Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

هل حسن "فيسبوك" جودة صداقاتنا أم دمرها؟

"فيسبوك" غير معالم الصداقات - للأفضل والأسوأ، يقول إيلي غوتليب، لكن علاقاتنا الأقوى والأوثق – بأصدقائنا الحميمين والمقربين – تبقى قائمة وجميلة بمنأى عن خوارزميات زوكربيرغ

"الصداقة وليدة الممارسة والأداء أسوةً بغيرها من التفاعلات البشرية" (غيتي)

أيام عصيبة عاشتها "شركة فيسبوك" في الأسابيع القليلة الماضية. ففي يوم الأحد، 3 أكتوبر (تشرين الأول)، كشفت فرانسيس هوغن المستور عنه في مقابلة موسعة مع فريق برنامج "60 دقيقة" (60 Minutes) انتقدت فيها سياسة الشركة إيلاء الربح المادي الأولوية القصوى على حساب السلامة العامة. وفي يوم الاثنين، 4 أكتوبر، تعطلت خدمات موقع "فيسبوك" وتطبيقي "واتساب" (WhatsApp) و"إنستغرام" (Instagram) - المملوكة جميعها لـ"شركة فيسبوك" - لعدة ساعات حول العالم. وفي يوم الثلاثاء، 5 أكتوبر، مثلت هوغن أمام الكونغرس الأميركي، داعيةً إلى رفع السن القانونية لاستخدام شبكات ومواقع التواصل الاجتماعي من 13 إلى 17 عاماً.

ويأتي الحدث الأخير ليتوج شهراً صعباً بالفعل على "فيسبوك"، كانت بدايته في منتصف سبتمبر (أيلول)، لما همت صحيفة "وول ستريت جورنال" بنشر سلسلة من المقالات الاستقصائية تحت عنوان "ملفات فيسبوك" (Facebook Files) أكدت فيها دراية عملاق التواصل الاجتماعي بالأضرار التي تسببها منصاته وتطبيقاته وبذله جهوداً جبارة في سبيل إبقاء هذه المعرفة طي الكتمان.

وأماطت السلسلة اللثام عن أمور كثيرة تضمنت: المعاملة المميزة التي تخص بها "فيسبوك" مستخدمي شبكاتها من المشاهير فتتيح لهم نشر محتوى من النوع الذي يمكن أن يؤدي إلى تعليق حسابات المستخدمين العاديين، محاولات التستر على التأثير السلبي لـ"إنستغرام" على رفاهية المستخدمين اليافعين، عدم إصلاح خوارزمية "فيسبوك" بالشكل الذي يقلل من انتشار المحتوى الضار وغير اللائق، التصدي بصورة غير فعالة لتحذيرات الموظفين بشأن تعرض منصات الشركة للاستغلال من قبل عصابات المخدرات وتجار البشر.

وليس انتقاد "فيسبوك" بالشيء الجديد. فمنذ تأسيسها عام 2004 وأصابع اللوم تلاحقها وتحملها من وقت لآخر ذنب العلل الاجتماعية المعاصرة، نذكر من بين هذه العلل على سبيل المثال لا الحصر: الأخبار الكاذبة، ونشر الصور العنيفة والإباحية، والاستقطاب السياسي والانحطاط الأخلاقي، والرقابة، وإساءة استخدام البيانات الخاصة لتحقيق مكاسب تجارية، وارتفاع معدل الإصابة باضطرابات صورة الجسد والقلق والاكتئاب بين المراهقين.

ولو بدت لك هذه القائمة الجزئية طويلة بشكل غير معقول، تذكر الامتداد غير المسبوق لـ"شركة فيسبوك" التي تبلغ قيمتها تريليون دولار، ولديها أكثر من 3 مليارات مستخدم في مختلف أقطار العالم. ففي الولايات المتحدة وحدها، يمتلك نحو 70 في المئة من مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي حسابات "فيسبوك" يسجل معظمهم الدخول إليها مرة واحدة على الأقل يومياً. وإذا سبق لأحدكم أن شارك صورةً له وهو يتناول الغداء أو عدل صورةً ذاتية أو تمنى عيد ميلاد سعيد لشخص لم يره منذ 20 عاماً ولا بأس إن لم يره على مدى الـ20 عاماً القادمة، فهذا يعني أن "فيسبوك" أثر فيه، سواء أكان حسابه نشطاً أو لم يكن، ذلك أن طرق التفاعل هذه، التي أصبحت شائعة الآن، لم تكن لتوجد لولا المنصات التي ابتدعتها الشركة التكنولوجية الرائدة.

ونحن لا نتكلم هنا عن امتداد "فيسبوك" وحسب، بل عن مدى انتشاره كذلك. فمع انتقال تطبيقات الوسائط الاجتماعية من أجهزة الكمبيوتر إلى الهواتف الذكية، بات استخدامها طبيعةً ثانية. وقد يبدو لزائر من كوكب المريخ أن الهواتف الذكية هي طرف من أطراف جسم الإنسان أكثر منها جهازاً. فكلنا يحملها معه أينما ذهب، وكلنا يولي الأصوات التي تصدر عنها اهتماماً مستمراً، وقلما يغلقها. وبالنسبة إلى كثيرين بيننا، التحقق من منشورات وسائل التواصل الاجتماعي هو أول شيء يقومون به عند الاستيقاظ وآخر شيء يفعلونه قبل الخلود إلى الفراش.

ولو كانت هناك أي شكوك حول المكانة المهمة التي يتربع عليها "فيسبوك" و"واتساب" و"إنستغرام" في حياتنا اليوم، فالعطل الذي طرأ على خدمات هذه الأخيرة أخيراً أسكتها جميعاً، إذ في خضمه، عاش كثيرون تجربةً مقلقة بقدر تجربة انقطاع الكهرباء أو المياه: عجز مفاجئ مصحوب بشعور غريب بأن العالم ليس على ما يرام وذعر متنام حيال كيفية التأقلم مع الوضع الجديد إذا لم تستأنف الخدمة العادية في وقت قريب.

ومع هذا كله، غاب موضوع الصداقة غياباً ملحوظاً عن المناقشات الأخيرة حول تأثير "فيسبوك" الهائل على حياتنا.

وتتمثل المهمة المعلنة لـ"فيسبوك" في "تمكين الأشخاص من بناء مجتمعاتهم وتقريب شعوب العالم من بعضها البعض". في البدء، كان "فيسبوك" مجرد وسيلة للتعرف على الوجوه في حرم الجامعات وكانت بنيته التحتية قائمة على الاتصالات التي يقيمها الطلبة فيما بينهم، لكن السؤال كيف وصل به الأمر إلى درجة التأثير في العلاقات الفردية الأساسية التي صمم لدعمها، وكانت السبب في نموه ونجاحه التجاري؟

منذ ما يزيد قليلاً على خمس سنوات، ولما بلغ "فيسبوك" مرحلة وسيطة من النمو، ضربته عاصفة إعلامية هوجاء بسبب هذا الموضوع بالذات. آنذاك، بدا محررو الأخبار وكأنهم يتنافسون على العنوان الأكثر إثارة. وفي حين اكتفت "نيوزويك" بنشر دراسة مفادها أن "أصدقاء "فيسبوك" هم أصدقاء مزيفون"، حرصت "اندبندنت" على عرض نتائج الدراسة إياها، لكن بطريقة أكثر كفاءة، حيث أرفقت عبارة "كل صداقات "فيسبوك" مزيفة تقريباً" بالعنوان الفرعي التالي: "يمكنك الاعتماد على أربعة من أصدقائك فقط، والباقي لا يعبأ حتى لو أصابك مكروه." أما موقع "mic.com"، فكلل أخباره بعنوان، هو الأفضل برأيي: "يقول العلم إن خمسة فقط من أصدقائك على "فيسبوك" يهتمون لأمرك".

لكن العلم لم يؤكد شيئاً من هذا القبيل. والحقيقة أن الدراسة التي أشارت إليها العناوين أعلاه تظهر العكس تماماً تقريباً. فعلى ضوء مقارنتها بين الشبكات الاجتماعية عبر "فيسبوك" وتلك غير المتصلة بالإنترنت، وجد عالم الأنثروبولوجيا التطوري روبن دنبار وزملاؤه أن حجم الشبكات الاجتماعية غير المتصلة بالإنترنت وبنيتها هي نفسها عبر الإنترنت. فالأشخاص يميزون بين الأصدقاء الحميمين والمقربين والبعيدين عبر "فيسبوك" كما يميزون بين الأصدقاء "في الحياة الواقعية".

وإذا كان اسم روبن دنبار مألوفاً لديك، فالسبب على الأرجح أنك قرأت عن "رقم دنبار" في كتاب "نقطة التحول" (The Tipping Point) لـمالكوم غلادويل. وهذا الرقم، 150، هو الحد الأقصى المفترض لحجم مجموعات الصداقة البشرية أو ما يطلق عليها دنبار "الشبكات الاجتماعية الشخصية". ويظهر أن هذا الحجم متعارف عليه في العديد من المجتمعات البشرية، بما في ذلك: مجتمعات الصيادين والقرى التقليدية ووحدات الجيش الحديثة.

وبصراحة، أعتقد أن "رقم دنبار" تسمية خاطئة إلى حد ما والأفضل أن تستبدل بـ"أرقام دنبار" في صيغة الجمع. فبحسب "فرضية الدماغ الاجتماعي" لدنبار، تتمحور الشبكات الاجتماعية البشرية حول الفرد على شكل سلسلة من الدوائر المركزية، كل دائرة منها أكبر من سابقتها بمعدل ثلاث مرات: "زمرة الدعم" وتتألف من نحو خمسة أصدقاء حميمين، "مجموعة التعاطف" وتضم نحو 15 صديقاً مقرباً، 50 صديقاً جيداً، 150 صديقاً بعيداً، 500 معارف، و1500 شخص يمكن تسميتهم بالاسم. وقد حاول دنبار تفسير هذا الاصطفاف في حدود قدرة الدماغ، والتي يمكن أن تؤدي إلى مباراة فاصلة بين الكمية والنوعية.

لماذا إذاً كل هذه العناوين المثيرة حول "الأصدقاء المزيفين"؟ فكلمة "مزيف" لم ترد أبداً في بحث دنبار وزملائه وبالنسبة إليهم، الصداقات عبر "فيسبوك" حقيقية بقدر الصداقات غير المتصلة بالإنترنت. ومن هنا يمكن القول إن الأصدقاء الخمسة الذين يهتمون بك عبر الإنترنت هم على الأرجح نفس الأشخاص الذين يكترثون لأمرك في وضع عدم الاتصال.

من المحتمل أن يكون كتاب العناوين قد لجأوا إلى مصادر أخرى وسط أجواء من الذعر الأخلاقي. أحدها هو شعور ذاتي لدى كثيرين بأن صحة الإنسان العامة تأثرت وتتأثر سلباً بالوسائط الاجتماعية. وصحيح أنها تتيح لنا التواصل بشكل أكثر انتظاماً مع عدد أكبر من الأشخاص، لكن قلة قليلة من تفاعلاتها مرضية بقدر التفاعلات غير المتصلة بالإنترنت. والمصدر الثاني هو القلق العام من التلاعب اللغوي الذي يمكن أن يحول أي جهة اتصال على "فيسبوك"، مهما كانت بعيدة، إلى "صديق". وبناءً عليه، فإن معظم "أصدقائنا" على "فيسبوك" هم مجرد معارف لا "أصدقاء حقيقيين". وهذا التفكير هو بحد ذاته قفزة قصيرة (ومضللة) باتجاه استنتاج مفاده أن أصدقاء "فيسبوك" ليسوا حقيقيين.

ومن بين المصادر الأخرى أيضاً موجة "التشاؤم الإلكتروني" العامة التي كانت تكتسب زخماً وقت صدور الدراسة. وفي ظل هذه الموجة، لعبت الكتب الشعبية ومؤتمرات التكنولوجيا والترفيه والتصميم، على غرار كتاب "لوحدنا سوية" (Alone Together) للبرفيسورة شيري توركل من "معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا" (MIT)، دوراً رائداً في إثارة المخاوف بشأن ميل وسائل التواصل الاجتماعي إلى عزل الناس عن بعضهم البعض وتقليل قدرتهم على التفاعل الهادف. وازدادت هذه المخاوف حدةً وتفاقماً مع كشف عالم الاجتماع في ولاية سان دييغو، جان توينغ، النقاب عن وجود أدلة على ارتفاع حالات الوحدة والقلق والاكتئاب بين مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي الشباب في كتابه "جيل الإنترنت" (iGen)، تلاه عدد خاص من مجلة "هارفرد بيزنس ريفيو"(Harvard Business Review)، حذر فيه الجراح الأميركي السابق فيفيك مورثي من "وباء وحدة" وشيك.

إذاً، من المحق؟ هل خفض "فيسبوك" فعلاً جودة صداقاتنا؟ أتراه ترك الأمور على حالها أم حسنها للأفضل؟

للإجابة عن هذه الأسئلة، علينا أولاً أن نوضح مفهوم الصداقة، ومن ثم علينا أن ندرس بدقة الطريقة التي أثرت بها وسائل التواصل الاجتماعي على صداقاتنا. فلتشدوا الأحزمة وتستعدوا، لأن أمامنا طريق طويل يبدأ برواية أرسطو عن الصداقة، ويمر باستكشاف أنماط مختلفة من الوجود معاً، فالنظر في العلاقات بين ممارسة الصداقة وتأديتها، وصولاً إلى دراسة ما تغير.

وفي روايته، ميز أرسطو بين ثلاثة أنواع مختلفة من الصداقة، منها الذي يقوم على المتعة، كأن نتقرب من أحدهم لأنه حلو المعشر أو لمجرد أننا نستمتع في القيام بنشاطات معه، مثل تجربة مطاعم جديدة أو تبادل صور صادمة. ومنها الذي يقوم على المنفعة والفائدة، كأن نصادق أحدهم لأن علاقاته العملية جيدة أو لأننا نذهب معاً في السيارة نفسها.

أما الصداقة الحقيقية، فهي صداقة الفضيلة، بحيث يحب الواحد منا هذا الصديق أو ذاك لما هو عليه - ولجوهره، ولأنه يرى فيه "انعكاساً لذاته" وشخصيته وسلوكه. ومن خلال مراقبته يتصرف بأسلوب مبهر أو الإصغاء إلى انتقاداته المحبة للأشياء التي كان بالإمكان فعلها بشكل مختلف، يتعلم كيف يصبح شخصاً أفضل. صدقوا أو لا تصدقوا، للأصدقاء الجيدين تأثير كبير وقدرة لا يستهان بها على تطويرنا كأشخاص.

لكن ارتقاء أرسطو بمعايير الصداقة الحقيقية يمنعه من تصنيف أنواع أخرى من الصداقة على أنها "مزيفة" أو "غير حقيقية". وحسب قوله، العلاقات الاجتماعية المزيفة أو غير الحقيقية "هي تشويه لتصورات الناس وإجبارهم على ذكر المتناقضات" والصداقات موجودة على شكل سلسلة متصلة الحلقات، فيها الروابط العميقة طويلة الأمد وفيها العلاقات السطحية والأكثر عفوية.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ومكانة كل علاقة في هذه السلسلة تحددها عوامل عدة، من قبيل الثقة والتبادلية. ففي الصداقات الحقيقية، "يحصل كلا الطرفين على ما يتمناه الواحد منهما للآخر". وكما يرد في شارة برنامج "فريندز" (Friends)، إذا كنت صديقاً جيداً، اتكل عليّ وثق بأنني سأكون في جوارك "عندما يبدأ المطر في الهطول... سأكون إلى جانبك كما كنت دائماً... لأنك موجود من أجلي أيضاً".

لكن أرسطو ذهب بهذه التبادلية إلى أبعد من ذلك. فبالنسبة إليه، لا تقتصر الصداقة الحقيقية على إمكانية الاعتماد على الآخر في السراء والضراء، بل تتعداها لتشمل إمكانية تشارك حلو الحياة ومرها بصورة طبيعية ومن دون حسابات. وانطلاقاً من هذا التفكير، يرى أرسطو أنه لا يمكن للمرء أن يمتلك سوى عدد قليل جداً من الأصدقاء الحقيقيين.

وما يريده الصديق حقاً ليس مجرد أن يشعر بالألم مع صديقه، بل أن يشعر بذات الألم [...] ويسري المبدأ نفسه على الفرح: ميزة الصديق بأن يفرح لفرح صديقه، لا لسبب آخر [...]، والصداقة المستقرة تقوم على الثقة، والثقة لا تأتي إلا مع الوقت [...]، وعليه، يمكن القول إن الصداقة الحقيقية ليست شيئاً يمتد إلى عدد كبير من الأشخاص، إذ من الصعب جداً خوض تجربة العيش مع كل واحد منهم.

وهذا ينقلنا إلى بعد آخر للصداقة، ألا وهو الوجود سوية. فالأصدقاء يستمتعون برفقة بعضهم البعض ويريدون أن يكونوا معاً.

وثمة طرق مختلفة لوجودهم سوية، منها: التقارب الجسدي، الاهتمام والرعاية المتبادلين، النشاط المشترك، المعتقدات والاهتمامات والآراء والمواقف المشتركة.

لكن هذا لا يعني بالضرورة أن الصداقات لا تتكون وتدوم خارج إطار هذه الطرق. فالإنسان منا قادر على الحفاظ على صداقاته مهما طالت المسافات وسنوات الانفصال. كما أن الأمثلة كثيرة على صمود الصداقات في وجه رياح الانقطاع والاختلاف في الرأي والمعتقد والاهتمامات، لكن في غياب مستوى أدنى من التكاتف والتآزر بين الأصدقاء، تفقد الروابط قدرتها على الاستمرار وتتلاشى.

ولكل شخص تصوره المختلف عن التكاتف والتآزر بين الأصدقاء. ففي حين يأبى بعضنا مصادقة أشخاص لا يشاركونه المعتقدات الدينية أو الآراء السياسية نفسها، يجد بعضنا الآخر صعوبةً في الحفاظ على علاقته بالأشخاص الذين لا يراهم بانتظام.

وما يحتاج إليه أو يتوقعه الواحد منا من أصدقائه البعيدين ومعارفه العرضيين أقل بكثير مما يحتاج إليه ويتوقعه من أقرب المقربين. ولهذا يتغير مفهوم تحية رفع الحاجبين واعتبارها بتغير صفة من ألقاها. فلو أتت من مسافرين يشاركونك وسيلة النقل نفسها، فهي كافية ولو أتت من صديق عزيز في ردهة الوصول في المطار، فهي حتماً غير كافية.

ويسلط هذا المثل الضوء على جانب مهم آخر من جوانب الصداقة: الصداقة وليدة الممارسة والأداء أسوةً بغيرها من التفاعلات البشرية، بالتالي عندما أرفع حاجبي إلى زميل مسافر أو أحتضن صديقي المفضل، فإنني لا أشارك في فعل الاهتمام المتبادل وحسب، بل أؤديه كذلك - لكلينا ولكل من يراقبنا. ولا شك أن الأداء هو جزء لا يتجزأ من التفاعل، لكنه أيضاً وسيلتي لأعبر لصديقي عن أهميته في حياتي وعن مدى سعادتي بأن يعلم الجميع بذلك.

وقد تكون بعض أفعال الصداقة علنية أكثر من غيرها، لكن حتى تلك التي تحدث سراً ومن دون علم الطرف الآخر تتضمن بعض عناصر الأداء. فلو حاولت مثلاً نزع الوبر عن سترة صديقك من دون أن يراك أحد، هذا يعني بأنك تكن له الاهتمام والمودة وتريده أن يظهر بأبهى صورة.

وهذا الخليط من الممارسة والأداء غير مزعج عادةً، لكنه يمسي كذلك عندما يفقد توازنه الصحيح. تخيل كيف سيكون شعورك لو استقبلتك إحدى الصديقات بصوت عالٍ ودافئ أكثر من المعتاد أمام صديق تحاول إثارة إعجابه. هل ستشعر بأنك مستغل أو محط تقدير؟

فيما ننتقل من مجموعة إلى أخرى ومن تطبيق إلى آخر، تتحول حياتنا الاجتماعية إلى مسرحية هزلية بريطانية – أبواب تفتح وأخرى توصد، تصادمات وشيكة وتجاورات محرجة إلى ما لا نهاية.

ومع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي، تعطل كل عنصر من عناصر الصداقة المذكورة أعلاه. واتسعت عبر "فيسبوك" دائرة ونوعية من نعتبرهم أصدقاء لنا، الأمر الذي غير التوازن بين الممارسة والأداء وجعل مفهوم الوجود سوية أسهل في نواحٍ وأصعب في نواحٍ أخرى.

وبحسب اعترافات دنبار نفسه، فقد سمح لنا موقع "فيسبوك" بتوسيع الحلقات الخارجية لشبكاتنا الاجتماعية بشكل ملحوظ. كما سهل علينا كيفية هندسة هذه الحلقات لتضم بين 500 و1500 شخص والحفاظ عليها، وهذه سابقة في تاريخ البشرية. وقد تحققت بفضل التكنولوجيا الرقمية التي تمكننا من الاتصال الفوري بأشخاص بعيدين عنا جسدياً واجتماعياً. ونعني بهؤلاء الأشخاص، أصدقاء "فيسبوك" الذين لا نشك بعلاقتنا الحقيقية بهم وتربطنا بهم أواصر ضعيفة، لكن ثمة قوة في مثل هذه العلاقات، وكما ذكر عالم الاجتماع مارك غرانوفيتر في بحث عام 1973: إن كنت بصدد البحث عن وظيفة جديدة أو عن توصية لسباك محلي، جرب حظك مع الأشخاص الذين تربطك بهم علاقة ضعيفة عساهم يفيدونك أكثر من أصحاب الروابط القوية. لماذا؟ لأن المصادر التي يعول عليها أصدقاؤك المقربون هي نفسها مصادرك، على عكس الأشخاص الموجودين في النطاق الخارجي لشبكتك.

الخوارزميات والإشعارات مصممة خصيصاً لخطف انتباهك أطول فترة ممكنة، وحثك على النشر والإعجاب والتعليق من دون توقف... وفي ظل هذه الشروط، تخسر قدرتك على اتخاذ أي قرار بشأن الكيفية التي تمضي فيها وقتك ومع من وأين.

في المقابل، واتساقاً مع فرضية العقل الاجتماعي لدنبار، تستهلك صيانة الشبكة الاجتماعية قدراً كبيراً من الوقت والطاقة. والمعروف عن "شركة فيسبوك" أنها تجني الكثير من الأرباح من الوقت الذي تمضيه أنت وسواك مسمرين أمام منصاتها. من هنا تصميمها لخوارزميات وإشعارات تخطف انتباهك لأطول فترة ممكنة، وتحثك على تعقب أخبار الآخرين - النشر والإعجاب والتعليق وما إلى ذلك – ليلاً ونهاراً.

وهذا مرهق تماماً، لكن المشكلة الأكبر في الشروط التي تقوض قدرتك على اتخاذ أي قرار بشأن الكيفية التي تمضي فيها وقتك ومع من وأين، وتضعك تحت رحمة الخوارزميات وفرط نشاط الآخرين على الشبكة. والنتيجة: توزيعك على الأصدقاء المقربين والبعيدين اهتماماً أكثر عشوائية وتخصيصك وقتاً وطاقة أقل للتفاعلات غير المتصلة بالإنترنت.

بكلام آخر، تروج منصات "فيسبوك" لبعض أنماط الوجود معاً، وتثبط أخرى. وتعبر هذه التحيزات عن نفسها بطرق عدة تختلف باختلاف المنصة. لنأخذ مثلاً "نافذة العرض" العام في "فيسبوك"، بسببها، من الصعب على أي كان أن يضم إلى شبكته الاجتماعية من يخالفونه الرأي السياسي، فارتباطه بهم سيكون على مرأى من الجميع وسيظهر في سجل نشاطاته، وسيكون مصدراً محتملاً للإحراج.

وفي "واتساب" من الناحية الأخرى، قد يمر يومك وأنت تتنقل بين مجموعاته المختلفة وتكافح من أجل تبديل هويتك وسجلات اللغة بشكل فعال. وأنا متأكد من أنني لست الوحيد الذي أرسل صورة غير ملائمة للمجموعة الخطأ. فالأمثلة من هذا القبيل كثيرة وهي ما يطلق عليها عالم الاجتماع إرفينغ جوفمان "انهيار السياق" – الجمع المفاجئ وغير المريح بين الدوائر الاجتماعية التي نفصل بينها عادة. وفيما ننتقل من مجموعة إلى أخرى ومن تطبيق إلى آخر، تتحول حياتنا الاجتماعية إلى مسرحية هزلية بريطانية – أبواب تفتح وأخرى توصد، تصادمات وشيكة وتجاورات محرجة إلى ما لا نهاية.

ومع ذلك، يبدو لي أن أهم تأثير لـ"فيسبوك" على الصداقة هو إخلاله بالتوازن القائم بين الممارسة والأداء وتحويله مركز الثقل بشكل حاسم نحو الأداء. فعلى "فيسبوك"، الكل مكشوف، والكل واعٍ للانطباعات التي تحدثها تفاعلاته مع الآخرين في الشبكة، والصداقة باتت أكثر عمومية وأقل خصوصية. وهذا بدوره له تأثير خفي، لكن مهم، في قدرتنا على الحفاظ على الصداقات الحقيقية التي تكلم عنها أرسطو. فتركيزنا على الأداء يحول العديد من صداقاتنا عبر الإنترنت إلى معاملات للمتعة والمنفعة. كما أن لكل منا سُمعة شخصية يحافظ عليها. وبالنسبة إلى إعجاباتنا المتبادلة وتعليقاتنا وتدقيقنا في الأسماء، فهي جزء من اقتصاد معقد من الأخذ والعطاء والملاطفة والاستمالة، اقتصاد يتحول "الصديق" في كنفه إلى أكسسوار والصداقة القائمة على الفضيلة إلى صداقة قائمة على إشارات الفضيلة.

ومن المفارقات غير المقصودة في فضائح "فيسبوك" خلال الأسابيع القليلة الماضية، دحض مارك زوكربيرغ، على حسابه الشخصي على "فيسبوك"، لما أوردته "نيويورك تايمز" في تقرير عن أن لوح التزلج الذي استخدمه في مقطع فيديو كان قد نشره في الرابع من يوليو (تموز) كهربائي، "بينما كنت أضخه بقدمي". ففي ظل اتهام شركته باللجوء إلى استراتجيات مخادعة لتلميع سُمعتها وتبييض عيوبها، كان شغل زوكربيرغ الشاغل نفي الادعاءات القائلة بأنه استخدم تكتيكات مماثلة ليظهر بصورة أكثر إبهاراً.

ومن المثير للسخرية أيضاً أن الاتهامات الموجهة إلى شخص زوكربيرغ وشركته "فيسبوك"، هي، في نواحٍ عديدة، مجرد نسخ أكبر وأكثر قتامة من أنواع السلوك التي ينغمس فيها الكثير منا على تطبيق "فيسبوك": إعطاء الأولوية للأداء على الممارسة والانخراط في النرجسية تحت غطاء تعزيز العلاقات وبناء المجتمع.

حسناً إذاً، نعم، غير "فيسبوك" معالم الصداقة للأفضل والأسوأ، وكان الأفضل من نصيب الروابط الضعيفة والأسوأ من نصيب الروابط القوية. ومن حسن الحظ أن أقوى الروابط في حياتنا – أي الراوبط التي تجمعنا بالأصدقاء المفضلين وأكثر المقربين حميمية – لم تتأثر بـ"فيسبوك"، ولا تزال تحافظ على زخمها، ومرد ذلك ربما إلى اعتيادنا على التواصل مع محيطنا الضيق عبر وسائل التواصل الاجتماعي، ليكون مكملاً أو تمهيداً أو خدمة بديلة مؤقتة للاجتماع معاً وجهاً لوجه. ولذلك، فإن التحدي الأكبر الذي يواجهنا الآن هو حماية مثل هذه الصداقات من العادات التي نلتقطها عند التفاعل مع الآخرين عبر الإنترنت.

© The Independent

المزيد من تحقيقات ومطولات