رحل فجر هذا اليوم في دمشق الفنان الكبير صباح فخري (1933-2021) عن عمر ناهز 88 عاماً بعد صراع طويل مع مرضٍ عضال، لتنتهي برحيل هذا الفنان سيرة آخر عمالقة الطرب العربي الأصيل، والذي كان صباح الدين أبو قوس (اسمه الحقيقي) قد تجرعه فتى صغيراً في حي الأعجام بمدينة حلب القديمة، حيث نشأ نشأته الأولى هناك بين الزوايا والتكايا الدينية الصوفية. وتعد حلب المهد الأول لإحياء فنون الموشحات والقدود والأدوار، والبيئة التي تدربت فيها أذنا الشاب الصغير على تعلم الموسيقى والإنشاد، متأثراً بمعلمه الشيخ عمر البطش أول من أعطى الإنشاد في الزوايا الصوفية أسلوب الحفلات، فطوّره جاعلاً من التواشيح والمدائح النبوية درباً لعشرات المنشدين (المطربين) لإحياء تراث غنائي قديم كان انتقل من الأندلس إلى بلاد الشام ومصر مع سقوط غرناطة، وخروج العرب المسلمين منها في القرن الـ 15 الميلادي.
تعلم صباح فخري على أيدي كبار الموسيقيين في المعهد الموسيقي بحلب، وكان منهم علي ونديم الدرويش ومجدي العقيلي ومحمد رجب وعزيز غنام، وتلقى من خبرتهم أصول "الصولفيج" ورقص السماح والإيقاعات والقصائد وأصول الأداء الغنائي الشرقي، ليتابع من ثم دراسته في دمشق متخرجاً في معهدها الموسيقي الشرقي عام 1948 على يدي عميده آنذاك فخري البارودي، الذي وهبه كنيته ليشتهر بعدها باسمه صباح فخري، وتطوف شهرته أقاصي الأرض ناقلاً الأغاني الشعبية القديمة إلى الجمهور الكبير، مبدلاً كلماتها المكتوبة باللهجة العامية إلى شعر فصيح موزون.
صناجة الغناء العربي
وتختزل سيرة "صناجة الغناء العربي" (لقبه) تاريخاً طويلاً من روائع الطرب العربي في منطقة الشرق الأوسط، وقد قام بتطويرها وإنعاشها بعد أربعة قرون، حاول الاحتلال العثماني خلالها شطبها من الحياة الفنية لسوريا وبلاد الشام، ناعتاً إياها بالبدع غير المستحبة، وهذا ما جعل كثيراً من الباحثين يطلقون على تلك الحقبة عصر الانحطاط للموسيقى العربية الشرقية، ولكن مع النصف الثاني من القرن العشرين ونيل البلاد استقلالها عام 1946، شكل صباح فخري ظاهرة فريدة في الغناء العربي، ناقلاً خبرة أجداده من الزوايا والبيوت الحلبية إلى مسارح عربية ودولية، ومعيداً الألق لكنوز غنائية وموسيقية طال حجبها عن الأذن العربية.
ويعتبر صوت صباح فخري من أصوات الرجال (التينور) النادرة، لما يمتلكه من رخامة ورشاقة في أداء طبقات متنوعة وفريدة من مستوى أصوات القرار إلى طبقات الجواب وجواب الجواب، مما جعله يستحق لقب صاحب الحنجرة الذهبية بامتياز، ولينتزع أرقاماً قياسية في الغناء لـ 10 ساعات متواصلة في مدينة كاراكاس بفنزويلا عام 1968، إذ اشتهر فخري بوصلاته الطربية الطويلة وقدرته على التلوين والانتقال الباهر بين المقامات الشرقية الموسيقية، لما كان يمتلكه من خبرات عميقة بأصول الغناء ومعرفته بعلم المقام المشرقي وقدرته على التطريب، أو ما يدعى بالوصول إلى (السلطنة) في أداء العُرب.
أعمال شهيرة
حافظ صباح فخري على بنية التخت الشرقي (ناي وعود ورق) في فرقته الموسيقية، مبقياً على جوقة "المذهبجية" أو مرددي الكورس معه على المسرح، من دون أن يدخل الأصوات النسائية للمرافقة في أداء اللوازم أو المذاهب الغنائية، مقتصراً في ذلك على أصوات الرجال، على خلاف التجربة الرحبانية في أداء الموشحات والقصائد التي سمحت للنساء في غنائها. لكن في الوقت ذاته ظلت موشحاته وقصائده مضرب مثل في الحب المثالي والعرفاني من مثل أغاني "اسقنيها" و"هات كأس الراح" و"ياشادي الألحان" و"يامن لعبت به الشمولُ" و"على العقيق اجتمعنا"، وسواها من موشحات وأدوار وقدود غنّاها فخري لأبي فراس الحمداني والسهروردي والمتنبي وابن الفارض وابن زهر الأندلسي ولسان الدين الخطيب.
رحل وفي قلبه شيء من حلب
جال فخري بتراث مدينة حلب أصقاع المعمورة، منطلقاً من مسرح قلعتها الشهير نحو مسارح أميركا وأوروبا ومصر والخليج العربي، فنال أرفع الجوائز والتكريمات على دوره في حفظ التراث، واعتبره النقاد من أعلام الموسيقى العربية، وشغل العديد من المناصب كان أبرزها نقيب الفنانين في سوريا لأكثر من دورة، ونائباً لرئيس اتحاد الفنانين العرب في مصر، ومديراً لمهرجان الأغنية السورية التي كان من أبرز المنافحين عن شخصيتها العربية وانتمائها إلى الجملة الطربية العربية. ونعته وزارتا الثقافة والإعلام ونقابة الفنانين السورية، فيما رثاه العديد من نجوم وفناني سوريا على صفحاتهم في "فيسبوك"، فكتب الممثل أيمن زيدان، " كم هو موجع رحيل الكبار، هاهو آخر العمالقة يترجل عن صهوة الإبداع، الكبير صباح فخري وداعاً". بينما علق الموسيقار طاهر مامللي بالقول، "التاريخ لا يموت" مرفقاً عبارته تلك بصورة للراحل مع قلعة حلب. وقال الفنان، ناصيف زيتون "حزينة القدود والموشحات والطرب الأصيل برحيل المعلم صباح فخري"، وأردف، "أيقونة من بلادي شكلت معلماً للأصالة والفن العظيم تطوي برحيلها حالة لن تتكرر". بينما امتزجت مشاعر الحزن والخوف على الأغنية في كلمات الممثل السوري، قاسم ملحو واصفاً إياه بـ"حارس المدرسة الغنائية"، وأكمل، "بوفاتك أيها الحارس اليقظ سيتزايد عدد لصوص الغناء". من جانبها نعت الأمانة السورية للتنمية فخري، ووصفته بأيقونة من تاريخ سوريا الفني العريق وقالت في بيان، "نعدك أن يكون عام رحيلك محطة في تاريخ القدود الحلبية وهويتها السورية عالمياً، من خلال تقديمها لتسجيلها كجزء من التراث الإنساني العالمي في اليونيسكو 2021".
البدايات
من حلب، وفي حي من أحيائها القديمة "القصيلة" انطلق الفتى المغرم بالموشحات والقدود وولج إلى عالم الإنشاد الديني والتجويد، لكن قصة الفتى "أبو قوس" بدأت مع الصوت الجميل والحنجرة الذهبية، وأخذ يلفت الأنظار إليه حين كان طفلاً يواظب على حضور جلسات "الخوانم"، وهي جلسات لسيدات حلب يحدّدن موعداً شهرياً في صالون للاستقبال يطلّ فيه كل من لديها أو لدى أي امرأة من محيطها الاجتماعي موهبة بالغناء أو الرقص، وعبر هذه التجمعات نفذ صباح فخري إلى قلوبهن بصوته الرخيم وذاعت موهبته.
وقاده الوصول إلى المدرسة "الحمدانية" وبراعته في المشاركات المتعددة بالمهرجانات إلى لمعان اسمه وتفوقه على أقرانه، وفي عمر لم يتجاوز 12 سنة وصل به الأمر أن يغني الموشحات خارج حدود مدينته وأمام رئيس الجمهورية السورية شكري القوتلي آنذاك عام 1946، وفضل البقاء بدمشق رافضاً السفر خارج سوريا، وحظي في عاصمة الياسمين برعاية واهتمام من قبل المذيع صباح قباني، شقيق الشاعر نزار قباني ومن أعلام الأدب والموسيقى في ذلك الوقت، إلا أن الشخصية التي تبنته ودعمته بشكل كبير كان النائب فخري البارودي، وبمساعدة من الفنان عمر البطش دخل الفتى عالم التلحين وهو في عمر 14 سنة.
فخري المؤذن والمطرب
طرق أبواب الشهرة من إذاعتي حلب ودمشق في سهرات غنائية، ليصدح طرباً بأغاني "يا مال الشام ويالله يا مالي" مستخدماً الموال بطريقة مبدعة. تقول الكاتبة، شذا نصار التي ألفت عنه كتاباً بعنوان "صباح فخري سيرة وتراث"، "إن انتقال حنجرة فخري من الصبا إلى الشباب تسبب في حشجرة فاجأت صاحبها وصعقت خبراء الغناء فهرمونات الرجولة غيرت من طبيعة صوته وتكوين حنجرته الذي بدا كالمبحوح".
لقد كافح هذا العندليب الراحل كثيراً في حياته؛ فعمل مدرساً بالأرياف وعاملاً في معمل للنسيج وموظفاً بالأسمنت، وموظف محاسبة، وموظفاً بصفة مؤذن بجامع الروضة في حلب، إلى أن وصل إلى التلفزيون وقدم أغانيه "قل للمليحة" و"يا طيرة طيري" لأبي خليل القباني، التي لاقت نجاحاً باهراً أخذ معها يزداد شهرة.
انكفاء قبل الرحيل
اتشحت اليوم "الشهباء" كما باقي المدن السورية حزناً على فراق هذه القامة الطربية والفنية الفريدة، بينما يرفض أبناء مدينته إطلاق كلمة الرحيل عليه بعد نعيه على صفحات التواصل الاجتماعي، التي ضجت بصور له وغطى اللون الأسود على العالم الافتراضي الواسع في حزن لمن لقب على الدوام بـ"قلعة حلب الثانية" لمكانته في أرواحهم ومحبتهم.
وشهدت السنوات الأخيرة من عمر صباح فخري انكفاءه عن الحفلات والموسيقى كاحتجاج صامت عما أصاب بلاده خلال العقد الأخير من خراب وتدمير، وخصوصاً مدينته حلب التي دفعت ضريبة باهظة في الحرب، وعن هذا استعار مرة عبارة أبي حيان التوحيدي فقال، "سأموت وفي قلبي شيء من حلب".