لم تصل علاقة لبنان مع دول الخليج، لا سيما مع المملكة العربية السعودية، إلى هذا المستوى من التراجع. ولم يحصل في تاريخ هذه العلاقة، التي عمرها من عمر نشأة دولة لبنان الكبير وكانت دائماً قائمة على الاحترام المتبادل، أن يطلب من سفير لبنان لدى الرياض المغادرة، ويسحب في المقابل السفير السعودي الذي ستطول بحسب المعلومات إقامته هذه المرة في المملكة.
لقد شكلت إساءة وزير الإعلام جورج قرداحي إلى السعودية بدفاعه عن الحوثيين، النقطة التي أفاضت الكأس الملآنة. فمنذ تورط "حزب الله" في حرب اليمن ضد السعودية وتدريبه مجموعات في الضاحية الجنوبية وتهجمه الدائم على المسؤولين السعوديين، واستمرار عمليات تهريب "الكبتاغون" إلى الرياض، تراجعت العلاقة بين بيروت والرياض، مقابل صمت لبنان الرسمي، إن على مستوى رئيس الجمهورية أو على مستوى الحكومات المتعاقبة، التي اكتفت طوال الأزمة ببيانات غلب عليها الشعر والكلام عن العلاقات الأخوية مع محيط لبنان العربي، من دون أي إجراءات جدية تثبت تموضع لبنان في مكانه الطبيعي إلى جانب الدول العربية. حتى عندما وقعت الواقعة وصار لبنان في عزلة عربية بعد اتخاذ أكثر من دولة موقفاً شبيهاً بالموقف السعودي، ظهر لبنان الرسمي منقسماً بين محورين، ولم تنجح مساعي رئيس الحكومة نجيب ميقاتي لدفع قرداحي إلى الاستقالة، وهو الذي كان رفض حتى الاعتذار، بعد أن تحصن برفض "حزب الله" استقالته، وبدعم مطلق من الفريق المباشر الذي سماه في الحكومة أي "تيار المردة" حليف "حزب الله". علماً أن هناك من يعتبر أن أزمة قرداحي، وهو الحليف الوثيق لرئيس النظام السوري بشار الأسد، قد أعاد إلى لبنان ومن خلال طاولة مجلس الوزراء دوراً سورياً مدعوماً من الحلفاء الداخليين وفي مقدمهم "حزب الله" و"المردة".
الحكومة مهددة
اعتقد الرئيس ميقاتي أن بياناً مشتركاً بينه وبين رئيس الجمهورية ميشال عون يعتبران فيه أن كلام قرداحي لا يمثل الحكومة، وأن التذكير بتمسك حكومته بأفضل العلاقات مع الدول الشقيقة، يمكن أن يعالج الأزمة. وأخطأ عندما لم يفهم الإشارة التي أرسلتها الرياض باستدعاء سفير لبنان إلى الخارجية السعودية مباشرة بعد بيانه مع عون. وفي محاولة استلحاقية جاءت متأخرة، حاول ميقاتي إقناع وزير الإعلام بالاستقالة، لكن الأخير أبلغه أن قراره مرتبط بالمرجعية التي يمثلها في الحكومة، مكرراً لميقاتي أنه لم يخطئ. وتبلغ ميقاتي من الثنائي حركة "أمل" و"حزب الله" أن استقالة قرداحي ستتبعها استقالة الوزراء الشيعة من الحكومة، وبطبيعة الحال استقالة وزير الاتصالات المحسوب مع قرداحي على "المردة". ومقابل تهديد وزراء الشيعة بالاستقالة، هدد الرئيس سعد الحريري ورئيس "الحزب التقدمي الاشتراكي" وليد جنبلاط أنه إذا لم تحصل استقالة قرداحي فإنهما سيسحبان وزراءهما من الحكومة. وانضم رئيس "المردة" سليمان فرنجية إلى موقف "حزب الله"، ورفض من بكركي بصفته مرجعية قرداحي، استقالته "لأنه لم يخطئ وما عمل شي" كما قال، مؤكداً أنه رأى في كلام قرداحي تعبيراً عن رأي مواطن لبناني. وبين صداقة عائلته مع السعودية و"ضميره" اختار فرنجية، كما قال، الدفاع عن قرداحي رافضاً التعاطي السعودي مع لبنان بدونية.
الفرنسيون يجمدون استقالة الحكومة
أمام واقع انفجار الحكومة، تواصل ميقاتي، ليل الجمعة 29 أكتوبر (تشرين الأول)، مع الفرنسيين طالباً منهم المساعدة. وكشفت مصادر دبلوماسية أنهم طلبوا منه عدم الاستقالة، وتواصلوا مع الحريري وجنبلاط للهدف نفسه، بعد أن وعدوا بمحاولة معالجة الأزمة مع السعوديين. وفي انتظار ما ستؤول إليه المساعي الفرنسية، لجأ رئيس الحكومة إلى وساطة أميركية كلف بإجرائها وزير الخارجية عبد الله بو حبيب مع خلية أزمة وزارية شارك في اجتماعاتها وزراء الاقتصاد، والداخلية، والمالية، والتربية وعن القصر الجمهوري المدير العام أنطوان شقير.
وعقدت اللجنة اجتماعات بقيت غير مضمونة النتائج في ظل رفض السعودية الرد على الاتصالات اللبنانية، إن بشكل مباشر أو بالواسطة. وقد دعي إلى الاجتماع القائم بالأعمال في السفارة الأميركية لدى لبنان، ريتشارد مايكلز، وغادر بعد نصف ساعة من دون أي تصريح. وعلم أن الموقف الأميركي منسجم مع الفرنسي في رفض استقالة الحكومة تجنباً لتداعيات الاستقالة على الانتخابات النيابية التي يعول عليها المجتمع الدولي لإحداث التغيير. علماً أن مصادر دبلوماسية كشفت لـ"اندبندنت عربية" أن صندوق النقد الدولي، الذي يعول عليه ميقاتي لإنقاذ حكومته، قد أكد للجانب اللبناني أنه لن يمنح لبنان أي أموال قبل إجراء الانتخابات النيابية وبشروطه أي بالاستعانة بمئات المراقبين الدوليين، كما حصل في العراق.
التصعيد الخليجي مستمر
هل كان ما حصل قد حصل لو أن وزير الإعلام اعتذر بدلاً من عقد مؤتمر صحافي أكد فيه رفضه الاعتذار متمسكاً بحرية التعبير كمبرر للإساءة إلى السعودية؟
كثيرون يعتبرون أن إصرار قرداحي على موقفه وبيان "حزب الله" الداعم لرفض اعتذاره، مقابل البيانات الشعرية لرئيس الجمهورية والحكومة، زادت الطين بلة. ففي مؤشر واضح إلى أن قرار السعودية بسحب سفيرها وطرد السفير اللبناني لم يكن مقرراً من قبل، وعلمت "اندبندنت عربية" أن السفير السعودي وليد البخاري كان يحضر لزيارتين الأسبوع المقبل مع زملائه سفراء دول مجلس التعاون الخليجي بعد وصول سفير قطر الجديد. الزيارة الأولى إلى بكركي كانت مقررة، الثلاثاء، والزيارة الثانية إلى معراب يوم الأربعاء (27 أكتوبر) مع رئيس حزب "القوات اللبنانية" قبل ساعات من مغادرته بيروت. وكشفت مصادر مقربة من معراب أن بخاري أبلغ سمير جعجع أن اللقاء الذي كان مقرراً مع سفراء دول مجلس التعاون الخليجي في معراب، ألغي بسبب استدعائه إلى الرياض من قبل الديوان الملكي، وأن غيابه هذه المرة سيطول.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وسط هذه الأجواء، تجزم مصادر دبلوماسية بأن مهمة الفرنسيين لن تنجح في إقناع السعودية ومعها دول مجلس التعاون الخليجي بالتراجع عن موقفها حول لبنان، والذي عبرت عنه الرياض في البيان الصادر عن وزارة خارجيتها، وقد عكس عمق المشكلة التي تتخطى تصريح قرداحي. فالخارجية السعودية لفتت إلى أن السلطات اللبنانية مستمرة في تجاهل الحقائق وفي عدم اتخاذ الإجراءات التصحيحية التي تكفل مراعاة العلاقات. وركز البيان على دور "حزب الله الإرهابي" عبر سيطرته على قرار الدولة اللبنانية، ما جعل من لبنان ساحة ومنطلقاً لتنفيذ مشاريع دول لا تضمر الخير للبنان.
وفي هذا السياق، كشفت المصادر الدبلوماسية لـ"اندبندنت عربية" أن دول مجلس التعاون الخليجي تتجه إلى اتخاذ خطوات تصعيدية مشتركة وستفرض عقوبات على شخصيات لبنانية سياسية ورجال أعمال، ومن بينهم رجال أعمال نقلوا أموالهم من مصارف أوروبية إلى الإمارات خوفاً من العقوبات الأوروبية. وعلم أن دولاً عربية أخرى تؤيد السعودية في موقفها.
وتؤكد المصادر الدبلوماسية أن استقالة قرداحي لن تحل المشكلة مع لبنان.
أمام هذا الواقع، تبدو حكومة ميقاتي على المحك وسط تأكيد مصادره أن استقالته غير مطروحة حالياً، في وقت بدأت أصوات من داخل الطائفة السنية تطالب باستقالته معلنة تأييدها السعودية. وقد حمل الرئيس الحريري بشكل مباشر "حزب الله" مسؤولية ما يحصل، معتبراً أن السعودية ودول الخليج لن تكون مكسر عصا للسياسات الإيرانية في المنطقة.
اللبنانيون في الخليج يرفعون الصوت
ترك ما تضمنه البيان الصادر عن وزارة الخارجية السعودية من تمييز بين اللبنانيين المقيمين في السعودية وموقف السلطات اللبنانية ارتياحاً لدى هؤلاء. وصدر بيان مشترك عن مجلس التنفيذيين اللبنانيين ومجلس العمل اللبناني في أبو ظبي، وفي الكويت، وفي دبي والإمارات، وعن هيئة تنمية العلاقات الاقتصادية اللبنانية الخليجية. واستنكر البيان الكلام الذي وصفه بالمسيء الصادر عن وزير الإعلام اللبناني. وتحت عنوان "لقد طفح الكيل"، عبر البيان عن رفض تحويل لبنان إلى منبر للتهجم والإساءة إلى دول الخليج، أو لتهريب ممنوعات أو لتهديد أمنها واختراق سيادتها. ورفض البيان أي سياسة أو محور يخرج لبنان من بيئته العربية.
وأكد رئيس مجلس التنفيذيين اللبنانيين، ربيع الأمين، أن أكثر من 200 ألف لبناني يعلمون في السعودية باتوا يخافون على مصيرهم، مجدداً انتقاد رئيس الحكومة الذي بحسب رأيه لم يقارب الأزمة مع المملكة من الجانب السياسي، بحيث كان يفترض عليه أن يعود إلى إعلان بعبدا ومبدأ النأي بالنفس عن الصراعات، وجعل كل الأطراف اللبنانية تلتزم بسقف الحكومة. وشدد الأمين على أن خطابات الشعر والكلام المعسول غير المقرون بالأفعال لم تعد تنفع.