Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

وجدي معوض يواجه الحرب ليستعيد أمه مسرحيا

عرض باريسي تشارك فيه عايدة صبرا مجسدة معنى الأمومة المغتربة

وجدي معوض وعايدة صبرا في مسرحية "أم" (مسرح لا كولين ، توينغ- في غوين)

يقدم المخرج والكاتب المسرحي اللبناني - الكندي، المقيم في فرنسا، وجدي معوض، عمله المسرحي الجديد، بعنوان "أم"، وهو عمل مسرحي يعرض على خشبة المسرح الوطني الفرنسي في كولين، والذي عُيّن معوض مديره منذ عام 2016. وتأتي مسرحية "أم" التي ستعرض حتى نهاية العام الحالي (نهاية ديسمبر/ كانون الأول 2021)، بمثابة جزء جديد من أجزاء خماسية معوض حول الأسرة، والتي يروي فيها قصة عائلته وهجرته من لبنان، وتوجهه إلى فرنسا أولاً، ثم كندا، ففرنسا من جديد. ومعوض الذي يعرف عنه تأثره بالميثولوجيا الإغريقية وتشبّعه منها، يتجه اليوم نحو السيرة الذاتية مركزاً على الذاكرة والهوية والعلاقة بالماضي وبالأم وبالوطن. ويختار معوض الممثلة اللبنانية الرائعة عايدة صبرا لتجسد دور الأم بكل حرفية وإتقان، وإلى جانبها أوديت معلوف بدور الشقيقة وتيو عقيقي بدور وجدي معوض في عمر السنوات العشر والصحافية البلجيكية كريستين أوكرينت بدور مذيعة الأخبار. فيقدم هؤلاء جميعهم أداء جميلاً وواقعياً وصادقاً يتمكن من إقناع الجمهور بقسوة الموقف وحساسية الهجرة والتوتر والقلق الناجمين عنها.

وفي عمل ذاتي يستعيد فيه معوض سنواته الخمس الأولى في المهجر الباريسي، نراه ينقل لجمهوره في ساعتين وعشر دقائق تفاصيل حياته في عمر السنوات العشر مع أمه وشقيقته وإقامتهم في الدائرة 15 من باريس، إنما من دون والده "عبدو"، الذي بقي في بيروت حرصاً منه على بيت العائلة والمستودع والأعمال إبان الحرب اللبنانية. ولا يبالغ من يجد في هذه المسرحية عملاً ذا رائحة ومذاق ولغة لبنانية. فوجدي معوض الذي ما فتئ يراوغ جمهوره ويفاجئه وينصب له الأفخاخ، ارتأى في عمله هذا أن يختار اللغة اللبنانية البيضاء لغة العرض وليس الفرنسية كعادته في ذلك، كما اختار أن تكون الأم (عايدة صبرا) منغمسة طيلة العرض في الطبخ، بين تبوّلة وكبّة وورق عنب وغيرها، تهز روائح المطبخ اللبناني كيان الجمهور، وتكاد تجعله يتذوق طعم البيت اللبناني وطعم الحياة اللبنانية من يدي الأم، وكأن تحضير الطعام وظيفة الأم الأولى، ملتصق بهذه الأم اللبنانية، حتى وهي متوترة ومنهارة في بلاد المهجر: بلاد المنفى واللجوء والهرب من الموت والوحشية.

المسرحية ذاكرة

يظهر وجدي معوض المخرج الخمسيني طيلة العرض، فهو يدخل خشبة المسرح ويغادرها بهدوء ولا مبالاة وكأنه يذكر الجمهور أن هذه المسرحية هي ذاكرته، وأنه هو الذي يتذكر، وهو الذي يروي، وهو الذي يقرر كيف سيتطور الأمر بأسره. حتى إنه لا يتوانى في تغيير أماكن الأشياء على المسرح، أشياء قليلة ككنبة وطاولة طعام وتلفاز وهاتف... ديكور داخلي لبيت بسيط يتحكم به وجدي معوض المخرج، ويغيره بين المشهد، والآخر ليؤكد للجمهور أنه حر في تذكر ما يشاء كيفما يشاء.

يختار وجدي معوض الخمسيني في رمزية متوهجة، أن يعيد أيضاً إحياء أمه جاكلين ليكمل حديثه معها، حديث لم يكن ليجريه معها، وهي بعد على قيد الحياة، لأنها أم لبنانية، أم غاضبة متوترة قلقة هستيرية، أم تحمل همها، وتتحمله، وتحتويه. وفي مشهد مُوازٍ بالغ العمق والحزن والرمزية، يستعيد وجدي معوض ذكرى أمه في أيامها الأخيرة عندما تطلب منه أن يفرك قدميها، فهي لم تعد تشعر بهما. فيأتي وجدي معوض الخمسيني، ووجدي معوض الطفل، ليدلكا معاً قدمي الأم. يدلك الاثنان معاً هاتين القدمين اللتين هربتا، وهاجرتا، ونُفيتا، وحملتا الحقائب والهموم والأحزان. لم يختر معوض أن يأتي ألم الأم من قدميها بشكل اعتباطي، أراد الألم آتياً من القدمين وكأنه آتٍ من الرحيل نفسه.

الحرب هذه الآلة الطاحنة

جسّدت "أم" وجدي معوض حسرة كل لبناني اضطر إلى مغادرة وطنه جرّاء الحرب، جسدت التوتر والقلق والهلع لدى كل مغترب بقي معلقاً بوطنه على الرغم من أنه هرب منه، جسدت الخسارة والمعاناة والحزن في قلب كل أم حملت همّ أبنائها وزوجها ووطنها على كتفيها، جسدت الخسارات الكثيرة والعميقة التي لا يتحدث عنها أحد في نشرات الأخبار، جسدت الإعلام الغربي الذي اتّشح باللامبالاة والهدوء إزاء الوحشية الواقعة. وسائل التواصل الموظفة في هذا العمل تعمل جميعها لنقل معلومات من بيروت ولتقديم أخبار الحرب والقذائف فيها، من التلفزيون إلى الهاتف فالراديو، توقع دائم للأسوأ وانهيارات صغيرة تعزز مشاعر القلق والتوتر والمعاناة.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

نجح معوض مرة جديدة في التعرض لموضوع الحرب بقسوتها ووحشيتها وقدرتها الهائلة على احتكار العواطف والأفكار، وكأنها كآلة طاحنة تهرس على حد سواء من يواجهها ومن يهرب من أمام وجهها، فلبنانيو الداخل ولبنانيو الخارج خاسرون جميعهم على حد سواء. خاسرون أينما كانوا ومهما هربوا. يتحدث الإعلام عن أعداد القتلى وعن اجتماعات رجال السياسة وتجار الأسلحة، يتحدثون بالأرقام والنسب ثم يغيرون الموضوع ليتحدثوا في شأن آخر، إنما المهاجرون، أولئك الذين يتنقلون من مكان إلى آخر بحثاً عن الأمان، أولئك الذين اهترأت أعصابهم وهم ينتقلون من الهاتف إلى الراديو فالتلفزيون بحثاً عن أي خبر وأية معلومة، فمن يذكرهم؟ وهل من خلاص لهم؟

في حديث أجريناه مع عايدة صبرا تحدثت الممثلة الكبيرة عن التحضيرات وعن العلاقة التي كان لا بد من أن تخلقها مع شخص الأم لتتمكن من أداء دورها، فقالت: "بدأت التحضيرات لهذا العمل في الصيف، منذ شهر سبتمبر (أيلول) تحديداً. لم يكن هناك نص في الأساس، فقد تطورت المشاهد مع التقدم في العمل، واكتمل النص بالتدرج. هذه هي طريقة وجدي معوض في الكتابة والعمل، فلا شيء ثابت، ولا نص متحجر. يملك معوض حالة من التمرد على نصه، فهو يحفر في النص وفي الممثل ليخرج الأفضل من الاثنين. أقمنا مع معوض نوعاً من المختبر التمثيلي لمدة ثلاثة أسابيع، أعطانا فيه معلومات كثيرة عن والدته وعن عائلته، حتى إنني تكلمت مع شقيقته وقابلتها في مونتريال لأقترب أكثر من شخص الأم. قدم لنا معوض معلومات عن حياته مع عائلته وشبعنا نوعاً ما بالتفاصيل التي ساعدتنا لنقدم هذا العرض".

أم وجدي

وتكمل صبرا متحدثة عن دور الأم قائلة: "أم وجدي تشبهني، وتشبه كل أم لبنانية. ربما ليس بهذا التوتر المبالغ به الذي أقدمه، إنما ليس الضغط والقلق بغريبين عن أي أم لبنانية. أنا شخصياً أعشق الشخصيات الصعبة التي تخلق تحديات وتحمل طبقات نفسية مركبة، وهنا انتقلت الأم من لبنان: مرادف الوطن والانتماء والهوية والاستقرار والحياة العائلية إلى بلاد الهجرة، فسكنتها حالة رعب وتوتر وقلق وتوجس. تزعزعت دواخل الأم نتيجة لحالة اللاثبات واللاانتماء، وباتت امرأة منهكة الأعصاب على شفير الانهيار في كل لحظة. ومع بقاء الزوج في لبنان نتيجة لظروف قاهرة، تولدت في الأم حالة معاناة نفسية وتوتر دامت طيلة سنوات هجرتها، فقد جاءت إلى مدينة لا تشبهها لا بالتقاليد ولا بالمعتقدات ولا باللغة ولا بالتحرر ولا بالأفكار... إلخ، ثم وجدت أن أولادها راحوا يتشربون هذه الثقافة الجديدة، وراحوا يبتعدون عن ثقافتهم الأم على الرغم من أنها حاولت محاربة ذلك بقدر ما استطاعت".

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة