نزل السؤال عليه كالصاعقة. سكت بُرهةً، ثم نظر إلى زوجته التي بادلته الصاعقة بنظرة فاجعة... "لماذا تُنجب؟"، الرجل الجالس إلى جوار زوجته في عيادة أمراض النساء والتوليد في مركز طبي خيري في مصر الجديدة (شرق القاهرة) معهما ثلاثة أطفال، أكبرهم في السادسة، يرتعون حولهما، إضافة إلى المولود المنتظر المتضخم في أحشاء الزوجة.
تلعثم قليلاً قبل أن يقول المتوقع، "العيال نعمة ورزق. الولد سيحمل اسمي، والبنت تُونّس أمها. وهم من يسندوننا في الكبر، ويُعينوننا في المرض، ويدعموننا في العجز، و...".
وقبل أن يستكمل قائمة العون الذي سيقدمه الأبناء والبنات لهما، باغته السؤال التالي لتتحول الصدمة دهشة عميقة... "أنتما تنجبان بدائل تغنيكما عن طلب خدمات التمريض وصندوق التكافل ودور المسنين؟ ماذا عن الأبناء والبنات أنفسهم؟ هل لهم دور أو حقوق كأشخاص، إضافة إلى واجبات رعايتكما في الكبر والعجز والمرض؟".
أجاب الزوج بكل ثقة، "طبعاً، سيتم إعدادهم ليكونوا آباء وأمهات، ينجبون أبناءً وبناتاً، لتستمر عجلة الحياة، ويجد كل منهم من يرعاه، ثم إن المال والبنون زينة الحياة الدنيا، وطالما لا نملك المال، فعلى الأقل نتمتع بالبنين، ويكونون زينة لنا".
السؤال الثالث كان فراقاً بين "اندبندنت عربية"، وبين الزوجين... "ولماذا تفترضان أن يتم توريث مفهوم المتعة والزينة لهم؟ ربما يكون لهم رأي آخر فيما يمتعهم ويزين حياتهم؟!".
لماذا، وكيف يتخذ الناس قرار الإنجاب؟ وما العوامل المؤثرة فيه، أسئلة تتواتر على أذهان البعض من المهمومين بالقنبلة السكانية الآخذة في الانفجار في وجوه الجميع في مصر، وذلك كلما تطايرت شظية مليونية من عدّاد "ضخّ العيال".
عبارة غريبة
قرار الإنجاب عبارة تبدو غريبة، بل صادمة في المجتمع المصري... "ننجب العيال لأن علينا إنجابهم"، أو "ننجب العيال لأنها سنة الحياة"، أو "ننجب العيال لأن الرسول، صلى الله عليه وسلم، أمرنا بالتكاثر"، أو "ننجب العيال لنرعاهم اليوم، ويرعونا هم غداً"، أو "ننجب العيال لأن هذا ما علينا عمله"، أو "لأن هذا ما عهدنا عليه آباءنا".
قليلون فقط هم من ينجبون لأسباب إضافية غير "سنة الحياة"، أو لأن "هذه هي الحياة"، أو "لأن آباءهم، ومن قبلهم أجدادهم وأجداد أجدادهم، أنجبوا"، أو "لأن الدين ينص على ذلك"، لذلك يتردد البعض ممن يتخذون قراراً معاكساً بعدم الإنجاب، خوفاً من اتهامهم بقلب موازين سنة الحياة، أو التمرد على ما سطّره الأجداد أو مُعاداة الدين والمتدينين.
عمر وإنجي (30 عاماً)، متزوجان منذ خمس سنوات. كلاهما يعمل في وظيفة مرموقة، وكلاهما على قناعة بأنه لا يريد الارتبط بأبناء على الأقل حتى إشعار آخر. السبب كما يقولان، أن "الإنجاب هو الذي يجب أن يكون له سبب، وليس عدم الإنجاب".
بمعنى آخر، تقول سلمى، "من يقرر الإنجاب هو الذي يجب أن يسأل: لماذا اتخذت قرار الإنجاب؟ لأن ما نقرره في حياتنا، وتكون له تبعات ومسؤوليات، وتدخل فيها أطراف أخرى يجب أن يخضع للدراسة والتخطيط، ولا تترك للأهواء والصدفة وتفسيرات دينية ضيقة الأفق".
مثل الأول وأكثر
آفاق عديدة يحلق فيها ملايين المصريين ممن أخذوا على عواتقهم ضخّ ربع مليون رأس إضافية في 60 يوماً فقط... "اندبندنت عربية" حين أخبرت "أم حسين" بائعة الخضراوات في السوق، ولديها ابنتان تنتظران حدثين سعيدين، إضافة إلى مجموع تسعة أحفاد، أن سباق الأرانب فتر بعض الشيء، وأن العدّاد سجل تباطؤاً عشرة أيام ليصل إلى ربع مليون رأس الإضافية، بدت عليها علامات الانزعاج، وسألت: "ليه خير؟ الرسول، صلى الله عليه وسلم، أمرنا بالتكاثر ليُباهي بنا يوم القيامة، وأيضاً لنُرهب أعداء الله. إن شاء الله نعود مثل الأول وأكثر".
أكثر ما يلفت الانتباه في حديث ربع المليون في 60 يوماً، هو أن ربع المليون السابق له تم إنجازه في 50 يوماً ليصل عدد المصريين 102 مليوناً و746 ألف مصري ومصرية، والعدّاد ما زال يعمل بكفاءة.
في المقابل، يعتقد كثيرون أن كفاءة الإنجاب تعني سرعة الإنجاب عقب الزواج، أو الإنجاب بكثرة، أو إنجاب أطفال أصحّاء، لكن كفاءة الإنجاب بمعنى كفاءة قرار الإنجاب، ليست واردة إلا على نطاقات محدودة. محدودية النطاقات تعبر عن نفسها بصور عديدة. فحين يكتب مهندس استشاري معلقاً على خبر "ناقوس خطر الزيادة السكانية يستدعي الحذر" بأن "كل دول العالم المتقدم تعتبر الزيادة السكانية مورداً اقتصادياً واجتماعياً إضافياً، ونحن نريد أن نهدر هذا المورد بمنعه. هذا لا يصح، كما أنه حرام شرعاً".
الإنجاب "ليس" قراراً
الإنجاب في مصر في غالبية الأحوال ليس قراراً، والفتاوى المنتشرة على الإنترنت والمحرمة لتقليل الإنجاب ناهيك بمنعه، على الرغم من تواريخها القديمة، وصدور الكثير منها من جهات غير تابعة لمؤسسات دينية غير رسمية، وتعارض بعضها وما تصدره المؤسسات الرسمية من توجهات في هذا الشأن، فإنها متداولة بكثرة، ويُعاد تدويرها بسبل مختلفة عن طريق الحكي، ونقلاً عن أحدهم الذي قال إن أحدهم قرأ هذا.
ومن الفتاوى الأكثر تداولاً في شأن تحديد النسل، وكذلك تنظيمه، أن "القول بإباحة تحديد النسل مخالف للشريعة الكاملة التي جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها، ومخالف للفطرة السليمة، فإن الله سبحانه فطر العباد علي محبة الأولاد، وبذل الأسباب في تكثير النسل، وجعله من زينة الدنيا".
وتشير الفتوى التي يجري تداولها منذ سنوات طويلة بين الملايين، أن "القول بتحديد النسل مخالف لمصالح الأمة، حيث إن كثرة النسل من أسباب قوة الأمة وعزتها وهيبتها، وتحديد النسل بضد ذلك يفضي إلي قلتها وضعفها، بل إلى فنائها وانقراضها"، وأن "هذا واضح لجميع العقلاء، ولا يحتاج إلى تدليل".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
أدلة الانفجار
أدلّة مثل تآكل الأرض الزراعية المحدودة لصالح التوسع العمراني الناتج عن تفجر عدد المواليد، وعدم كفاية محاصيل حيوية مثل القمح والأرز للاستهلاك المحلي حتى أصبحت مصر من أكثر دول العالم استيراداً للحبوب، وتراجع نصيب الفرد من المياه، وتوريث الفقر، والتسرب من التعليم، وعمالة الأطفال، وتفاقم التسول، وتدني جودة التعليم، وتكدس الفصول، وصعوبة الحصول على رعاية صحية جيدة، وغيرها، لا تحظى باهتمام وتفكير الغالبية في مصر.
الاهتمام الأكبر مُنصبّ على البحث عن سبل بديلة لإطعام الأفواه المتواترة مع الشكوى من تضاؤل الفرص وعدم قيام الحكومة بدورها في الإطعام والتشغيل وإتاحة الخدمات والسلع بأسعار في متناول الأسر كبيرة العدد متواضعة الإمكانات.
يعمل محمود (45 عاماً) خياطاً نسائياً. مهموم بشكل شبه دائم... لديه من البنات أربع، ومن الأولاد اثنان في مراحل التعليم المدرسي والجامعي المختلفة. هو ناقم على الحكومة، كما يقول، فتفصيل الملابس لم يعد مُجدياً لإعالة أسرته، وبطاقة التموين لا تُتيح سلعاً غذائية تكفي الأسرة ذات الأفراد الثمانية، ولا يعتقد أن الحكومة ستوفر فرص عمل للأبناء والبنات لدى تخرجهم. أما لماذا قرر أن يُنجب هذا العدد من الأبناء والبنات، فهذا "سؤال لا يُسأل، لأنها إرادة الله".
الإنجاب إرادة الله
نموذج محمود متكرر. صحيح أن عدد أفراد الأسرة يختلف، لكن ما لا يختلف، هو إرجاع الإنجاب لإرادة الله دون كثير أو قليل من التفكير في الإنجاب نفسه.
آخرون، ولكنهم قليلون، يتخذون قرار الإنجاب بناءً على أسباب. فبين الرغبة في تأسيس أسرة، أو التمتع بمشاعر الأمومة والأبوة، والحاجة لإيجاد معنى وغاية للحياة، إضافة إلى العمل والترفيه والأكل والشرب أو عدم وجود ما سبق، يعطي البعض، لا سيما من الحاصلين على قدر وافر من التعليم الجيد الذي يسمح بالتفكير النقدي، بما في ذلك قرار الإنجاب، وهل هو قرار أم فرمان؟! جزء معتبر من قرار الإنجاب يتعلق بالجوانب الدينية والمفاهيم الدينية التي يجري تسويقها في هذا الشأن. فإذا كانت المفاهيم لا تفسح المجال لأن يكون الإنجاب قراراً من الأصل، فإن الأصل في الإنجاب للمتزوجين يكون أنه تطور طبيعي، وليس قراراً يحتمل الاتخاذ أو الإلغاء.
جزء آخر من القرار وثيق الصلة بالعوامل الثقافية. فإذا كانت الثقافة في دول غربية عدة يتسع صدرها لكتب ومقالات واستشارات نفسية وأسرية لمساعدة الأزواج والأفراد في اتخاذ القرار، فإن ثقافات أخرى مثل الثقافة العربية لا تعترف في غالبيتها إلا بقرار المباعدة بين الإنجاب والآخر أو تحديد الإنجاب، أما الإنجاب في حد ذاته فهو تحصيل حاصل، ولكن دون ذكر الأسباب.
الإنجاب غير أخلاقي!
ضمن الأسباب التي يذكرها متخذو قرار عدم الإنجاب أن إنجاب طفل جديد إلى هذا العالم مسألة غير أخلاقية، سواء للطفل الذي يتم الزجّ به في عالم شديد الاختلال بالغ الخطورة، أو للكوكب الذي لم يعد يحتمل قادمين جدداً، أو للبشرية التي يجب أن يضحي بعضها عبر التوقف عن ضخّ مزيد من الأطفال، ليتمكن الباقون من البقاء على قيد الحياة. وهناك من يرى أنه لن ينجب أطفالاً إلا إذا أراد الزوجان أو الشريكان أن يفعلاً ذلك في وقت ما.
المثير أن عديداً من استشاريي الصحة النفسية والعلاقات الأسرية يقدمون خدماتهم الإرشادية للأزواج والزوجات لمساعدتهم على اتخاق قرار الإنجاب من عدمه بناءً على جلسات مشورة وتحليل نفسي.
ويشار كذلك إلى وجود حركة تدعم الأزواج والشركاء غير الراغبين في الإنجاب، وتسمى "بدون أطفال"، أو "منزوع الأطفال". اتجاه آخر مزدهر، وهو التبني بديلاً عن الإنجاب، وله أسباب عديدة تتراوح بين المساهمة في تخفيف حمل الأطفال عن العالم وهدم ضخّ مزيد منهم، بالإضافة إلى إنقاذ أطفال في مناطق، أو لدى أطفال أقل حظاً، وأوفر ضخاً للصغار.
ومع تسارع عدّاد السكان في مصر، الدولة العربية الأعلى تعداداً، والأكثر ازدحاماً، لا يتوافر الوقت الكافي أو المناخ المواتي للغالبية لتفكر إذا كان الإنجاب قراراً أو فرماناً، وهل القوة تكمن في طريقة اتخاذ القرار أم في حساب عدد الصغار.