كانت دعوة "الوحدة العضوية" التى نادى بها شعراء كثر عرب وغربيون، عموماً، مشروطة بحدود القصيدة، غير أن حركة تطور الشعر الحديث حاولت تطبيقها على الديوان بأكمله، فنجد كثيراً من الدواوين عبارة عن قصيدة واحدة طويلة، يتم (في الغالب) ترقيم مقطعاتها، أو عبارة عن قصائد تدور حول موضوع واحد تستبصر جوانبه المختلفة. وشاعرنا تامر فتحي مبروك يعي ذلك تماماً فى ديوانه "سقوط ... سيرة رائحة" ( دار المرايا) حين صرح في لقاء صحافي بالآتي، "طوال الوقت لم أحب فكرة التعامل مع دواوين الشعر باعتبارها وحدات منفصلة يمكن قراءتها من أي اتجاه، هذه القصيدة صور ومجاز، تلك لقطة أو حكمة أو صورة مفتوحة، أو مغلقة، إنما أسرتني فكرة التعامل مع الشعر مثلما نتعامل مع العالم الروائي". وهو هنا لا يفرق بين الواقعي والعجائبي. فنجده مثلاً يستعير من "أليس في بلاد العجائب" هذا الاقتباس، "لأسفل لأسفل... أو لن ينتهي هذا السقوط أبداً".
ومن المهم أن أشير إلى أنه قد كتب المفردتين الأوليين بشكل عمودي للدلالة على السقوط وهو في هذا يوظف فضاء الصفحة متأثراً بالفن التشكيلي. وهذا ما نلاحظه – أيضاً – في عنوان الديوان حيث يكتب مفردة "سقوط" ببنط ثقيل تتوارى تحته ببنط خفيف "سيرة رائحة". ولهذا فإن هذين الدالين: السقوط والرائحة سوف يشكلان بنية هذا الديوان، مما يدخلنا في فكرة العالم الروائي المشار إليه. وقد ساعد على هذا أن الشاعر لم يكتب عناوين للقصائد بل اكتفى بالآتي: مدخل أول، مدخل ثان، ثم سمى القصائد: رائحة 1- رائحة 2، وهكذا إلى رائحة 6، ما يدل على أننا أمام بنية سردية / شعرية واحدة متماسكة.
سقوط إرادي
وإذا كان الشعر عامة يصور اللحظات المتوترة فهذا ما نجده في "مدخل ثان"؛ حين يصور الشاعر حالته أثناء سقوطه من أعلى مرتطماً بالأرض، وهو يبعد مسافة من ذاته ليتأملها مستخدماً ضمير الغائب، "عند سقوطه من النافذة / كان يعرف أن أول ما سيرتطم بظهره هو الموت". ما يعني أن السقوط (هنا) إرادي وليس على سبيل الخطأ، لأن الذات تسعى إلى سقوطها وهي على دراية بأن الموت مصيرها. ومن هذه المعرفة العامة يبدأ في السطور اللاحقة استقراء الداخل وما يحدث له، "عندها استطاع أن يستمع لصوت تكَسُر عظمه قبل حدوثه". ما يجعل المعرفة تخييلية تقوم على الحدس الذي يستشرف الشيء قبل حدوثه. وتظل الرؤية متراوحة بين هذا التخييل والحقيقة الواقعية حين شاهد (وهو يسقط) النافذة التى راحت تبتعد. وبظهور شخصية الأم تكتسب القصيدة بعداً سردياً واضحاً يستخدم فيه الشاعر الحوار وتقنية الاسترجاع، "هي التي قالت له وهو على حافة النافذة: لا يا ولدي لا تفعل / - لكنه ضروري يا أمي ضرورة الحياة / كما فعل أبي أفعل / وكما فعل إخوتي / قالت: لكنه قاس كالموت / قال: وهكذا هي الحياة في البيوت العلوية / موتٌ يليه موت".
فى تلك السطور نجد استرجاعاً زمنياً وحواراً وما يشبه الحكمة، ثم يتركز "التبئير" (كما يسمى في النقد السردي) على تلك الأم القوية البدن التي "تقوم في يوم كامل بما تقوم به غسالة أوتوماتيكية في ساعة واحدة". وهو مدخل جيد لبدء تيمة الرائحة التي يقوم عليها الديوان، "لذا كان يفوح منها خليط روائح / لا غلبة فيه لرائحة".
سطوة الروائح
وفي التفاتة ذكية يقارن الشاعر بين هذه الأم التي يفوح منها خليط روائح، ما يدل على ضياع شخصيتها المتميزة، والأب برائحته النفاذة التي تهيمن على الجميع، "رائحة أبيه النفاذة التي تثير في نفس من يشمها شعوراً خشناً / كأنها بطانية صوف في ليلة صيف". وهو تشبيه طريف (حقاً)، يدل على طاقة شعرية مبدعة تقوم على تقريب طرفين متباعدين. ثم يقول إن هذه الرائحة لها سطوتها حين " تدخل البيت فترهب الجيران وتغلق التلفاز/ وتطفىء الأنوار وتجبر الصغار على النوم". وهنا يتم التماهي بين الرائحة وصاحبها وتصبح المقارنة بين الروائح هي (في حقيقتها) مقارنة بين الأشخاص. وهو ما يبدو جلياً في وصف رائحة الأب بالصرامة في موضع آخر، "تنسموا في عطوري ما ينسي رائحة الأبوة الصارمة".
وحين لا يعرف الإنسان رائحته فإنه يجهل ذاته وهذا ما يصدق على الجميع، في ما يرى الشاعر، ويتساوى عندئذ من له رائحة ومن يفتقدها... "لا رائحة لي/ ولأن لا أحد يعرف رائحته/ ومن يدعون أنهم يعرفون رائحتك/ لا يعرفون رائحتهم/ إذن فالكل سواء/ من له رائحة ومن هو من دون".
وأحياناً تطغى الرائحة المصنوعة (رائحة العطور) على الرائحة الأصلية النابعة من الجسد. وهكذا يميز الشاعر بين ما هو زائف وما هو حقيقي، بعد أن أصبح الإنسان يُعرف بما يضعه على جسده لا برائحة الجسد نفسه. يُعرف بالقناع، لا بالوجه الحقيقي، "أدمنتُ العطور حتى اختفت رائحتي تحتها/ أمُرُ بين الأماكن فيُعرف من عبقي أنني مررت". ويكون رد فعل الشاعر على هذا الاستلاب هو أن يتمسك بذاته ونفسه وحقيقته التي يعرفها "إنها نفسي/ بها أرى وبها أسمع وبها أمشي/ وحدها وغيرها لا شيء".
ومن خلال تيمة الرائحة يعبر الشاعر عن قيمة إنكار الذات والتوحد مع الآخرين وحمل روائحهم، ففي "رائحة 6" يقول: "وأنا الرائحة التي تخلت عن عبقها/ كي تتشرب الروائح ما استطاعت/ لدرجة أنها لما أرادت أن تعود لعبقها الأول نسيت كيف يكون".
بين الإنسان والمكان
هذا التوحد مع الآخرين نجده (أيضاً) بين الإنسان والمكان، حين نقرأ، "صرتُ البيتَ وصار من يدخله يدخلني ومن يخرج منه يخرج مني/ ومعه وريد ممتد ملتصق بالسُرة إلى أن يعود". ولا يعني التوحد عدم التمرد على هذا البيت بأفكاره الجاهزة وأجهزة الحياة السهلة، بخاصة حين يقارنه بالخارج متسائلاً "لماذا البيت وفي الخارج براح/ ولماذا في الداخل إجابات/ وفي الخارج سؤال".
يتمسك الشاعر بقيمة التساؤل ويرفض الإجابات الجاهزة واليقين الذي يشبه الموت. يقول، "الوصول موت واليقين موت/ والتساؤل حياة وشغف وانتشاء/ وفي الإجابة استكانة لوهْم". هذا الشغف بالحياة والتساؤل يعد تمهيداً للخيال الوحشي والمجازات البعيدة كما في قوله، "أنا عصّارة الروائح/ قارورة العبق المعتّق/ ذو خيال وحشي/ أنسج بين اللفتة العابرة وتصاريف الكون علاقة/ وأشكل من نفثة دخان سلماً أعرج عليه إلى سماوات الدلالة".
ويظهر هذا الخيال الوحشي البعيد في الربط بين اللفتة العابرة وتصاريف الكون، ثم بين نفثة الدخان وسلم العروج، وربما يرجع هذا الخيال الذي يقوم على إطلاق طاقة التخييل إلى أقصاها إلى قلب الشاعر الذي بوسعه أن يكون متحكماً في الجسد ويصبح العقل بجواره "أكذوبة وأدلجة وتأطيراً". بل إن العقل يخطىء بينما القلب ليس كذلك، ولهذا فإن الشاعر يحب الودعاء الذين يحملهم الهواء خفاف الروح، لأنهم يتخلون عن ذواتهم التي تحبسهم وتبعد بهم عن الآخرين. هذا الاعتماد على القلب والوداعة لا يعني الرومانسية بعد أن اكتشف الشاعر الأساطير المؤسسة لأوهامها وحاول تفكيكها ليتمكن من تغيير العالم واقعياً. بعد أن اختلطت عليه الأضداد: الحقيقة والسراب. ولم يعد يدري أين هو، "أين السكينة فيك والأضداد سواء/ أين الحقيقة وأين السراب/ وأين أنا وأين أنت؟".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
إن الشاعر يبدو ساعياً إلى اكتشاف الحقيقة وسط لغو السفسطائيين الذين يشبههم بحشرات الحياة وفي مواجهة هذا يمدح القوانين التي وضعت "للجم النزق البشري". والملاحظ أنه من "رائحة 4" نجد أن الروائح تبدأ بواو العطف ما يدل على ارتباطها بما قبلها، ويؤكد تماسك الروائح كلها في بنية واحدة. هذا التواصل والتماسك نجده على مستوى الذات حين يربط الشاعر بينه وبين أبيه وحده، كما يبدو في قوله، "أنا امتداد لأنا بعيدة/ تشبه أنا لما كنت أبي/ وأنا لما كنت جدي". فهي (إذن) ذات أو أنا واحدة تنتقل من الجد إلى الأب إلى الشاعر، وتأكيد الذات على هذا النحو يستدعي ما يعرف بالزمن الذاتي الذى يختلف عن الزمن الطبيعي. يقول الشاعر في هذا المعنى، "لي زمن خاص/ زمن الموقنين بالموت/ زمن ممطوط يدور حول نفسه/ في انتظار لحظة الارتطام علها لا تكون مؤلمة". إننا أمام ديوان متميز لا يتقاطع مع أصوات الآخرين، بل يصنع خصوصيته الواضحة.