Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"باترسون" لويليام كارلوس ويليامز: القصيدة/المدينة

حلم أميركي ينطلق من رحلة يوليسيس الى عالم جارموش

"باترسون" في فيلم جيم جارموش

قبل سنوات قليلة قفزت باترسون، تلك المدينة الشاعرية التي يُفترض أنها واقعة في نيوجرزي غير بعيد من نيويورك، إلى واجهة الأحداث الإبداعية بشكل مفاجئ. كان ذلك حين عرض في مهرجان كان السينمائي فيلم للمخرج الأميركي جيم جارموش عنوانه "باترسون". والحال أن الفيلم لم يكن وثائقيا عن تلك المدينة الهادئة، ولا اتخذ منها مكانا لمغامرة ما... بل كان فيلما يحكي المدينة نفسها من خلال عدة طبقات من التسلل إليها. طبقة تتعلق بالشخصية المركزية المسمى باترسون، ومن ثم بباص المواصلات الذي يحمل بدوره اسم باترسون في المدينة المسماة باترسون، ثم وصولا إلى تلك القصيدة الرائعة والفريدة في الثقافة الأميركية التي كتبها الشاعر ويليام كارلوس ويليامز في المدينة وعنها بدءا من العام 1926 ولم تكتمل لديه إلا بين العامين 1948 و1956 حيث نشرت على أجزاء عدة وفي مئات عديدة من الصفحات. لكنها في الفيلم ستطل كقصيدة ومدينة معا إنما من خلال سائح ياباني يحفظ القصيدة عن ظهر قلب وجاء هنا كي يعيشها والمدينة معا فيلتقي بباترسون، الرجل وسط المدينة في مشهد أخّاذ. لكن ما هو أكثر مدعاة للدهشة، في الفيلم طبعا هو حفظ السائح للقصيدة عن ظهر قلب. ولا نعني بهذا هنا الشكل الأول الذي كتب به ويليامز قصيدته في العام 1926، يوم كانت تتألف من خمسة وثمانين بيتا، بل نعنيها بحجمها النهائي الذي شغل المجلدات الخمسة وانتشر عبر عشرات ألوف السطور. وذلك لأن القصيدة من خلال حكيها المدينة، راحت تروي التاريخ الأميركي كله من خلال تاريخها. ومن هنا ما يقوله البعض بأنها قصيدة أميركا كلها.

ردّ شعري على إليوت وباوند؟

لكن "باترسون" لم تأت في نسختها النهائية عفو خاطر أو انطلاقا من تصميم منطقي معيّن. بل هي ولدت من أصلين: السطور التي كتبها ويليامز في المرحلة الأولى تمجيدا لمدينة أعاد اختراعها في خياله من ناحية، ومن ناحية ثانية انطلاقا من قراءته مندهشاً تينك القصيدتين التين نظمهما كل من تي إس إليوت وإزرا باوند في "منفاهما" الأوروبي: "الأرض الخراب" بالنسبة إلى الأول، و"الكانتوس" بالنسبة إلى الثاني، وكان من الواضح أن كارلوس إنما أراد أن يقيس نفسه بهذين الشاعرين، ويقينا أنه كان محقا في ذلك.

 فبالفعل إذا كان ويليامز قبل النسخة النهائية لـ"باترسون" يعدّ واحدا من شعراء الطليعة الأميركية المميّزين، فإنه مع "باترسون" النهائية بات يعدّ واحداً من الشعراء الأميركيين الثلاثة الأكبر خلال القرن العشرين، إلى جانب إليوت وباوند. ولكن فيما عجز هذان الأخيران عن تحمل العيش في الولايات المتحدة الاميركية، فبارحاها من غير رجعة تقريباً ليحققا شهرتهما في الخارج، ظل ويليامز مقيماً في مسقط رأسه بالكاد يغادره، باحثاً عن خلاصه عبر الكلمات، عبر اللغة الجديدة التي راح يخترعها ويستنبطها من المحلي، سعياً منه للوصول إلى «عالم جديد» يكون مختلفاً، بعد كل شيء، عن العالم الجديد الذي تمثله القارة الأميركية.

الترحال داخل الذات

ولد ويليامز وعاش ومات في مدينته راذرفورد في نيو - جرزي، لم يغادرها إلا نادراً. وكان ويليامز حين يؤخذ عليه ذلك من قبل من يقول له إن الشاعر الحقيقي يحتاج إلى الترحال، يقول أن ترحاله الحقيقي هو في اللغة، وتشرده لا يمكنه أن يكون إلا في شعره وعبره. ولقد كان شعر ويليامز، في الحقيقة، أشبه بتغريبة دائمة أغنته عن ارتياد الآفاق. ومهما كان، فإن مهنة ويليامز كطبيب الأطفال، كانت تحول بينه ومغادرة المدينة إلا في الإجازات. ومن هنا استعاض عن التحرك الجسدي بالتحرك النظري - اللغوي، ولسان حاله يقول: ترى هل كان يمكنني، بعد كل شيء، أن أعثر على عالم أتجول فيه يفوق في قيمته بالنسبة اليّ، عالم باترسون، قاصداً بذلك العالم الذي ابتكره في قصيدته الطويلة التي انتهت بأن تكون لديه معادلاً للعالم التاريخي الذي خلقه باوند في «الأناشيد»، وللعالم الوجداني الذي صوره إليوت في «الأرض اليباب». ولعل في إمكاننا أن نتفق مع نقد وجد بين القصائد الثلاث تكاملا معتبرا "الكانتوس" قصيدة العالم القديم منطلقا من الحضارة الإغريقية، و"باترسون" قصيدة العالم الجديد الذي يبدأ من حيث ينتهي الأول في وقت تبدو فيه "الأرض اليباب" غمامة ميتافيزيقية تلف العالمين الآخرين معاً.

ولكن قد يجدر بنا أن نضيف إلى هذا التكامل واقع أن الشكل الأول الذي اتخذته القصيدة في مرحلتها المبكرة كان على علاقة بجيمس جويس لا بإليوت أو باوند. فالذي حدث يومها هو أن ويليامز قرأ "يوليسيس" جيمس وافتتن بتوغله في روح مدينته دبلن من خلال بطله، فقرر أن يكتب هو ما يماثل يوليسيس عن "باترسون". صحيح يومها أنه نشر القصيدة التي وجد فيها كثر روح تلك المدينة الأميركية الناعسة في تاريخها. لكنه ظل سنوات غير راض عن النتيجة، حتى وقعت بين يديه قصيدتا إايوت وباوند فعاد ليكتب من وحيهما هذه المرة. وهكذا وُلدت "باترسون" النهائية... النهائية رغم بقائه مشتغلا عليها سنوات طويلة حتى بعد صدورها في طبعاتها الأولى.

وإلى ذلك كان ويليامز يعلن دائما عن رفضه الجمع النقدي بينه وزميليه فهو كان يقول مثلا عن «الأرض اليباب» إن أهميتها الوحيدة تكمن في أنها «سوف تعيد الشعر إلى الجامعات». أما ما كان يريده، هو، من الشعر، فإنما خلق عالم جديد. لماذا؟ لأن «الأمة الاميركية أخفقت في محاولتها التحول إلى عالم جديد، وذلك لخوفها من المجهول والجديد والعفوي». ومن هنا كان ويليام كارلوس ويليامز من أوائل الشعراء الأميركيين الذين وجهوا سهام نقدهم إلى ما بنت عليه القارة الشمالية إيديولوجيتها وحلمها، مستبقاً في ذلك سلسلة الشعراء والشعراء - المغنين، الذين طلعوا مع موجة البيتنكس وما بعدها: غينسبرغ، سنايدر وصولاً إلى بوب ديلن وبروس سبرنغسترين.

من القصيدة إلى المدينة وبالعكس

من ناحية أخرى، ورغم الشمولية التي طبعت علاقة شعر ويليامز بأميركا، فإنه كان لا يرى أي إمكانية لانطلاقة الشعر إلا في انبعاثه من الواقع المحلي مهما كان شديد الضيق، ويضيف أن هذا وحده ما جعله يكتب "باترسون". قائلا أنها تستجيب للشروط المحلية التي يمكن الشاعر أن ينطلق فيها من المحلية «معيداً اكتشاف النبض الجسدي، والأسس العضوية لكل فن ولأي فن». والحال أن قراءة معمقة «لباترسون» (وهي كانت حتى "تجسّدها" في فيلم جارموش، تحمل في آن معاً اسم مدينة وهمية، واسم شاعر يروي المدينة) ترينا كيف أن ويليامز رسم في هذه القصيدة، ليس مدينة في علاقتها بالفرد الواعي فقط، بل كذلك وخاصة حضارة بأسرها، انطلاقاً من سؤال بديهي يقول: كيف يمكن للشاعر، بعد كل شيء، أن ينظر عبر استخدامه اللغة، إلى كل تلك العناصر والتفاصيل التي تتكون منها المدينة/ الحضارة؟ كيف يمكن الارتقاء بكل العناصر المادية حتى نكون، في نهاية الأمر أمام «كلام نتجاوز فيه المعرفة واللذة في وقت واحد»؟ الحقيقة إن «باترسون» وحسب تعبير كينيت وايت، ليست مجرد قصيدة أو عمل فني، بل إنها في الوقت نفسه مزيج من الشعر والوصف وقصاصات الصحف والرسائل ومقاطع الكتب، تختلط فيه اللغة الكلاسيكية بلغة الشارع وكلام الصبيان الزعران. وهذا ما يجعل كثراً من الباحثين يرون أن ويليامز استطاع باكراً أن يلتقط جوهر ما ستكون عليه المدن وعنفها وعفويتها عند نهاية القرن العشرين. ولا بد أن نذكّر هنا بأن جيم جاموش لم "يترجم" القصيدة في فيلمه بمساعدة المدينة بل أعاد خلق هذه الأخيرة من عمق القصيدة ومتاهات خيال الشاعر وحسب".

طبعاً «باترسون» لم تكن العمل الوحيد الذي كتبه ويليامز، فهو كتب النقد والقصة القصيرة وأصدر العديد من المجموعات الشعرية، لكن «باترسون» تظل مأثرته الاساسية، هو الذي، حين رحل عن عالمنا في العام 1963 لم يكن قد حظي بعد بالشهرة التي حظي بها زميلاه اليوت وباوند، لكنه بعد ذلك عاد - وبالتدريج - ليشتهر وتُترجم اعماله ويعتبر واحداً من كبار الشعراء الذين عرفتهم الولايات المتحدة في القرن العشرين.

المزيد من ثقافة