفي كلتا الحالتين كانت مسألة اللغة مركزية، والنهضة الثقافية العربية التي قدمت في النصف الثاني من القرن الـ 19 الجذور الفكرية للقومية اللاحقة هي ذات شقين، لغوية وثقافية في الدوائر المسيحية في بلاد الشام (أساساً في لبنان)، ودينية ثقافية عند المفكرين الإصلاحيين المصريين، وفي كلتا الحالتين وعلى الرغم من اختلافات جوهرية بينهما وُضعت اللغة أساساً للرابط السياسي والاجتماعي وللهوية.

أحيا القرن الـ 19 اللغة أو حدثها بتوسيع معجمها، وجعل منها لغة نقاش سياسي واجتماعي، والتحديث، كأي تغيير لغوي، يعبر عن "ذهاب" اللغة إلى جمهور جديد من المتكلمين له اهتمامات جديدة، وفي الواقع كانت ثمة اهتمامات جديدة تجلت في ولادة الصحافة العربية الحديثة، وهي الرغبة في نشر المعرفة والنقاش العام وتشكيل رأي عام، لذلك لعبت الصحافة العربية التي ظهرت أولى عناوينها الخاصة عام 1850 في لبنان، دوراً حاسماً في "إحياء اللغة العربية"، إلا أن اللغة لم تكن بعد لغة الحميم واليومي، قادرة على التعبير عن تجوال الأنا ومتاهاته وعن الاغتراب والبحث عن النفس في الحياة اليومية والحروب والهجرة إلى الغرب أو الرحلات الداخلية.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

لقد أخذت الرواية ذلك على عاتقها، وهي ليست حدثاً أدبياً مهماً وحسب في القرن الـ 20، بل هي حدث لساني أساس كذلك، ويتطلب تعدد الأصوات في الرواية استخدام مستويات لغوية مختلفة وأسلوباً كتابياً وشفوياً، وأدت الرغبة في دقة الوصف، بخاصة خلال العقدين الماضيين، إلى استخدام الكلمات الأوروبية المستعارة من اللهجات والاستفادة من معجم اللهجات، واللجوء في كثير من الأحيان إلى اللهجة نفسها في الحوارات، كما شهدت الصحافة المكتوبة تطوراً مشابهاً، فانتشارها أجبرها على الاقتراب من قرائها، وكانت الإذاعة والتلفزيون بلا شك هما العاملان الحاسمان في ذلك، فقد ابتكرتا استخدامات لغوية جديدة، إذ يجب أن يكون الاتصال الشفوي رسمياً ومفهوماً.

أخيراً ثمة عامل لغوي كان ولا يزال حاسماً، وهو الدرجة المتفاوتة لاكتساب الفصحى بين الناطقين باللغة العربية، وذلك لأن مكانة الفصحى كلغة رسمية في العالم العربي لم يصاحبها أي تحسن حقيقي في تدريسها، والقرن العشرون بأكمله شهد نقاشات محمومة حول تبسيط القواعد (مقترحات قدمها طه حسين وشوقي ضيف وأنيس فريحة وسواهم)، والتي مع ذلك بقيت بلا جدوى لأنها لم تدمج في رؤية عامة.

هذه العلاقة تتجلى في أننا لم نعد نستطيع أن نفترض وجود ازدواجية لغوية في المجتمعات الناطقة بالعربية، وفي الواقع وخلال الوقت الحاضر لم يعد بإمكاننا معارضة اللغة المكتوبة واللغة الشفوية، فاستخدام الواحدة لا يبعد الأخرى، وقد غدت الفصحى واللهجة قطبين متطرفين لسلسلة مطردة يتحرك فيها المتكلم توفر له مجموعة غنية من الاحتمالات.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة