Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"غودو" كمال أبو ديب يصارع بيكيت وبريخت مسرحيا

نصّ "يُمَسرح" الوجود والعدم بين الماضي والرّاهن بالأسئلة والتأمّلات الفلسفيّة

الناقد والشاعر السوري كمال أبو ديب (صفحة الكاتب على فيسبوك)

يتشكّل النصّ المسرحيّ "أربعة وجوه لـ"غودو" ووجهان لـ"إلدا"، للناقد كمال أبو ديب، ضمن سياقات ومضامين وأشكال عدّة، يجتمع فيها العبثيّ بيكيت مع الملحميّ الواقعي بريخت، مع رمزيّة مشوبة بمقدار من الغنائية والشاعرية والشفافيّة على رغم القسوة. وهذه كلّها تلتقي لتقدّم عملاً دراميّاً بمواصفات وعناصر جماليّة وفكرية وفلسفيّة ولغويّة عالية القيمة، من ناقد قدّم الكثير في مجاله النقديّ، خصوصاً منذ عرفه جيل الستينيات وجيل السبعينيات من المثقفين والمبدعين العرب من خلال كتابَيه الأبرز "رؤى مقنّعة" و"جدليّة الخفاء والتجلّي: دراسات بنيوية في الشعر"، هذا فضلاً عن أعمال شعرية، وترجمات مميّزة، خصوصاً ترجمة كتاب "الاستشراق" للناقد والمفكر الفلسطيني الأميركيّ إدوارد سعيد.

وسواء تعلّق الأمر بالشعر أو بنقد الشّعر، أو بهذا النصّ المسرحيّ، فإن كمال أبو ديب يُعنى إلى حدّ كبير بالصّورة، ذلك أنّها تعمل، وبحسب رؤيته لها "على مستويين من الفاعلية؛ هما المستوى النفسي والمستوى الدلالي، أو الوظيفة النفسية والوظيفة المعنوية". لذا نراه هنا، مع "غودو"، يركّز بشدّة، جنباً إلى جنب اللغة، على التصوير والمشهدية والحركة، حركة الجسد عموماً، وملامح الوجه وتفاصيله خصوصاً، لما لهذه الحركة من دلالات عميقة في رسم الشخصيّة وتعبيراتها بالكلمة والحركة.

بين بريخت وبيكيت

في نصّه المسرحيّ هذا (دار فضاءات، عمّان، 2021)، يقارب أبو ديب أسلوبين مسرحيّين هما على قدر من التباعد، على رغم التقائهما حول هدف فنيّ وموضوعيّ في الكثير من النقاط. إذ كيف يلتقي العبثيُّ الوجوديّ صموئيل بيكيت مع بريخت الماركسيّ فلسفيّاً وسياسيّاً؟ إنه لقاء الفنّ والجمال الذي أسّس له كلّ منهما بأسلوبه ولغته وتقنياته ورؤيته الخاصّة إلى الوجود. وهكذا، فالجمع بينهما، بين أسلوبيهما وعوالمهما، هو ما خلق أنموذجاً خاصّاً من خلال هذا العمل الفذّ على غير صعيد، وجوديّاً وفكريّاً- سياسيّاً، وإنسانيّاً، وإلى ذلك فنيّاً وجماليّاً.

يبدأ أبو ديب النصّ من حيث لا يحتسب القارئ، وبِنيويّاً هو لا يبدأ من حيث بدأ "غودو" ببطلَين ينتظران "المُنقذ/ المُخلّص" تحت شجرة عارية- خريفيّة. أبو ديب يبدأ من مشهد حِواريّ، بداية أولى، يتحدث فيها رجل لامرأة عن مسرحية كتبها وضاعت، مسرحية ممسوسة تشبه مسرحية بيكيت "غودو" عن شخصين يتحاوران "حِوار الطُّرشان"، لكنّه (المؤلّف) يركز على العلاقة بين اسم المسرحية بالإنجليزية (Waiting for Godot)، والمنقذ المفترض هو Godot، والاسم يشبه اسمَ الله الخالق بالإنجليزية God، متسائلاً إن كانت ثمّة علاقة بين الاسمين  GOD/GODOT؟

المشهد الثاني (البداية البديلة)، مشهد عاطفيّ (إروتيكيّ)، يربط المؤلّف بينه وبين قصيدة إروتيكيّة أيضاً، لشاعر تعتبر قصيدته "يتيمة الدهر" فهو لم يقُل سواها، وقد اختلفت مصادر الأدب في اسمه وبلاده، بين من قال إنّه دوقلة المنبجيّ (نسبة إلى منبج- سورية)، ومن قال إنّه علي بن جبلة، أما القصيدة المعنيّة فمن أبياتها الأبرز:

فإذا طعنتَ طعنتَ في لبدٍ

وإذا سَلَلْتَ يكاد يَنْسَدُّ

وهو البيت الذي حوله يدور حوار صريح بين الأستاذ الدكتور كمال من جامعة أكسفورد (وهو اسم المؤلّف الذي سيتكرّر في النصّ) وبين الأستاذة الدكتورة إلدا، حول شعورها الشَبِق مع هذا البيت، وعمق تصويره للحظات العلاقة الحسّيّة بين رجل وامرأة، ووصفاً تفصيليّاً لجسد هذه الأنثى، وهي لا تتورّع عن التعبير عن هذه اللحظات بأوضح ما يكون التعبير. لكن، ما علاقة هذا المشهد بـ"غودو"؟ هذا ما سيتّضح في النهاية، فقد رسم أبو ديب منذ البداية وجهاً من "وَجْهَيْ" إلدا، وسنرى وجهها الثاني في المشهدين الخِتاميّين. وأقول "حوار صريح"، لأنّ المؤلف وضع هامشاً يقول فيه عن أحد المشاهد إنه "قابل للتعديل لحجب ما لا يمكن إظهاره في بلد ما".

حوارات مطوّلة

ومع ما يشبه المَيل إلى "المسرح الذّهنيّ"، نتوقّف لنقرأ حوارات يطول فيها النقاش، ويطول عرض الرّأي والرأي المقابل، وربّما لا يحتمله نصّ يرتجي صاحبه عرضه على خشبة وأمام جمهور متنوّع المستوى والثقافة. في هذا الإطار نشهد، في وجهٍ من وجوه غودو الأربعة، تحوّله إلى ما يشبه السّمسار الكبير، يفاوض أصحاب الأرض والبئر التي تم سلبُها من قوى غامضة، ويحاول تقديم عروض مالية كي يَنسوا أرضهم، ويتحدّث كوسيط بينهم وبين "المُغتصِب"، واعِداً بأن هذا الأخير سوف يستثمر الأرض وثرواتها، وسوف يستفيدون هم من هذا الاستثمار، بل الاستعمار كما يتبدّى في الصورة التي يرسمها غودو له.

هنا، وعلى رغم القليل من الحركة، يتراجع التصوير والمشهد لصالح الكلام المكرور أحياناً. كلام عن تحسين الاقتصاد والعيش المشترك بـ"سلام وأمْن". لكن التكرار هنا يبرز أهمية هذا "الوجه" من وجوه غودو، ورمزيّته التي تحيل على الاستعمار، وعلى كيان "دخيل" هو الذي يهيمن على كل شيء، خصوصاً أن "وعد" غودو يتعلق بضرورة الانتظار- انتظاره عند الشجرة "الزّرقاء" التي لا وجود لها. وهو وعد يمنح "الأمل" للصديقين "اللدودَين" إن أمكن القول، الأمل بالخلاص، حيث الانتظار بلا جدوى، بل هو انتظار للهباء. هذا من جانب، ومن جانب آخر فإن الانتظار يجعل هذين الصديقين يتعلّقان بالوهم، الأمر الذي يثير الخوف، ويجعلهما في خلاف دائم، ويقودهما إلى التفكير بالانتحار. وهذه المشاهد تشير بالتلميح والتصريح إلى "النضال والمقاومة" بدلاً من الانتظار القاتل.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

هذا جانب من جوانب غودو ووجوهه. أمّا إلدا، الأستاذة الجامعية القادمة من إحدى جامعات النرويج، فقصّتها تجعل للمسرحيّة بُعداً آخر. فهي بعد أن تنتهي علاقتها مع أستاذ جامعيّ (نفيل)، لأسباب توضحها الحوارات، تبدأ علاقة مع أستاذ جامعيّ آخر (كمال)، وتخوض في حوارات (بعضُها مكرّر بطريقة ما)، حول ثنائية ذكورة/ أنوثة، وما يحقّ للرجل ولا يحقّ للأنثى من وجهة الرجل عموماً، والرجل الشرقيّ خصوصاً، من منطلقات يعتبرها الرجل الذي يحاورها خروجاً على منطق المجتمع الذي تعيش فيه، شرقيّاً كان أم غربيّاً، ففي حين تعتبر هي أن من حقّها إقامة علاقة عاطفية وجنسية خارج إطار علاقتها الشرعية اجتماعيّاً، لأنها ترى أنّ رجلاً واحداً لا يكفيها، وأنّ كل رجل يقدّم لها ما لا يقدّمه بقية الرجال. لذا فهي في حاجة إلى الرجال جميعاً"، فيوقفها الأستاذ كمال أمام المنطق الذكوري للمجتمع، ومنطق الرجل/ الذكر الغريزي في الهيمنة وفرض السلطة، خصوصاً على المرأة التي "تخصّه".

مسرحيّاً، ولجهة الجوانب الفنية، ربّما كان طرح القضايا على هذا النحو من النقاشات المطوّلة والمباشر، يُضعف جماليّات العمل، أو يأتي على حسابها، ولمصلحة الصوت "الأيديولوجيّ" في النصّ الذي قلنا إنه يحوي الكثير من هذه الجماليّات مع الفكرة والمضمون. وفي هذا السياق يجدر تناول جانب من ملامح التجديد يشتغل النصّ عليه، في ما يتعلّق بالنّقلات الدراميّة، في الحدث الأساس، والتحوّلات التي تطرأ على سياقاته، فهي نقلات وتحوّلات ومفاجآت تنتمي إلى فكر المؤلّف ومواقفه من الحوادث الجارية في عالمنا اليوم. وعلى رغم أنّ القضيّة "المركزيّة" في النصّ تجمع بين قضيّتين "مركزيّتين" هما التحرّر والتقدم/ التطوّر، فضلاً عن قضايا تتشابك معها، إلّا أنّ الحدث الرئيس يبقى هو "الانتظار" ومسبّباتُه وما ينجم عنه من المآسي.

أسئلة وتأمُّلات

ربّما كان أبو ديب، بفكره ووعيه المتقدّمين وثقافته العالية، وتجربته في الحياة، أراد القولَ إن من الصحيح اعتبار أنّ الحياة عبثيّة حدّ الجنون والانتحار، وأنّ الوجود هو، في وجه من وجوهه، سؤال من أسئلة العدم، فيربط بين العبثيّة والوجود، كما يربط الوجود بالعبث. لكنّه وعبر هذا النصّ يؤمن أنّ هذه الاعتبارات لا تدعو إلى الاستسلام واليأس الذي ينقاد إليه بطَلا العمل وهما بلا أسماء، ليؤكّد أنّ العبث لا تتمّ مقاومته بالعبث أو العبثيّة، ما يضع القارئ أمام سؤال المصير الذي واجهه كلٌّ من "أبطال"، من واقعيّين وحالمين وواهمين، من عبثيّين وساخرين ومستسلمين؟

هل نحن إذن حيال "المُضحك- المُبكي"، في نصّ يبدأ ببدايتين، وينتهي ويغلق ستارة أكثر من مرّة؟ هل هو يقول لنا إن لا نهاية "حقيقيّة" ما دمنا ننتظر الوهم والخرافة والأمل الذي لا أمل فيه لينقذ نفسه، فكيف يُنقذ البشرية؟ يمكن القول "نعم" إنّه سؤال البشر منذ بدء الخلق حتى اليوم. ويمكن القول إنه سؤال "الرّاهن" حول من هو "غودو/ المُخلّص"؟ هل عيسى المسيح كما يرد في بعض سطور النصّ؟ أم "الأعور الدجّال" كما في سطور أخرى؟

نحن حيال نصّ ناضح متعمّق في أسئلته وتأمّلاته، لكنّنا نظلّ نتساءل، مع المؤلّف وشخوصه، إن كنّا في "المسرح" الواقعيّ، أم في الواقع "المُمَسرحْ"؟ إنه سؤال قارئ استطاع أن يطرح بعض الأسئلة حول (بعض) ما ينطوي عليه نصّ كمال أبو ديب من أسئلة، فهل نحن مع بريخت أم مع بيكيت؟ أم مع أيّ منهما؟ وما البديل؟ بل "ما العمل" كما تساءل لينين قبل ما يقارب مئة عام من اليوم؟ وأختم بالسؤال "هل ننتظر "المهدي المنتظر" الذي يأتي فيكون مجيئه منبعاً للخيبة والجريمة والاغتصاب"، كما في نصوص بعض الديانات والمذاهب؟!

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة