Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

عندما يصبح الجزائريون ضحية سياسة شعبوية للغة العربية

إن الهواة والسابحين في الماء العكر سيجرون البلد إلى باب مسدود

تُعدّ الجزائر الدولة الفرنكوفونية الأولى بعد فرنسا (رويترز)

نصف قرن وأكثر تمر على قرار التعريب الذي قاده نظام الرئيس هواري بومدين (رئيساً للدولة 1965- 1978، توفي 1978) في سبعينيات القرن الماضي. وقبله كان الرئيس أحمد بن بلة (رئيساً للدولة 1963-1965، توفي 2012) قد روج له أيديولوجياً وسياسياً من خلال انحيازه للقومية العربية. وبعدهما جاء الرئيس الشاذلي بن جديد (رئيساً للدولة من 1979- 1992، توفي 2012)، وكرّس التعريب أكثر فأكثر، وكان أكثر من سابِقَيه قرباً من العربية لكونه جاء في زمن صعود التيار الإسلامي في الجزائر، فانحاز إليه متخذاً طريقاً خارج الخطاب الاشتراكي المتبع في البلاد منذ الاستقلال، ليجد نفسه تحت سيطرة غير مباشرة لتيار الإخوان المسلمين في الجزائر. وبعد أن أعطى "البطاقة البيضاء" لزعيمي الإخوان المسلمين الشيخين محمد الغزالي ويوسف القرضاوي اللذين استقرا في الجزائر وأسسا للجامعة الإسلامية فيها في ظل رؤيتهما السياسية للإسلام، رؤية تختلف بل وتتعارض مع قيم الإسلام المغاربي الأمازيغي الذي عرفه أجدادنا والمعروف بالتسامح والروحانيات واحترام المرأة وسيادة الأخلاق العامة، اليوم وبعد وقت طويل من غياب الرؤساء الثلاثة، لم تشبع الجزائر من العربية.

مرة أخرى، وكسابقاتها من المرات، كلما توترت العلاقة بين فرنسا والجزائر سارعت الطبقة الحاكمة في الجزائر إلى الحديث عن التعريب ومحاربة الفرنسية ظاهرياً، لكنها ستعود "حليمة لعادتها القديمة" بعد أن يتجلى ضباب الخلاف.

تُعدّ الجزائر الدولة الفرنكوفونية الأولى بعد فرنسا، على الرغم من أنها ليست عضواً في المنظمة الفرنكوفونية. ولقد أصبحت الجزائر فرنكوفونية منذ الاستقلال، فما تعلمه الجزائريون من اللغة الفرنسية خلال خمسين عاماً من الاستقلال هو أكثر مما تعلموه خلال قرن ونصف تقريباً من الاستعمار. فالفرنسية علّمها الجزائريون للجزائريين. وهناك إحصاءات غير رسمية تقول إن 11 مليون جزائري يتكلمون الفرنسية بدرجات ومستويات مختلفة.

من سيقضي يا ترى على اللغة الفرنسية في الجزائر؟ سؤال جوهري. أعتقد بأن نهاية الفرنسية في الجزائر لن تكون بقرار سياسي يتخذه هذا النظام أو ذاك، ولكن نهاية الفرنسية، إذا ما كانت لها نهاية في الجزائر، فستكون نتاج تدني التعليم الذي سيقضي عليها وعلى اللغات الأخرى: العربية والأمازيغية والإسبانية.

علينا أن نفهم المعادلة التالية: إن الطبقة السياسية وأصحاب القرار منذ الاستقلال، ومن منطلق الشعبوية السياسية والدينية أيضاً، ظلوا يهاجمون اللغة الفرنسية في الظاهر ويدافعون عنها من خلال الحرص على تعليم أبنائهم هذه اللغة لضمان مستقبلهم من خلالها، فما تعرفه ثانوية "ألكسندر دوما" الفرنسية الموجودة في الجزائر العاصمة من عدد طلبات الانتساب لا يمكن تخيّلها، وهو ما جعل الثانوية غير قادرة على الاستجابة لجميع الطلبات. وعلى الرغم من ارتفاع أسعار التسجيل ومستحقات التعليم، إلا أن كل جزائري يريد أن ينقذ ابنه من ورطة المدرسة الجزائرية يتمنى تسجيله في هذه الثانوية الفرنسية، بل إن غالبية أبناء الطبقة الحاكمة وذوي القرار والطبقة الصناعية وأصحاب المال والأعمال يدرس أبناؤها وبناتها في هذه المدرسة. وفي الوقت ذاته، وللمفارقة العجيبة، إن هؤلاء هم من يدّعون الدفاع عن التعريب، على مستوى الخطابات الرسمية السياسية والأيديولوجية والإدارية.

أنا متأكد أنه لو مُنحت الرخص لفتح مدارس فرنسية في المدن الأخرى، لن يظل في المدرسة الجزائرية سوى من لا يملك إمكانية دفع مستحقات التعليم في هذه المدارس، لن يظل فيها سوى أبناء الطبقة الفقيرة المسحوقة، التي كثيراً ما يغادر أبناؤها المدارس مبكراً بحثاً عن عمل لسد متطلبات الحياة العائلية.

إن ما تعرفه المدارس الحرة أو الخاصة التي كثر عددها بشكل كبير جداً في الجزائر التي لا تزال تحافظ على تدريس اللغة الفرنسية والعلوم والمعارف الأخرى، بعيداً من الأيديولوجيا، من إقبال كبير من قبل المواطنين من الطبقة المتوسطة التي هي جوهر المجتمع، يدل على هوة بين الخطاب الشعبوي غير المقنع ورغبة المواطنين بتعليم أبنائهم تعليماً سليماً يتماشى والعصر ويتماهى مع أحلام الجيل الجديد الذي يرغب بخلق حوار مع العالم، بعيداً من شعبويات السبعينيات.

ما يجب أن يعرفه المواطن الجزائري هو أن التعريب يجب ألّا يكون لعبة أيديولوجية تهدد مصير أمة، وألّا يكون على قاعدة "رد فعل" ضد "تصريح غير مسؤول من قبل مسؤول سياسي" كما حدث مع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الذي أساء إلى تاريخ أمة كاملة. إن التعليم والتربية يظلان أكبر من الأيديولوجيا والسياسات الموسمية وأمزجة القادة وحساباتهم الانتخابية.  

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

إن الأصوات التي تدعو إلى إحلال اللغة الإنجليزية محل الفرنسية في المدرسة الجزائرية، مع العلم أن اللغة الإنجليزية تدرّس ابتداء من السنة الأولى متوسط، وكذا تلك القرارات الإدارية السياسية التي اتخذها بعض الوزارات بإقرار تعريب المراسلات والمعاملات وإسقاط الفرنسية، هي دعوة تدخل باب الشعبوية القاتلة. فكل وزارة فشلت في أداء مهمتها المنوطة بها، تسعى إلى تغطية عجزها بمثل هذه الشعبوية التي تغرق المجتمع في نقاش لا يسمع فيه أحد الآخر ومضيعة للوقت.

في الوقت الذي وصل سعر البطاطا إلى 130 ديناراً وتشهد حنفيات الماء في البيوت انقطاعاً مستمراً وتعاني الشواطئ هجرة غير شرعية لآلاف الشباب، وتقول إحصاءات إن 25 في المئة من الطلبة يريدون مغادرة البلد، وتعرف الجزائر تهديداً خارجياً من العرب وغير العرب، يصرخ هؤلاء داعين إلى التعريب، التعريب الثاني.

علينا أن ننتبه إلى هذا في زمن التكتلات والتحالفات الجهوية الاقتصادية والثقافية والسياسية، والجزائر بحاجة إلى حلفاء في الشمال والجنوب، لا إلى فتح قائمة الأعداء أو الخصوم.

والدعوة إلى تعريب بعض الوزارات هي فخ ضد الجزائر نفسها، إذا لم ننتبه جيداً وتكون لنا الشجاعة للتحرر من الشعبوية القاتلة. إن أمراً بمثل هذا الاستعجال والغضب ربما سيجعل البلد أمام مشكلة قد تظهر لاحقاً. تخيلوا معي لو أن وزيراً من وزراء الجمهورية طالب بتعميم استعمال اللغة الوطنية الثانية التي هي الأمازيغية في كل مراسلات قطاعه، سندخل من دون شك في فوضى إدارية لا مخرج للبلد منها.

إن هواة السياسة والسابحين في الماء العكر للشعبوية القاتلة بمثل هذه الحركات التهريجية سيجرّون البلد إلى باب مسدود.

إن زمن الشعبوية قد انتهى وسياسة الفروسية قد ولّت، إننا ندخل مرحلة العلاقات الرقمية والعملات الافتراضية والحدود المفتوحة وفلسفة جديدة للوقت... فعلينا تغيير عقليتنا في التعامل مع محيطنا بما يجعل بلدنا قادراً على مواجهة المستقبل اقتصادياً وثقافياً ومالياً واجتماعياً ويسهم فيه بعبقريته التاريخية المعهودة في ظل العيش المشترك بسلام.

المزيد من آراء