بعدما عانى الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب مما وصفه استبداد شركات التكنولوجيا عبر استبعاده من "فيسبوك" و"تويتر" و"يوتيوب"، جاء الإعلان عن عزمه إطلاق منصة للتواصل الاجتماعي ليثير تساؤلات حول مدى قدرتها على النجاح وسط عمالقة يسيطرون على السوق، ومدى انعكاس ذلك على المشهد السياسي في الولايات المتحدة قبل عام من موعد انتخابات الكونغرس النصفية، واشتعال المعركة حول تحقيقات الكونغرس مع عدد من مساعدي ترمب السابقين، فهل ستزيد عودة ترمب عبر منصته الجديدة المعارك الحالية اشتعالاً وتصب الزيت من جديد على نار الانقسام في المجتمع الأميركي، أم أن الرئيس السابق فقد جزءاً مهماً من جاذبيته ونفوذه ولن تفيد شبكته الاجتماعية سوى القليل؟
أسئلة وهواجس
على الرغم من أن إعلان الرئيس السابق دونالد ترمب عن خطط لتشكيل شركة عامة ستطلق منصة تواصل اجتماعي خاصة به لم يكن مفاجئاً بعدما ألمح بذلك من قبل، فإن توقيت الإعلان عن منصته وزعمه أنها ستخلق مساحة لمواجهة استبداد شركات التكنولوجيا الكبرى يثير أسئلة وهواجس عن كيفية انعكاس إطلاق هذه المنصة على المجتمع والسياسة في أميركا خلال الأشهر المقبلة، بخاصة أن تأثير ترمب في أتباعه ومؤيديه ما زال قوياً على الرغم من إقصائه عن "تويتر" و"فيسبوك" قبل أشهر.
فمن ناحية، يتزامن إعلان ترمب مع تصاعد ضغوط الكونغرس لاستجواب عدد من كبار مساعديه السابقين في البيت الأبيض حول اقتحام مبنى "الكابيتول هيل" يوم السادس من يناير (كانون الثاني) الماضي، الذي يعتبره ترمب مجرد تظاهرة من وطنيين أميركيين لكنه يخشى في الوقت ذاته من التأثير السلبي الذي يمكن أن تفرزه الاستجوابات والتحقيقات على نفوذه داخل الحزب الجمهوري وعلى صورته العامة في المجتمع الأميركي، كما يترافق الإعلان مع بدء ترمب جولاته لتأييد المرشحين الجمهوريين الذين يدعمهم لخوض انتخابات التجديد النصفي المقررة في نوفمبر (تشرين الثاني) 2022 التي ستكون معركة ساخنة واختباراً لمدى استمرار شعبيته وسط الجمهوريين.
رهان كبير
ولهذا يبدو رهان الرئيس الأميركي السابق على منصته الاجتماعية الجديدة كبيراً بالنظر إلى استمرار حرمانه من منصات التواصل الاجتماعي الضخمة مثل "تويتر" و"فيسبوك" و"يوتيوب"، التي طالما اتهمها بممارسة الرقابة والتضييق على وجهات نظر اليمين المحافظ في الولايات المتحدة، بينما تقول شركته الجديدة إنها ستكون مكاناً يشجع على حوار عالمي مفتوح وحر وصادق من دون تمييز ضد الأيديولوجية السياسية.
وفي حين سيتم إطلاق الإصدار التجريبي من منصة ترمب الجديدة التي أطلق عليها اسم "تروث سوشيال" بمعنى "الحقيقة"، الشهر المقبل، بما يمكن المستخدمين المهتمين من الاشتراك في المنصة، فإن الطرح الأوسع لها سيكون العام المقبل 2022، على الرغم من أن هناك أسئلة أثيرت حول الأمان الأولي للموقع.
ليست مجرد منصة
وإلى جانب ما يقوله ترمب من أهدافه حول هذه المنصة، يرى البعض أن طموحاته الواسعة للغاية تتجاوز مجرد منصة من منصات وسائل التواصل الاجتماعي، لأنه ينظر على الأرجح إلى صافي ثروة الرؤساء التنفيذيين الناجحين في وسائل التواصل القائمة، ومن المحتمل أن يستفيد أكثر لأنه يفهم قاعدته الانتخابية بشكل أكبر ويعرف كيف يتعامل معها.
وما يشجع الرئيس السابق على المضي قدماً في هذه الخطوة أن شركة "ديجيتال وورلد آكويسشن كورب" التي انضم إليها بصفته رئيساً لمجموعة ترمب للإعلام والتكنولوجيا، ارتفعت أسهمها فور الإعلان عن تشكيل المنصة الجديدة، بخاصة أن الشركة أعلنت أنها سوف تستثمر 293 مليون دولار في مشروع ترمب.
بداية مثيرة
واعتبرت صحيفة "واشنطن بوست" أن أي تقييم لمنصة ترمب التي خطط لإطلاقها يبدأ باسمها، الذي وصفته بأنه اسم يعكس شخصية ترمب ودأبه على إطلاق الصفات والنعوت المطلقة، إذ إن الرجل الذي قضى سنوات في منصب الرئيس محاط بمشاعر الإحباط بسبب تحقق وسائل الإعلام وشبكات التواصل الاجتماعي الأكثر انتشاراً في ما يقوله من معلومات، أطلق منصة "الحقيقة"، فبدلاً من أن يشارك المستخدمون رسائل "تويتر" أو "فيسبوك" أو أي اسم آخر، سوف يتشاركون رسائل تصف نفسها بالحقيقة المطلقة، وهو ما يطرح تساؤلات مثيرة، إذ كيف يمكن لوسائل الإعلام التي يهاجمها الرئيس السابق ويتهمها بأنها وسائل إعلام مزورة للحقائق، أن تدعي أن ترمب غير أمين عندما يأتي ما يقوله عبر نافذة "الحقيقة".
وبدلاً من اكتشاف مصطلح لإعادة مشاركة المحتوى المدون على شبكة "الحقيقة"، أطلق عليها موقع المنصة الجديد "إعادة الحقيقة"، لتقتبس بذلك اللغة نفسها التي استخدمها "تويتر" الذي كان حب ترمب الأول على وسائل التواصل الاجتماعي، وهو ما يعكس لحظة ترمب في إعادة بناء ما افتقده على "تويتر"، فإذا كان لا وجود له على هذه المنصة، فسوف يصنع "تويتر" الخاص به وسيكون هناك ملكاً.
الصواب السياسي
ولا تنفصل تسمية المنصة الجديدة عن مبدأ "الصواب السياسي" الذي يعتقد ترمب أنه يمثله، ذلك أن شعار "اجعل أميركا عظيمة مرة أخرى" الذي رفعه ترمب، متجذر في فكرة أن الولايات المتحدة تغيرت نحو الأسوأ، لكن هذا الصواب السياسي، الذي يطلق عليه الآن "ثقافة الإلغاء" لأنها تلغي الطرف الآخر، تغلغل في فكر الأغلبية البيضاء من أنصار ترمب، وبخاصة الرجال البيض، الذين أصبحوا أسرى لمعيار جديد غير عادل، إذ يشعرون، حسبما وجدت استطلاعات الرأي بانتظام، أنهم يتعرضون للتمييز مثلهم مثل الأميركيين السود أو "اللاتينوز" الذين تعود أصولهم لأميركا اللاتينية، وهو ما أبعد هؤلاء عن البقاء ضمن محادثة وطنية أكثر شمولية في الولايات المتحدة، وتفضيلهم خطاب التمييز ضدهم الذي أحب ترمب استخدامه على "تويتر".
نتاج الماضي
وبفضل نهج ترمب على وسائل التواصل الاجتماعي، أصبحت حملة عام 2016 لحظة ناصعة لما يمكن أن يعتري هذه الصناعة من خلل، فقد وجد "فيسبوك" نفسه بؤرة للمعلومات المضللة، وامتلأ موقع "تويتر" بمعاداة الديانات والأعراق الأخرى وسوء المعاملة، وغالباً ما تركز هذا الأمر في ما أصبح يعرف باسم حركة "اليمين البديل"، فقد استخدم ترمب "تويتر" لمهاجمة الناس والإساءة إليهم حسبما تقول "واشنطن بوست"، وردد أتباعه هذا النمط، ما دفع في النهاية "فيسبوك" و"تويتر" إلى بذل جهود جديدة للتحكم في ما يتم تقديمه على منصتيهما، بما في ذلك إجراء تعديلات وعمليات حظر متدرجة على نشاط الذين اتهموا بأنشطة عدائية ومسيئة، قبل أن يواجه موقع "تويتر" اتهامات بالتحيز ضد تيار المحافظين.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
غير أنه لم يكن هناك أي دليل قوي على أن" تويتر" و"فيسبوك" استهدفا بشكل غير متناسب اليمين السياسي بسبب سياساتهما، فقد منح "فيسبوك" أصواتاً بارزة من اليمين مساحة واسعة، كما أن "تويتر" واجه مشكلة في رسم خط واضح بين الخطاب المتطرف والسياسيين اليمينيين على حد وصف مصدر في "تويتر" لموقع "فايس نيوز"، ولكن بما أن هذه النقطة كانت إلى حد كبير تضر بمشاركات الأصوات البارزة من البيض المحافظين، فإن فكرة الرقابة على هذه الأصوات ظلت عالقة.
هل ستنجح؟
ومع ذلك، يظل السؤال الأهم هو: هل سيحقق ترمب مبتغاه من إطلاق منصته الجديدة؟ بالنسبة إلى كثيرين من المراقبين، فإن المنصة الجديدة سوف تمنح ترمب وقاعدته مكاناً يمكنهم فيه أخيراً، التحرر من قواعد المحادثة التي قيدتهم في "تويتر" و"فيسبوك"، وستكون هذه هي أميركا العظيمة التي سعوا إليها مرة أخرى، حيث يمكن لمستخدم ما أن يتهكم على شعب آخر حينما يشاء أو يشارك أصدقاءه على الشبكة شيئاً سمعه عن لقاح فيروس كورونا، حتى لو كان مضللاً من دون مواجهة أي اتهامات، لكن ما لا يمكنهم فعله هو انتقاد شبكة "الحقيقة" الاجتماعية نفسها، إذ تحظر شروط وأحكام الموقع استخدامه للاستخفاف أو التشويه أو الإضرار بالموقع أو المستخدمين على منصته.
غير أن هذا الموقع سيشكل تحدياً أكبر مما كان يدركه ترمب في البداية، إذ سيكون لديه مجتمع هو الذي يسيطر عليه ويتحكم فيه، صحيح أنه ليس من الواضح حجم الاستمتاع الذي سوف يستشعره المستخدمون في موقع يعد أشبه بحفل زفاف كبير يجتمع فيه أفراد الأسرة من أجزاء مختلفة من البلاد وذوي الأيديولوجيات المتباينة للدردشة، ولكن من شبه المؤكد أن هذا سينتهي في الغالب مثل أحد التجمعات الجماهيرية المؤيدة لترمب، وعلى الرغم من أن المسيرات الداعمة له تحتوي على عناصرها المسلية للجماهير، فإن الناس بعد ساعة أو أكثر، يبدؤون في الشعور بالملل وتنقطع متابعتهم.
وفي حين لوحظ أن ارتفاع عدد المحتفين بالجناح اليميني ارتفع على "تويتر" في الماضي من خلال مهاجمة شخصيات يسارية أو تقدمية من الديمقراطيين، إلا أنه من المرجح ألا يكون هناك الكثير من النشاط من خارج المؤيدين لترمب، ما سيفقد أنصاره الدافع لإعادة نشر الهجمات عبر ما يسمى "إعادة الحقيقة".
تحديات ضخمة
يقول دومينيكو مونتانارو من شبكة (أن بي آر) إن المشروع بأكمله من الصعب تحقيق النجاح فيه نظراً إلى أسباب عدة، من بينها التنافس مع التأثير الهائل والقدرة على الوصول الذي تتمتع به المنصات الحالية، إذ إن "تويتر" يضم نحو 200 مليون حساب بينما يشمل "فيسبوك" 2.8 مليار حساب، بينما لم يتمكن أي من المنصات المحافظة الأخرى من الحصول على الكثير من الشعبية والمتابعة مثل "جيتر" الذي وصل إلى 85 ألف حساب فقط، و"بارلر" الذي لم يصل إلى مليون حساب، ولا يزال من غير الواضح أن عالم وسائل التواصل الاجتماعي المحافظ كبير بما يكفي لدعم منصة جديدة.
ويتمثل السبب الثاني في أن دونالد ترمب لم يعد رئيساً، وعلى الرغم من أنه ما زال اللاعب الأكثر شهرة وقوة في سياسة الجمهوريين، فإن حظره من "تويتر" و"فيسبوك" و"يوتيوب" قلص قدرته على القيادة والتوجيه بشكل كبير، ويعكس تراجع البحث عن اسم ترمب على "غوغل" إلى أقل مستوى منذ 2015 أحد المؤشرات التي ينبغي أن تؤخذ في الاعتبار.
أما السبب الثالث فهو أن ترمب لم ينجح العديد من مشاريعه السريعة في الماضي، ويواجه مشكلات مع ترسيخ علامته التجارية الخاصة في أعقاب رئاسته والعنف في السادس من يناير، وبالتالي، فإن نطاق تأثيره من المرجح أن يكون محدوداً.
فرص ممكنة
ولكن، على الرغم من ذلك فإن هناك عوامل أخرى يمكن أن يستفيد منها ترمب وعلى رأسها أداء الرئيس جو بايدن والديمقراطيين في الكونغرس، وما إذا كانت مشاريعهم العملاقة للبنية التحتية والمشاريع الاجتماعية ستنجح في تعضيد شعبيتهم أم ستصب في صالح ترمب والجمهوريين، بخاصة مع استمرار ارتفاع معدلات التضخم وضعف التوظيف وإمكانية زيادة الضرائب على الشركات.
ويظل هناك سؤال آخر ينتظر الجواب وهو الدور الذي قد تلعبه المنصة إذا قرر ترمب الترشح للرئاسة مرة أخرى في عام 2024، وما إذا كانت المنصة سوف تكون أداة فعالة في يد المرشح الرئاسي الجمهوري كما كانت "تويتر" أداة فعالة في انتخابات 2016 و2020.