Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

وجدي معوض يمسرح انفجار المرفأ نصا وصوتا عبر أون لاين

شارك في مهرجان بيروت بنص مأسوي وبجرأة مستخدما تقنية النباح

المسرحي وجدي معوض اللبناني الكندي المقيم في فرنسا (ويكبيديا)

لم يعد هنالك أي شيء يُنطق، إلا النباح الذي يأتي عندما يرمي فائضُ العنف اللغة في متاهة الغضب والحرائق. لفظ المسرحي اللبناني الكندي المقيم في فرنسا (مدير مسرح لا كولين) وجدي معوض جملته الأخيرة التي كان يقرأها عن حاسوبه، طرَف بعينه كأنه أغلق الستارة على قساوة هذا العالم، رجع قليلاً إلى الخلف ثم ضغط على أحد مفاتيح الحاسوب. الشاشة الآن سوداء. فيديو يمتد دقائق حيث يرى المشاهد وجدي ينبح لدقائق خلف باب خشبي قديم. لم يتحدث وجدي معوَّض لأكثر من عشر دقائق في إطلالة افتراضية له ضمن الجزء الثاني من مهرجان ربيع بيروت  الذي تحييه مؤسسة سمير قصير.

تلا نصه في بث مباشر على فيسبوك، عرض مقتطف، فيديو عواء الكلب الخاص به واختفى، تاركاً المديرة التنفيذية للمهرجان رندة الأسمر (ترجمت النص وتشرته على فيسبوك) في حالة تأثرٍ حاولت ضبطها قدر الإمكان. نص معوّض لا يبتعد عن كونه نصاً أدائياً، فيه من التكثيف ما يستحضر لحظاتٍ تذكّر بعروضه السابقة. لربما كتب ما كتبه استجابةً للحظة الآنية التي تحتّم غيظاً يستجيب لكل التطورات الحاصلة، وكان آخرها تفجير الرابع من أغسطس (آب). إلا أن هذا الغضب والحنق اللذين يبلغان أقصى مداهما بالعواء، لهما امتداد قد يعود إلى مسرحيته الأولى التي كتبها في سن الحادية عشرة وسماها "القمامة".

بهذا المعنى يتماهى وجدي معوّض في نصه مع حدث التفجير. ما انفجر فينا في بيروت لم يكن نيترات الأمونيوم المخزن في موقعٍ مجاور لمفرقعات مكوّمة أو لمواد متفجرة أو لعوامل خارجية غير معلومة أو مطموسة المعالم، ما انفجر فينا هو سنوات من الفساد ومن الإهمال ومن التحاصص الطائفي لمنظومة أخطبوطية كانت السبب الأساس لهجرة وجدي معوَّض وعائلته من لبنان إلى فرنسا عام 1978. وكما استحق تفجير بيروت رمزية فساد السلطة يستحقّ نص معوّض الأخير رمزية الانسلاخ الناتجة عن تلك اللحظة الفاصلة في حياته وعمّا رتبته تداعيات الحرب على فتى مهاجر، وآثارها في تشكيل هويته وما نتج عن ذلك من محاولات التصالح المتعددة مع جذور ليس سهلاً التخلص منها، كما ليس يسيراً البحث عن جذور أخرى.  هذا العنوان العريض بتيماته ورمزياته المتعددة يبلغ حضوراً كبيراً في عدد كبير من أعمال معوّض المسرحية.

المنفى يبدأ من الحنجرة

استهلّ معوّض كلامه كأنه شاب مجهول يقوم بالتعريف عن نفسه على الرغم من أن رندة الأسمر كانت قد قامت بتلك المهمة باحتفاء كبير. "اسمي وجدي. وجدي معوّض وأنا أعيش في باريس". هكذا قال. كأنه بذلك يحصي مسافات البعد عن أهل بلده ويحيل سامعه إلى درجة من الغربة التي يقرّها كفعل تكفير عن ذنب سيُظهره على جرعات. بعدما ذكر الظروف التي دعت إلى كتابة نص بطلب من مؤسسة سمير قصير، انطلق معوّض شيئاً فشيئاً بخطابه الذي ضمنّه أبعاداً سياسية لا تبدو صعبة التفكيك. بالنسبة إليه، دعوة مهرجان ربيع بيروت كانت كافية للتذكير بأهمية أن نكون "بعضاً مع بعض" أو كما قالها بالعامية "نكون مع بعض". ليس في ذلك بحث عن أيجابية ما، بل لأنه في بلاد كبلادنا يبدو هذا الفعل الجماعي أحد أكبر تابوهات الشعب اللبناني. "نكون مع بعض". تلك هي الكلمات العربية الوحيدة التي لفظها معوّض. هنا يبدأ مسار الذنب الذي عبّر عنه كاتب رباعية "دم الوعود"، ذنب قراءة نص بلغة غريبة عن لغة أهله: "المنفى ليس فقط نتيجة الجغرافيا، المنفى يبدأ من الحنجرة. عندما لا يشعر المرء باهتزاز أوتار الحلق من رقة حرف الحاء، من قوة حرف الخاء، من دوار العين وطفولة حرف الغين. كيف السبيل للبوح بالغضب في لغة ليست هي اللغة الأم؟".

هو التغرّب بدءاً من انسلاخ حروف الإظهار إذاً. فقدان اللغة هو موضوعة تمّ ذكرها في أكثر من عمل وحديث لوجدي معوّض. في مقابلة له عام 2008 إثر تقديمه عرض "وحيدون" في مهرجان أفينيون (صادرة عن منصة المسرح المعاصر التابعة لمركز الموارد الدولية للمسرح)، أشار الكاتب إلى لوحة رمبراندت "الطفل الضال" التي كانت مصدراً أساسياً من المصادر التي أوحت بالعرض والذي ذكّرته بيوميات طفولته المبتورة. عندما تأمل هذه اللوحة أكثر من مرة، تنبه إلى أن الأم غير موجودة، وعلى الأرجح ميتة. هذا ما يفسّر وضعية الوالد الذي يمسك ولده بيديه الاثنتين، ذلك لأنه أصبح الأب والأم معاً وفقاً لمعوّض. بقي معوّض لما يقارب العام يفكّر بهذه اللوحة وتوالت الأفكار حتى رست على تساؤل: هل ما زال الابن الضال، الذي غاب سنوات وعاد، يجيد لغته الأم؟

أصبحت هذه اللوحة المقرونة بسؤال اللغة محجة يعود إليها معوّض كل حين. هي محجّة تذكره بذاته وتفتح له أبواب الطفولة المغلقة التي لا يذكر منها إلا القليل: في حديث لمعوّض مع والده وشقيقته علم أنه كان حتى سن التاسعة يرغب في أن يكون رساماً وأن إحدى متعه في لبنان كانت التلوين والرسم. تبين لمعوّض أنه توقف عن الرسم عندما وصل إلى باريس، كانت الشقة التي سكن فيها صغيرة لممارسات مماثلة وكانت الأولوية لتعلّم اللغة الفرنسية: "هكذا ارتبط فقدان اللغة الأم يالتخلي عن الألوان".

تيمة اللغة هي الأكثر حضوراً في نصه المسرحي "الأختان". هذا العمل الأول لسلسلة أعمال تتمحور حول العائلة استكمله بثلاثة أعمال "إخوة"، "أب" و"أم". في هذا العرض الذي قدمه عام 2014، ثمة انزياحان للغتين وتيهٌ عن الذات يتمثلان في شخصيتي جنفياف الكندية الفرنكوفونية وليلى اللبنانية. تجمعهما غرفة 2121 في أحد فنادق أوتاوا وهي غرفة حديثة جداً، تتطابق مع متطلبات التكنولوجيا المتطورة التي لا تنطق إلا باللغة الإنجليزية. تتعطل لغة الكلام عند جنفياف، وتنتهي بتخريب كل تلك الأدوات. تُمعن في ذلك، هي المرأة الخمسينية الآتية من منطقة مانيتوبا التي هجرتها بسبب سطوة اللغة الإنجليزية التي أصبحت مهيمنة على مدينتها. ليلى الآتية من لبنان تسمع والدها "المقتلع" الذي لا ينفك يتحدث عن الحرب الأهلية على الرغم من أنه يعيش في كندا منذ عشرين عاماً. جنفياف وليلى هما مرآتان بعضهما لبعض، لكل منهما عزلتهما عن لغتهما الأم، تحاول ليلى أن تدخل كلمات وعبارات لبنانية في أحاديثها التي ترطنها بلهجة فرنسية كندية. هاتان الشخصيتان تشكلان انعكاساً لجانب من جوانب تغرّب وجدي معوض الشخصي. في مقدمة النص الذي نشره في منشورات "آكت سود"، يذكر الكاتب أنه استوحى نصه من شخصية أخته الوحيدة نايلة التي كانت "حارسة العائلة المؤتمنة على ذكرياتها". كان يتأمل معوّض شقيقته وهي تكوي الثياب المجعلكة لشقيقيها كأنها كانت تحاول محو ثنايا الحرب وجعلكاتها وآثارها في العائلة. كأنها بذلك كانت تكوي ثنايا التاريخ نفسه من دون أن تتمكن من إزالتها تماماً. 

تقنية النباح

نباح كلب... غضبٌ لا أبجدية له:"...لا رغبة لي بالشعر،/ لا رغبة لي بالأمل،/ لا رغبة لي بتلاوة القصص،/ لا أريد أن أتأثر،/ لا أريد أن أقول لبنان،/ لا أريد أن أقول فيروز، ولا أن أتحدث عن جيل الشباب والأجمل في هذا البلد،/ لا رغبة لي ببكاء الموتى، ولا الجرحى أو المفقودين،/ ولا أريد أن أبكي أمي وأبي اللذين دفنا تحت الثلج الكندي في أي مقبرة اتفق وجودها، والديّ اللذين ولدا في مكانٍ ليس ببعيد عن غابات الصنوبر في الشوف/ ولا رغبة لي أن أذكر أن بيروت دفنت ألف مرّة وتمّ إحياؤها ألف مرّة.../ ولا أن أذكر عظمة الفن ولا المسرح ولا رغبة لي بالفخر../ ولا رغبة لي أن أتحدث عن الحمص والتبولة والبابا غنوج / لا شيء. لا شيء يعني لا شيء".

ليس هذا الكلام نابعاً من يأس معوض ولا من استسلامه، ذلك لأنه يؤمن تماماً ككافكا بأنه يوجد داخلنا ما هو غير قابل للتدمير. وبسبب هذه الـ"غير القابلة للتدمير" لا رغبة لوجدي معوّض في كل ما ذكره مع حق الاحتفاظ بالكثير من الغضب والتعب حتى من الكلمات. يقول وجدي لكل من يسأله أنه يأتي من "بلد القمامة"، من "البلد المتعب من الكلمات... من البلد الذي أرهقته الأفراح المكرهة والابتسامات المسمّرة، بلد بلا جلد وبلا بحر للمواساة ولا شمس ولا سماء، بلد لم يعد إلا قلباً مسمّماً حيث تنفث المباني من خلال طبقاتها الإسمنتية غضباَ لا تكتنفه أي أبجدية". الأمل الوحيد المتبقى كما قال معوّض في بداية نصه هو بطون النساء الحوامل في بلده، والأصعب بالنسبة إليه هو القبول بفكرة التغيير. لأنهم ما زالوا هنا، الإداريون الدمويون لهذا البلد الذين انتهكوا كل القواعد والذين لا يخجلون بأفعالهم... نعتهم معوَّض بأعتى الأوصاف: آكلو الأطفال، غيلان مخصيون، قمامات غارقة في نتانة صمتها، يبصقون بلدهم، يبصقون بلادهم كما لو أنهم يلقون الشتائم... ".

مستعيناً بهيكوبا من قصيدة التحولات لأوفيد، توجه وجدي معوّض إلى أولئك الذين سماهم "أعداءنا على الرغم من رابط الدم" قائلاً إنه سيعطي فرصة البوح لهذا الذي لم يعد يجد الكلام فيه - أي وجدي، لهذا الذي فقد أبجديته، تماماً كما حصل مع هيكوبا التي حين رأت اليونانيين يذبحون آخر أولادها بوليكسين وسط جثث جنود طروادة. أصيبت بالذهول. فتحت فمها غير قادرة على الكلام ثم بدأت بالنباح. أصبحت كلبة أوجاعها. هكذا كان صمت وجدي مدوياً حين أنهى جملته الأخيرة قبل أن يتشارك فيديو النباح: " لم يعد هنالك أي شيء يُنطق، إلا النباح الذي يأتي عندما يرمي فائضُ العنف اللغة في متاهة الغضب والحرائق".

في عرضه الذي يجمل عنوان أبطال والذي يستعيد مسرحيتي سوفوكليس "آجاكس" و"أوديب ملكاً "في قالب مسرح الكاباريه، يتابع المخرج مسار الآلهة المتلاشية الآيل إلى السقوط، بسبب فائض أناهم الذي يستولى على كل منهم، وبسبب العمى وبالتالي العنف. آجاكس المجنون الذي لعب دوره معوّض نبح من شاشة عرض الأبطال... نبح وسال لعابه. يقول معوّض إن المأساة عند سوفوكليس تقع على "الشخص الذي، معمياً بذاته، لا يرى قصور مداه".  لربما هذه هي مأساتنا... انتصارات فائضة وأبطالٌ لا يرون قصور مداهم!

المزيد من ثقافة